وتتوالى الخروقات
الأمنية،كأن شيئاً لم يحدث!
بقلم : *د.رياض المالكي
هناك أمران
يثيران الدهشة في عملية اغتيال موسى عرفات، الأمر الأول متعلق بغياب ردود
الفعل لدى الأجهزة الأمنية خلال عملية الاغتيال التي استمرت لأكثر من ثلاثة
أرباع الساعة، وثانيها ردود فعل السلطة ما بعد الاغتيال وكيفية معالجة
الموضوع.
ربما لم
يتفاجأ الكثيرون من أبناء شعبنا هذه المرة بالحادثة، خاصة أن كثيراً منها
قد وقع في الماضي دون معالجة أو إجراء، مما شجع على تكرارها من قبل من
اعتقد أنه يستطيع الإقدام على تنفيذها دون حساب أو محاسبة تذكر. المحاولات
السابقة لاغتيال اللواء عرفات لم تنجح، إلاّ أنها أكدت وجود رغبة لدى البعض
في تنفيذ عملية الاغتيال. ومعاني فشلها في المرات الماضية كانت تعني للبسيط
من المراقبين أن المحاولات ستستمر حتى يُكتب لها النجاح، وهذا ما حدث هذه
المرة. فهل كان أحد من القادة العسكريين والأمنيين يتوقع مثل هذه المحاولة؟
أم أن المفاوضات التي كانت تتم في المرات الماضية مع كل من حاول اغتياله كي
يعدلوا عن تكرارها لم تفلح في ثنيهم؟ على أي حال، فقد أثبتت هذه العملية
فشلاً كبيراً لكافة الأجهزة الأمنية والعسكرية الرسمية، وعليه، فيجب أن
تتحمل جزءاً من نتائجها، بما يشمل المسؤولين الأمنيين المناوبين في تلك
الليلة والذين أعطيت لهم مسؤولية توفير الحماية لتلك البقعة، ومن كافة
الأجهزة دون أي استثناء. يتطلب محاسبتهم لفشلهم في تحمل مسؤولياتهم.
قالوا لنا في
الأخبار إن العملية استمرت لأكثر من خمس وأربعين دقيقة تم فيها إطلاق النار
بكثافة حتى أنها شملت استخدام قاذفات الـ"آر.بي.جي"، ولكن أحداً لم يتحرك
ليستطلع ما يدور. وقالوا أيضاً إن موقع الهجوم لا يبعد أكثر من مئة متر عن
مقار جهازين أمنيين وعن مقر إقامة الرئيس محمود عباس، ومع ذلك لم يتحرك أحد
من قادة الأجهزة الأمنية ، وعليه، فمن الواجب اتخاذ كل إجراءات الوقاية
والحماية والاستطلاع والرصد. لكن لم يحدث أي من كل هذا. لماذا؟ سؤال بحاجة
إلى إجابة وبشكل ملح، رغم يقيننا المسبق من خلال تجربتنا كشعب فلسطيني بعدم
حصولنا على إجابات شافية لأغلب الحالات الشبيهة الماضية. فإمّا أنهم
يعتبروننا قاصرين ليس من حقنا معرفة الحقيقة كونها ملكا لمجموعة صغيرة فقط،
وإمّا أن الموضوع مصيري ولا يخصنا مما يستدعي اتخاذ إجراءات السرية المطلقة
بما فيها فرض الحظر على المعلومات المتعلقة بالموضوع المطروح. مهما يكن
التفسير، فلا بد من مواجهة حقيقية مع الجمهور الفلسطيني الذي من حقه أن
يخاطبه أحد من المسؤولين ليقول له الحقيقة أو يطلب منه ترك الموضوع للجهات
المعنية لمعالجته لما به من حساسية وتداخلات أمنية معقدة.
كان من الممكن
لكافة الأجهزة الأمنية والعسكرية أن تبادر خلال الحدث الذي استمر لمدة
كافية، تسمح فيه بتجميع قوة تتمكن من وقفه أو التدخل حياله، لكن هذا لم
يحدث. وعليه، يجب التدخل المباشر لتوضيح التقصير الذي حصل حرصاً على منع
انتشار الإشاعة وتفاقمها، وحرصاً على الحفاظ على نقاء دور الأجهزة الأمنية
في أذهان المواطنين، وحرصاً على وحدة هذا الشعب المناضل.
ماذا لو كانت
تلك القوة المهاجمة المقنعة والتي تحركت عبر أكثر من عشرين مركبة، والتي
رصدت الموقع قبل الهجوم بفترة واستمرت في مهاجمتها للموقع لأكثر من 45
دقيقة قبل أن تنسحب تحت وابل من الرصاص، ماذا لو كانت هذه القوة عبارة عن
قوة كوماندوز إسرائيلية وليس فلسطينية، وماذا لو قامت تلك القوة
الإسرائيلية بمهاجمة مقر الرئيس الفلسطيني محمود عباس(لا سمح الله) بدلاً
من مهاجمة بيت اللواء موسى عرفات؟ وماذا لو كان رد فعل كافة الأجهزة
الأمنية والعسكرية الفلسطينية هو نفس ردة الفعل التي كانت خلال الهجوم على
بيت اللواء عرفات، أي غياب مطلق لردود الفعل، وتجاهل الحدث برمته كأنه لا
يعنيهم. لو حدث ذلك لا قدّر الله لكنا الآن في وضع لا نحسد عليه، ولكانت كل
الأجهزة الأمنية والعسكرية في وضع رسمي وشعبي لا تحسد عليه.
وبدلاً من
التعامل مع الوضع بنفس المستوى من الخطورة كالذي عكسه الهجوم ذاته، نجدنا
نتفاوض ونتوصل إلى اتفاقيات بين ندين، وكأننا نتحدث عن سلطة داخل سلطة،
وأمن داخل الأمن، وصلاحيات خارج الصلاحيات، واتفاقيات تبرم ومصافحة تتم،
وكأن شيئاً لم يحدث. وتسير القافلة. وإذا تم، وكما يبدو، تمرير الحادثة
بهذه السهولة، فما الذي يمنع أن تتكرر الحادثة مع أناس هم أقل شأناً من
اللواء عرفات؟ ما دام العقاب مغيباً، والقانون أعمىً، والمواطن معرّضاً؟.
عندما استمعت
إلى الشروط الثلاثة التي وضعتها ألوية صلاح الدين من أجل إطلاق سراح نجل
اللواء عرفات، قلت في نفسي ما أجمل وما أطهر هذه الشروط التي تدغدغ نفس كل
مواطن اكتوى من نار المتسلطين والمنتفعين، وتلامس هموم كل مواطن راقب
الفساد يستشري في الأرض خلال السنوات الماضية دون رقيب أو رادع. لكن، لا
يمكن القبول بهذا الأسلوب وسيلة للوصول إلى هذه الأهداف النبيلة والمطلوبة
شعبياً. قوة ألوية صلاح الدين ونفوذها الواضح كافية أن تجند الشارع معها
وتحركه في عملية ضاغطة على الحكومة لتسريع حركتها البطيئة في معالجة ملفات
الفساد والمفسدين، دون أن تقرر أخذ القانون بيدها. ما حدث يمكن أن يشجع أي
جهة حتى تلك المشبوهة لاستغلال نفس الأسلوب في تصفية الحسابات مع المناضلين
والوطنيين من أبناء شعبنا. فعلينا توخي الحذر دوماً، مع مواصلة الضغط على
السلطة وبيروقراطيتها ملتزمين بالقانون لدفعهم على تنفيذه.
إعلان الرئيس
عباس عن إلغاء سفره إلى نيويورك هو دلالة على جدية الموقف الرسمي من
الموضوع، ولكن غياب أي مؤشرات لحراك في هذا الاتجاه، يؤكد للمواطن من جديد
أن هذه الحادثة مصيرها النسيان كسابقاتها. ما الذي يمنع القيادة السياسية
أو الأمنية أن تتحدث لمواطنيها مباشرة وبكل صراحة عما يحدث من خروقات أمنية
تطول المواطن وأمنه الشخصي وأمن الوطن، وكيف تفكر هذه السلطة في حماية
الوطن والمواطن؟ خلال هذا الأسبوع سيتم الاحتفال بجلاء الاحتلال عن قطاع
غزة، وهي فرصة لكي تخاطبنا فيها قياداتنا حول مجمل القضايا من إخلاء للقطاع
إلى الأمن والأمان وسيادة القانون وكيفية تعزيز ذلك. خلال ذلك، وريثما يتم،
ما على المواطن إلاّ أن يدعو ربه ويقول: اللهم جنبني الإثم، وأبعدهم عني،
وقوي يد السلطة، وعزز قوتها، ونظفها من الفاسدين، وأكرم هذا الشعب العظيم.
آمين.
* مدير عام
مركز "بانوراما"- المركز الفلسطيني لتعميم الديمقراطية وتنمية المجتمع.
|