وثيقة الاتفاق الفلسطيني متناقضة

بروفيسور عبد الستار قاسم

عندما يريد حاكم عربي أن يمرر على الشعب شيئا مخجلا فإنه يمهد له بمقدمة مفعمة بالكلام الجميل الزاخر بالعواطف الجياشة والانتماء الأصيل والإشادات الممجّدة للشعب العظيم الذي طالما تغلب على الصعاب وأذل الأعداء وقهر العواصف والأعاصير. وقد لاحظت هذا بوضوح بالخطاب الفلسطيني الذي برر مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو والتخلي عن المواقف والمبادئ والمواثيق التاريخية التي جمعت الشعب الفلسطيني. وثيقة الاتفاق المتداولة حاليا والمبنية على وثيقة الأسرى التي تتناقل وسائل الإعلام بأن الفصائل الفلسطينية قد اتفقت عليها لا تختلف في ذلك.

يلاحظ قارئ الوثيقة بداية كيف أن الموقعين على الوثيقة وصفوا أنفسهم بأنهم يشعرون عاليا بالمسؤولية وذلك بقولهم: "انطلاقا من الشعور العالي بالمسؤولية الوطنية والتاريخية." ليس من حقهم بالطبع أن يمتدحوا أنفسهم، وكان عليهم ترك المسألة للناس ليقرروا فيما إذا توفر هذا الشعور العالي بالمسؤولية. ثم يذكرنا الموقعون بالمخاطر المحدقة التي نعرفها منذ عام 1917 ليوجهونا نحو مبدأين خجولين وهما عدم سقوط الحقوق بالتقادم، وعدم الاعتراف بشرعية الاحتلال. طبعا هذان يختلفان عن الإصرار على الحقوق الفلسطينية، وعن رفض الاحتلال والعمل على إزالته. قد لا يسقط الحق، لكن قد لا يكون هناك مطالب به؛ وقد لا نعترف بالاحتلال، لكن قد نتركه وشأنه.

انتقل الموقعون بعد ذلك إلى الاستنجاد بفكرة الوحدة الوطنية والتاريخ والدماء النازفة والعيون الدامعة وغير ذلك مما يثير الشجون والأحزان والرغبة في التكاتف، ذلك ليقولوا ما اتفقوا عليه.

تميل الوثيقة إجمالا إلى تلبية جميع مطالب حركة فتح والتوافق مع برنامجها، وتتغذى على برنامج حركة حماس. لكن الصياغة اللغوية أتت بطريقة تمكن حماس من الدفاع عن نفسها على اعتبار أن برامجها مشمول في الوثيقة أيضا. الصحيح أن الوثيقة تشمل بنودا كثيرة من برنامج حماس، وتتعداه لتضيف إليه ما أرادت حركة فتح إضافته وبالتحديد تلك البنود المركزية المطلوبة أمريكيا وإسرائيليا والتي تتضمن اعترافا بإسرائيل؛ هذا ناهيك عن أن العبارات الثورية الواردة والمتناقضة مع فكرة الاعتراف بإسرائيل لم تتخلّ حركة فتح عنها ولو من الناحية النظرية فقط.

يقول أحد البنود بأن الشعب "يناضل من أجل تحرير أرضه (دون تعريف هذه الأرض) وإزالة المستوطنات وإجلاء المستوطنين (دون أن يكون معروفا فيما إذا كان هذا يشمل المستوطنات والمستوطنين في الأرض المحتلة/48) وإزالة جدار الفصل والضم العنصري، وإنجاز حقه في الحرية والعودة والاستقلال، وفي سبيل حقه في تقرير مصيره بما في ذلك إقامة دولته المستقلة كاملة السيادة على جميع الأراضي المحتلة عام 1967 وعاصمتها مدينة القدس الشريف وضمان حق عودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها وتعويضهم وتحرير جميع الأسرى والمعتقلين بدون استثناء أو تمييز مستندين في كل ذلك إلى حق شعبنا التاريخي في أرض الآباء والأجداد وإلى ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي وما كفلته الشرعية الدولية بما لا ينتقص من حقوق شعبنا."

هذه فقرة ترضي كل الناس. إنها ترضيني مثلا لأنها تدعو إلى ضمان حق عودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم، وأفهم من ذلك على أن المكان هو الأرض المحتلة/48؛ وهي ترضي جميع الفلسطينيين بدعوتها إلى إزالة المستوطنات والمستوطنين إلا ممن ترتبط مصالحهم بالمستوطنات؛ وتتمشى مع ثابت فلسطيني قديم وهو حق تقرير المصير. وترضي مصر والأردن وأمريكا وحركة فتح وحركات فلسطينية أخرى مثل الديمقراطية والشعبية لأنها تقبل بدولة فلسطينية على أرض/67. إنها ترضي أجدادنا في القبور لأننا لم نفرط بعرق جباههم، وترضي كوفي أنان لأنها تعترف بالشرعية الدولية. وترضي حركة حماس لأنها تقر بحق العودة كحق للفلسطينيين، وتقر بأن لشعبنا حق تاريخي بأرض فلسطين. ولا بد أن إسرائيليين راضون لأن الاعتراف بإسرائيل وارد بالموافقة على دولة في أرض/67، ووارد أيضا بالاعتراف بالشرعية الدولية وقبول المبادرة العربية التي تعترف بإسرائيل.

الفقرة لا تغضب أحدا، وفي نفس الوقت لا تترك أحدا دون أن تورطه بقبول ما يريده الآخر. هذه هي صفة الحلول العشائرية التي لا تبحث عن حلول من الجذور، وتترك الأمور عائمة ومفتوحة لنشوب الصراع من جديد في أية لحظة. يأخذ كل طرف من الفقرة ما يريد، ويتمترس خلفه، وبما أن التناقض هو جوهر الفقرة، فإن تناقضا على الأرض لا بد أن ينشأ. تفتقر الفقرة إلى المهنية والوضوح والحسم، وتتبنى أسلوب المراضاة الذي لا يحل مشكلة.

هناك فقرة مطولة حول إعادة ترتيب منظمة التحرير الفلسطينية، وهي أفضل الفقرات رصانة ووضوحا. إنها تؤكد على ما تم الاتفاق عليه في السابق حول تشكيل مجلس وطني فلسطيني جديد، وتطالب بإنجاز المهمة قبل نهاية العام 2006.

 

هناك عبارات غير مفهومة أو يمكن تأويلها وفق مختلف الرغبات. فمثلا: ماذا تعني الجملة "وإلى ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي وما كفلته الشرعية الدولية بما لا ينتقص من حقوق شعبنا"؟ الشرعية الدولية أقامت إسرائيل، وحقوق شعبنا تبقى منتقصة مادامت إسرائيل موجودة على أرض فلسطين. وما معنى تركيز المقاومة في الأرض المحتلة عام 1967؟ ما هو الموقف من العمليات العسكرية التي يتم تنفيذها في الأرض المحتلة/48؟ طبعا الرفض غير موجود، لكن القبول أيضا غير واضح. وما معنى المقاومة الشعبية؟ هل تشمل هذه المقاطعة الاقتصادية ووقف التطبيع والتنسيق الأمني وعدم حمل بطاقات شخصية تحمل الرقم الإسرائيلي؟ هل على أبو مازن، وفق هذه الفقرة، التوقف عن التطبيع السياسي؟ وهل سيبقى الشعب الفلسطيني مستوردا لبضائع إسرائيلية لا ضرورة لها البتة في سير الحياة الفلسطينية؟ هناك فقرة في مؤخرة الوثيقة تقول إن لشعبنا استخدام الوسائل النضالية الأنجع في مقاومة الاحتلال مع مراعاة المصالح العليا لشعبنا. لا أكاد أصدق أن هذه عبارة تصدر عن أناس يصفون أنفسهم بالقيادات. الوثيقة لا تعرّف المصالح العليا للشعب الفلسطيني، وهذه المصالح يمكن أن تتعارض مع النضال الذي من المفروض أنه موجود لتحقيق هذه المصالح.

تتحدث إحدى الفقرات عن خطة فلسطينية للتحرك السياسي وفق "الأهداف الوطنية الفلسطينية كما وردت في هذه الوثيقة والشرعية العربية وقرارات الشرعية الدولية المنصفة لشعبنا بما يحفظ حقوقه وثوابته تنفذها قيادة منظمة التحرير ومؤسساتها والسلطة الوطنية رئيسا وحكومة والفصائل الوطنية والإسلامية ومنظمات المجتمع المدني...."  كقارئ لهذه الوثيقة، أنا لم أفهم ما هي الأهداف الوطنية الفلسطينية. ما أعرفه هو أن الأهداف تُصاغ بلغة رصينة وواضحة وقانونية لا تحتمل التأويلات على الرغم من أنها قد تحتمل الاجتهادات في التنفيذ، لكن هذه الوثيقة تدخل في متناقضات يصعب معها معرفة الأهداف الوطنية. هل الهدف الوطني هو إقامة الدولة أم حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني؟ وهناك شركاء للفلسطينيين في تحديد الأهداف الوطنية وهم الشرعية الدولية والشرعية العربية. إنه لأمر غريب أن يتم تحديد الأهداف الوطنية من كل هذه الجهات المذكورة أعلاه.

تدعو الوثيقة إلى حماية السلطة الوطنية الفلسطينية التي توصف بأنها "التي شيدها شعبنا بكفاحه وتضحياته ودماء وعذابات أبنائه". والحقيقة أن إقامة سلطة عربية فلسطينية عبارة عن مطلب إسرائيلي منذ عام 1968، وأن السلطة لم يتم إنجازها إلا من خلال تنازلات القيادات الفلسطينية وتضليل الشعب الفلسطيني. هذه السلطة عملت، وفق الاتفاقيات، كما كان مطلوبا من روابط القرى، واعتقلت المناضلين ونسقت أمنيا مع إسرائيل. لقد وقع الشعب الفلسطيني تحت التضليل لسنوات طويلة، والوثيقة تمعن في ذلك.

هناك فقرة تخلو تماما من الاتزان وهي تقول: "إن إدارة المفاوضات من صلاحية م.ت.ف. ورئيس السلطة الفلسطينية على قاعدة التمسك بالأهداف الوطنية الفلسطينية كما وردت في هذه الوثيقة على أن يتم عرض أي اتفاق بهذا الشأن على المجلس الوطني الفلسطيني لإقراره والتصديق عليه أو إجراء استفتاء عام في الوطن والمنافي بقانون ينظمه." أوضحت أنه لا يوجد أهداف وطنية واضحة في هذه الوثيقة، لكن المضحك المبكي أن المجلس الذي سيتم الاحتكام إليه غير مشكل، والقانون الذي سيتم استفتاء حوله غير موجود. يجب تحديد آلية تشكيل المجلس أولا وتحديد سقف زمني لتشكيله، أما ترك الأمر على غاربه فلن يجدي، ولا أظن أنه سيتم تشكيل هذا المجلس قبل نهاية 2006.

الفقرتان حول اللاجئين والأسرى خطابيتان لا تقدمان شيئا جديدا لا منهجا ولا وسائلا. لم تحدد الوثيقة استراتيجية لا بالنسبة لعودة اللاجئين ولا للأسرى، وتُرك الأمر للاجتهادات الفردية والفصائلية.

حول المقاومة، تقول الوثيقة: "العمل على تشكيل جبهة مقاومة موحدة باسم جبهة المقاومة الفلسطينية، لقيادة وخوض المقاومة ضد الاحتلال وتوحيد وتنسيق العمل والفعل المقاوم والعمل على تحديد مرجعية سياسية موحدة لها." هل يعني هذا أنه ستكون هناك غرفة عمليات مشتركة تشرف على العمل المقاوم؟ وهل هذه الغرفة تتناقض مع القبول بالشرعية الدولية؟ وماذا سيقول أبو مازن لأمريكا غدا إذا تم إنشاؤها؟ لا يوجد لدي قناعة بأن هذه الجبهة ستنشأ على الساحة الفلسطينية إلا إذا كان عملها إصدار البيانات النارية، وأن كل الفقرة عبارة عن فذلكات ثورية لا معنى لها اعتادت عليها الساحة الفلسطينية. وبالتأكيد نحن سنختلف حول قيادة هذه الجبهة، وسنختلف حول مرجعيتها السياسية؛ هذا علما أنها ستكون جبهة مخترقة من قبل الإسرائيليين نظرا للاختراقات الأمنية التي تنخر الفصائل الفلسطينية.

ترفض الوثيقة الحصار الذي تفرضه الولايات المتحدة على السلطة الفلسطينية، لكنها لا تقول كيف ستترجم هذا الرفض عمليا. هل ستقطع العلاقات مع أمريكا، وهل ستطلب من الشعب الفلسطيني القيام بخطوات ملموسة بهذا الصدد؟ أم أن الأمر عبارة عن مجرد كلام لا يحاسب أحد عليه؟ تطالب الوثيقة العرب بتنفيذ مقررات القمم العربية، وتؤكد على التزام السلطة الفلسطينية بالإجماع العربي والعمل العربي المشترك. أغلب العمل العربي يصب الآن في مصلحة التطبيع مع إسرائيل وإقامة العلاقات معها، فهل هذا ما ستسير فيه السلطة الفلسطينية؟

الملفت للنظر أن الوثيقة تدعو إلى تطوير الأجهزة الأمنية لتكون أكثر قدرة على القيام بمهام الدفاع عن الوطن. هل كانت الأجهزة الأمنية قادرة على الدفاع عن الوطن لكي تصبح أكثر قدرة؟ ثم أن هذا الكلام عبارة عن استغباء للشعب الفلسطيني لأن الأجهزة الأمنية عدا الشرطة موجودة للدفاع عن الأمن الإسرائيلي وليس عن الأمن الفلسطيني، وما على المستغرب من هذا الحديث إلا الرجوع إلى الاتفاقيات، ومراجعة تاريخ عمل الأجهزة الأمنية. هنا لا أتحدث عن أفراد مناضلين في الأجهزة الأمنية وإنما عن الأجهزة كمؤسسات رسمية فلسطينية. وأصلا، لماذا رفعوا رواتب المنخرطين في هذه الأجهزة بموافقة أمريكا وإسرائيل؟ ما دامت هذا العقلية التخويثية سائدة، لا أرى أن هناك أملا في النجاح. والهدف هنا ليس التثبيط، وإنما وضع القارئ أمام الحقيقة التي أوقعه غيابها في مصائب مستمرة.

بصورة عامة، الوثيقة متناقضة ولا تعبر إلا عن تخلف فكري فلسطيني على مستوى القيادات. لو كانت هذه القيادات تعقل وتمعنت فيما كتبته لخجلت، وربما قررت أن تخلي السبيل. هذه وثيقة لا تحترم الشعب الفلسطيني، ولا تاريخه ولا دماء شهدائه، وهي وثيقة الهروب من الواقع ومن مواجهة الحقيقة. الساحة الفلسطينية بحاجة إلى تغيير وإلى برامج جديدة تختلف عن هذه البرامج التي تم اعتمادها على مدى عشرات السنين. نحن، بهذه الوثيقة نبقي على رؤوسنا في الرمال كي لا نرى كيف تنزل المصائب على رؤوسنا.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع