إنهم يختصرون الوطن
بقلم: د. عبد الستار قاسم *
كنت أظن أنني على وعي كبير باتفاق أوسلو وما تبعه من اتفاقيات إلى أن قررت
أن أبني بيتا لي (الملك لله) في مدينة نابلس. طلبت مني بلدية نابلس أن أقدم
تعهدا مصادقا عليه من كاتب عدل المدينة بألا أقوم بتخريب أي ملكية عامة مثل
مواسير الماء والمجاري أثناء إعداد الأرض للقواعد. حملت نفسي إلى مبنى
المحكمة، فطلب مني كاتب العدل طلبا غريبا. قال لي أنه لا يستطيع أن يصادق
على تعهدي إلا إذا حصلت على قرار من محكمة بداية نابلس يسمح لي بالبناء في
المدينة. وشرح لي بأن مكان سكني في الهوية ليس نابلس، ولا يجوز لمن يحمل
هوية ذات سكن معين أن يبني بيتا في مكان آخر إلا بقرار من المحكمة. سألته
فيما إذا كان هذا قانونا يسري على مختلف المناطق، فأجاب بالإيجاب. تكرر ذات
الطلب عند تقدمي بطلب للحصول على اشتراك كهربائي. طلبت البلدية تعهدا بألا
أقوم بتزويد أي جار بالكهرباء، فطلب كاتب العدل مني الحصول أولا على موافقة
محكمة البداية بأن لي الحق بالحصول على اشتراك.
لم أجد صعوبة في الحصول على قرار المحكمة. عدت إلى البلدية أصرخ في وجوههم
حول هذا الإجراء، لكنهم استغربوا الأمر. موظفو البلدية لا يعرفون عن هذا
الأمر، وكنت أنا الحالة الأولى أمامهم التي تضع المسألة على الطاولة. لاحقت
الموضوع على مستوى الضفة الغربية ووجدت أن المسألة لا تقتصر على نابلس. إنه
اتفاق أوسلو اللعين الذي وقعت عليه سلطة فلسطين وما زالت تتغنى به على أنه
إنجاز عظيم من إنجازات الثورة.
شعرت بمرارة شديدة إزاء هذا الأمر الجلل. إنني أفهم حق الإدارة أن تعرف
عناوين المواطنين، وأتفهم ضرورة قيام المواطن بإبلاغ الإدارة المعنية عن
تغيير مكان سكنه، لكن دخول المحكمة على الخط يثير الشكوك والتساؤلات. هل
تقلص وطني فعلا إلى مكان سكني فقط؟ وهل اضمحلت حريتي إلى درجة الاستنجاد
بالمحكمة؟ وماذا لو رفضت المحكمة؟ وماذا لو تقدم أحد إلى المحكمة باعتراض
ضد حريتي في بناء بيت في أي مكان من موطني؟ وماذا لو رأى القاضي أن راحتي
تكمن في العودة إلى مسقط رأسي، أو في عدم مجاورة أناس ليسوا من أقاربي؟ لقد
كنت محظوظا في أن القاضي يشعر بالانتماء، لكن غيري قد لا يلاقي ذات الحظ
إذا تغير القاضي خاصة في ظل التدهور الذي تشهده الأرض المحتلة عام 1967
بسبب فساد السلطة.
الأهم من ذلك، ماذا لو اعترضت إسرائيل على تغيير مكان سكني ودعت اللجنة
القانونية الفلسطينية-الإسرائيلية المشتركة للانعقاد؟ للطرف الصهيوني حق
النقض وبإمكانه أن يمنعني من البناء في المكان الذي أختاره في موطني
وبموافقة السلطة الفلسطينية. لقد نجوت من هذا الاحتمال، لكنني على يقين بأن
المعلومات حول مسكني الجديد سيتم نقلها إلى الصهاينة بالطرق الرسمية، هذا
فضلا عن جهود الجواسيس غير الرسميين.
إنني أسكن في مدينة نابلس منذ أربع وعشرين سنة. لم يمنعني الاحتلال من ذلك،
لكنه فرض علي الإقامة الجبرية في منطقة طولكرم. رفض تنفيذ الإقامة الجبرية
في نابلس، وأصر على إقامتي في مسقط رأسي بعيدا عن أسرتي، ولكن بين إخوتي.
سألته فيما إذا كان تغيير عنواني سينفعني فأجاب بالسلب لأنه أراد أن يبعدني
عن نابلس ولو مؤقتا. ومن الناحية الإدارية، كانت مخابرات طولكرم تقوم
باعتقالي، وحاكم عسكري طولكرم يقوم باستدعائي. لكنه لم يطلب مني أبدا
الحصول على إذن أو قرار من المحكمة للسكن في نابلس.
اتفاق أوسلو لا يقتصر فقط على ما هو معلن، وواضح أن التجارب تكشف عن قضايا
كثيرة سرية غير منشورة. وكلما تعمقت تجربة الإنسان الفلسطيني من النواحي
الإدارية يكتشف مدى تغلغل اتفاق أوسلو في مختلف شؤوننا اليومية والخاصة.
ويبدو لي في كثير من الأحيان أن التقييدات الإدارية على الشعب الفلسطيني في
ظل السلطة قد أضحت أكثر تعقيدا مما كانت عليه في عهد الاحتلال.
تحدثت هنا عن نقطة واحدة من المهازل الأوسلوية، لكنني لم أتحدث عن
التعقيدات الإدارية التي تضعها البلدية أمام المواطنين. تخيلت بسبب كثرة
الطلبات الرسمية أن علي أن أستأجر غرفة داخل البلدية وأن أملأ جيوبي
بالنقود لكي أفي بالإجراءات الإدارية والرسوم المفروضة. هناك إثقال كبير
ومذل للمواطن الذي يريد أن يبني بيتا. وقد راودتني نفسي مرارا أن أتخلى عن
فكرة بناء بيت. كنت أرى عبر السنين أن منظمة التحرير الفلسطينية لا تشجع
البناء في الأرض المحتلة عام 1967، لكنني الآن أقرب إلى اليقين بأن السلطة
الفلسطينية تثبط همم الفلسطينيين عن البناء، أو، على الأقل، لا تقوم بأي
عمل تشجيعي ينافس الاستيطان الصهيوني.
يجد المستوطن الصهيوني تسهيلات كثيرة جدا من أجل تشجيعه على الاستيطان. يجد
القروض الميسرة على مدى عشرات السنين، ويجد البنية التحتية ووسائل الترفيه
ومصادر الرزق، الخ. يعي الكيان الصهيوني أن الصراع بالدرجة الأولى يتعلق
بالأرض، وهو يعمل بشكل مستمر على زراعة الأرض بالشجر والحجر. إنه يتمدد
أفقيا على الأرض بالزراعة وببناء البيوت ويقيم المستوطنات، الخ.
لا يطلب الفلسطيني من السلطة الفلسطينية تلك الامتيازات التي يقدمها الكيان
الصهيوني لمستوطنيه، لكنه يطلب عدم إثقاله بمتطلبات تعيق رغبته وقدرته على
بناء مسكن. هذا الطلب ما زال بعيد المنال.
* استاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية- نابلس، ومرشح للرئاسة
الفلسطينية.
(موقع أمين) |