في دراستنا الأكاديمية
لماهية التفاوض، وآلياته يجب أن يستعد المفاوض لمواجهة كافة الأنماط
البشرية المتنوعة، ذات الدلالات المتباينة، ويتوقف ذلك على محددات
كثيرة يحسمها عاملا الزمان والمكان والحدث ذاته، ولكن التفاوض مع أمي
تنهار معه كل الأسس الدراسية، فتبدأ فلسفة الصمت أمام سياج شخصيتها
القوية، وبصيرتها النافذة، وإيمانها الوقاد.. اقترحت والدتي أن نبقى
سويا في العريش حتى الصباح، في أي فندق، ثم أعود أنا للقاهرة ويعودون
هم لغزة.. ولكن هيهات، لم يتمكنا من إقناعي، فقد استخرت الله، وقررت
دخول غزة.
صرخ أخي: كيف ستعبرين
الحوائط الإسمنتية والأسلاك؟ كيف تتسلقين الحائط الحديدي؟!.
قلت: وكيف تسلقت أمي ذلك وقد
قاربت الستين من عمرها؟.
قال: أنا حملتها.
قلت: إذن احملني أنا كمان
"شو" المشكلة.
رد: نخشى عليك الدخول بطريقة
غير قانونية، نخشى أن يعرضك هذا للضرر.
قلت: أي قانون هذا الذي
يمنعني من العودة إلى وطني، أو حتى زيارته، أي قانون هذا إلى يحرمني من
زيارة أهلي؟!.
قال: إنه قانون الغابة،
قانون المحتل، قانون القوى المستأسدة.
قلت: فليكن قانون الغابة.
قال: لذلك ستعودين، نخشى
عليك من حيوانات الغابة.
قلت بإصرار: لن أعود وسوف
أدخل معكم، وأتسلق الحوائط مثل أمي، وأسجد لله شكرا على تراب غزة، وأرى
إخوتي.
حسمت أمي الأمر، ونظرت
إلينا، وقالت: إذن هيا بنا نأخذ سيارة.
لا تتعدى المسافة من العريش
لرفح نصف ساعة ولكن لأننا ندخل عبر طرق التفافية وصل الوقت إلى ما يقرب
من ساعتين ونصف، وبدأنا رحلة التسلق عبر الأسوار، وفي لحظة أصبحنا في
رفح الفلسطينية.. تساءلت: من المسئول عن تمزيق هذا الجسد؟! مجرد حائط
إسمنتي يمزق أحلاما ويكرس عذابات ويفتت جسد أمة.
وأخذنا سيارة رفح للمنزل
بالمغازي، الطريق يحتاج 25 دقيقة، ولكن بسبب الكتل البشرية وازدحام
السيارات اجتزنا الطريق في 4 ساعات حتى وصلنا إلى دارنا، ويا له من
إحساس فياض أن تشعر أنك في بيتك وبين أسرتك، لن تكفيني كلمات الدنيا
لوصف هذا الإحساس.
وصلنا للمنزل الساعة العاشرة
مساء، وهنا كانت المفاجأة.. حالة من الهلع غير الطبيعي.. أختي زينة،
"عمتو" زينة.. إخوتي وزوجات إخوتي وأولادهم وبناتهم اختلطت أصوات
الصراخ مع البكاء مع الزغاريد والتساؤلات في آن واحد.
وهنا بدأت عمليات التفاوض
مرة ثانية التي كادت تمزق مشاعري، فبرغم براءة الأسئلة من بنات وأبناء
إخوتي فإنها كانت تقتلني.
شيماء بنت أخي نمر: "ما
ترجعي مصر يا عمتو تاني، بدنا إياكي معنا هون، البابا هيشتري إلك كل
الأواعي" (الملابس).
ترد زينات بنت أخي محمد:
"وبابا كمان هيشتري إلك يا عمتو كتب وإشياءات وتروحي عالجامعة".
يقاطعهم أحمد ابن أخي حمودة
في منافسة شديدة للإقناع: "وبابا هيشتري إلك سيارة حديثة".
اختزلوا كل محنتي في ماديات
يستطيعون توفيرها، فما زالوا صغارا، لن يستوعبوا أنني ممنوعة من
وطني لأنني "لاجئة"، ويوجد ملايين غيري يعيشون نفس معاناتي ولا
يسمح لهم بالدخول إلا بتصريح من قوات الاحتلال الإسرائيلي.
في لحظات أحضروا العشاء،
واتفقنا على أن أبقى عدة أيام، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن،
حيث أعلن قائد المنطقة الجنوبية في غزة أنه على كل من دخل إلى غزة أن
يخرج منها قبل الساعة السادسة مساء الغد.
توجمت الوجوه، ونظرت إليّ
أمي في هلع وأصدرت فرمانها وبدون أدنى مناقشة: ستبقي معنا حتى الفجر،
ونصلي ثم نذهب جميعا لتوصيلك لرفح المصرية.. ولكن يا أمي أي منطق هذا..
منطق الخوف عليك حبيبتي. رفضت قرارها بشدة، ولكن هذه المرة كانت حجتها
أقوى.
وهنا أعلن الصغار الإضراب عن
النوم، وبقوا مستيقظين حتى الفجر، وبدأت موجة من البكاء للجميع، ولكن
كانت عيون أمي تقول: سنلتقي يا ابنتي حتما، لا تتذكري لحظات الوداع،
تذكري دائما قدرة الله عز وجل في لقائنا بغير ميعاد.. وهنا لن أكتب عن
لحظات الوداع؛ لأننا سنلتقي حتما ولو بعد حين.. فإلى لقاء قريب يا
وطني..
إلى أمي..
لإن ضاقت بها الدنيا
وكرهت كل ما فيها
سأنسج من شراييني
لها حضنا يدفيها
لإن رفضت لباس الأرض
ثوبا كي يواريها
سأنسج من رموش العين
لها ثوبا ليحميها
نظرت لعينها يوما
لأفهم سر ما فيها
لكن الدمع جاوبني
دع العين بما فيها
دع العين بما فيها