الدويلات القبلية في قطاع غزة فوق السلطة والقانون

سرطان مجتمعي

بقلم الأستاذ / نور الدين حسن محمد أبو عاصي – فلسطين – 30 / 10 / 2005 م

هل خرج الشعب الفلسطيني من دلف الانتفاضة إلى مزراب السلطة كما يقول المثل الشعبي : طلعنا من الدلف للمزراب .

هل يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه ؟ أم أنها الطامة الكبرى التي حرقت اليابس وستحرق الأخضر ؟

رحم الله انتفاضة ( 87 ) وأسكنها فسيح جناته كانت الفصائل المقاومة والتي أرخت بظلالها الطيبة على المجتمع الفلسطيني هي الحاكمة وهي صاحبة الأمر والنهي تتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شئون المجتمع وكان الكبير قبل الصغير ينقاد طائعا لأمر من القيادة الموحدة للانتفاضة بل لشبل يعمل في التنظيم ينصاع المواطن مستجيبا ليس فقط على صعيد الفعاليات اليومية بل وعلى صعيد المشكلات الشخصية والأسرية والمجتمعية ، وكان الناس على وفاق وتعايش ومحبة وتناصر وتعاضد وتكاتف ، لا يقف أحد ولا يحق له أن يقف ، أمام القرار الصادر عن نشطاء الانتفاضة ، فالجميع داخل بوتقة واحدة هي بوتقة الجهد النضالي الهادف إلى دحر الاحتلال  ، ولقد عينت التنظيمات الفلسطينية آنذاك مخاتيرا ومنحتهم تحت مراقبة منها حق الفصل في القول وفي الأمر والنهي وبمتابعة وإشراف من قيادة الانتفاضة الموحدة .

لست بصدد تقييم تلك الظاهرة ولست بصدد محاكمة أو نقد أحد فهي فترة تاريخية من حياة ونضال الشعب الفلسطيني قد تم عبورها وتجاوزها لنعيش فترات نضالية جديدة ذات مناخات مختلفة ، فقد قدمت السلطة ( ........ ) إلى أرض الوطن وكانت حياة الاسترخاء بكل معانيها السلبية السيئة ثم اندلعت انتفاضة الأقصى  ونحن الآن نستفيء ظلالها ونحصد ثمار نتائجها المرة منها والحلوة حتى بتنا واقفين على مفترق طرق هو من أصعب مفترقات الطرق في تاريخ نضالنا الفلسطيني  ومنذ نشأته ، وقد غاب عن جميع المراقبين والمحللين والمهتمين أبعاد وآثار وأخطار ما آلت إليه أوضاعنا الاجتماعية والتي هي بمثابة العمود الفقري لبناء الدولة فكثير من المجتمعات قد تلاشت وأفل نجمها على الرغم من قوتها وجبروتها بسبب فقدانها الأخلاق .

يعيش الشعب الفلسطيني اليوم  مرحلة هي من أشد وأعقد وأعظم مراحل حياته خاصة على الصعيد الاجتماعي وليس السياسي أو الأمني أو الاقتصادي فقط ، وليس الأمر هنا ساذجا ولا سطحيا، لأن النسيج الاجتماعي إذا أصابه مرض السرطان لا يصلح معه دواء فكيف بعمليات التجميل وإبر التسكين ؟

فالمسافة شاسعة بين السلطة والمجتمع الفلسطيني  والجميع تقريبا يحقد على السلطة بسبب فشلها الذريع  في كل الميادين والتنافس الحاد بين أكبر تنظيمين على الساحة هما فتح وحماس وملفات الفساد التي تكدست حتى بلغت مبلغا ربما يؤدي إلى سقوط حركة فتح كحركة رائدة للنضال الفلسطيني وهذا ما لا نتمناه ، ومحاولات الضغط على المقاومة الفلسطينية لوقف نضالها وتفشي الفقر والبطالة والغلاء المتزايد وإيقاف حركة وفعالية الانتفاضة وعجز السلطة عن فعل شيء أمام المواطن الفلسطيني  .

كل ما سبق وأمور أخرى كثيرة أثرت تأثيرا قاسيا على البنية السيكولوجية والذهنية للمواطن الفلسطيني كما كان له الأثر على طريقة تفكيره ونهج سلوكه بغياب خطة وطنية تتعامل مع هذا الوضع الذي وصل إلى درجة المأساة بدون مبالغة في الرؤية .

لقد غاب الإحساس في غياهب ظلمات الرشوة والفساد وانتشرت الأمراض الاجتماعية مثل العنف الأسري والكبرياء والتملق والاعتداءات على الآخرين وتقطعت الروابط وسادت الخيانة والغش والكذب والمحسوبية  والغدر والعقوق والرذيلة وانتشرت الجريمة والأخذ بالثأر وعمت الفوضى في كل مكان وغاب القانون وأصبح الفساد هو سيد الموقف فلا أمن ولا استقرار ولا كرامة للفرد والذي انعكس ذلك كله مباشرة على الأسرة لينعكس تباعا على المجتمع بأسره وما يلحق ذلك من تداعيات سلبية على السلطة التي لم يعد لها ثقل إلا على المواطن الفقير العاجز المحروم من أبسط الحقوق .

المساجد تمتلئ بالمصلين ، والناس يستطيعون التمييز بين الغث والسمين وفي المقابل حالة من التدني الأخلاقي في التعامل مع كل شيء حتى الشجر والحجر وحتى الطير والحيوان لم يسلم من الشر ، فلا توافق نفسي بين أفراد الأسرة الواحدة ولا بين أفراد المجتمع ولا قدرة على التآلف والتكيف مع البيئة المحيطة ، فكيف يمكن لشعب ولسلطة في ظل هذه الحالة المتردية من مواجهة المشكلات التي تتفاقم يوما بعد يوم ويزداد تأثيرها سلبا وتدميرا والسلطة عاجزة عن وضع خطة للنهوض بهذا الواقع المأساوي ؟

لقد جربت السلطة الحلول المرقعة هنا وهناك ولكنها أخفقت فأسندت كثيرا من الأمور الهامة للقبائل بشكل مباشر أو غير مباشر ، فعدد كبير من العاملين في أجهزة السلطة الفلسطينية هم من المحسوبين على كبار القبائل منهم كبار الضباط والقادة وأصحاب الأمر والنهي لترسخ السلطة من جديد عقلية التحجر القبلي كما رسختها وغذتها من قبل عندما جعل الرئيس ياسر عرفات رحمه الله لشئون القبائل مستشارا خاصا له وشمل زعماء القبائل بحفاوته من خلال لقاءات كثيرة معهم ومع قادة أجهزته وجعل لزعماء القبائل مقرات  خاصة تحت ستار لجان الإصلاح وأصبحت كلمتهم هي المسموعة ، مما زاد في الطين بلّة ، فتجذرت مفاهيم الانتماء القبلي بدل الوطني ، حتى أصبحت القبيلة هي الدولة التي زاد من سطوتها وتأثير نفوذها غياب القانون وتغلغل رجالاتها في الأماكن الحساسة في جسد السلطة الفلسطينية الفاسد بل في جسد التنظيم الحاكم .

إنها الحقيقة بعينها والتي لا مجال لإنكارها إلا لمن أراد أن يدفن رأسه في التراب أو أراد أن يملأ جيبه من المتنفذين الذين تسلقوا على أكتاف أحرار وشرفاء هذا الشعب المنكوب .

نار تلتهب وبركان يتفجر فوق رؤوسنا يلقي بحممه .

دويلات القبائل أصبح لها ميليشيات خاصة بها مسلحة بأسلحة أوتوماتيكية حديثة ، ومنها من حصلت على سيارات من نوع جيب الحديثة لتزج بها في صراعاتها القبلية ، والمصادمات بين القبائل أصبحت كأنها مصادمات بين الدول والجيوش يقع فيها عدد من الجرحى والقتلى لا يمكن لعاقل وغيور أن يستهين بها ولا بما يترتب وراءها من مخاطر وانعكاسات ، أليست هي الكارثة بعينها أن تهجم قبيلة على قبيلة بعشرات من المسلحين في ظل عجز تام لجميع أجهزة السلطة ، وفي غياب كامل للقانون إلا على المستضعفين الذبن لا حول لهم ولا قوة ؟

ولا يعتقد أحد أنني أعمد على تضخيم الأمور ، فف كل يوم تقع مصادمات بين القبائل وفي كل يوم تسقط الضحايا وما معنى أن يسقط أكثر من عشرين قتيل وأكثر من مائة جريح في أقل من شهرين ( آخر شهرين ) .

أصبح لرجال القبائل صلاحيات يفتقر إليها كثير من أصحاب القرار بل تفتقر إليها بعض السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية والإعلامية ، فشيخ القبيلة ملك في مملكته أو رئيس دولة فمن ذا الذي يجرؤ على عصيان أمره  خاصة من الأسر الضعيفة فعاقبته الخطف والتربيط ثم حجزه في حظيرة الدجاج أو بيت من بيوت الكلاب التي يغدقون عليها حبا وحنانا في بيوتهم ليصدق المثل الشعبي القائل كلب الشيخ شيخ مثله !!!

يعمد رئيس الدويلة العشائرية إلى تقديم خدماته من خلال حل بعض النزاعات لأشخاص ضعفاء لا قبيلة لهم تحميهم من البطش أو من خلال التوسط لعمل ما أو إنجاز مهمة معينة وذلك بالثمن المناسب والذي يراه ذاك القائد والفارس المغوار حقا من حقوقه وربما يصل هذا الثمن عشرات ألوف الدولارات في ظل غياب المحاسبة والمسئولية من قبل أجهزة سلطة أوسلو المتنفذة وإلا فليذهب ذلك المواطن إلى الجحيم هو وأسرته ، فهل مات الحكماء منا ؟ وهل فقدنا أصحاب النخوة والشهامة العربية الأصيلة ؟ فمن للضعيف في هذا الزمن الظالم المظلم ؟ أين مشاعرنا وأحاسيسنا ؟ وأين ضمائرنا وقلوبنا ؟ .

إننا نعتصر ألما على ما آلت إليه أوضاعنا ولكننا يجب أن لا نلعن الظلام فقط بل يجب أن نضيء شمعة في ظلام هذا النفق الطويل ، وبارك الله في تلك القلة القليلة من رجالات الخير من بعض شيوخ القبائل التي آلت على نفسها أن تعطي ليلا ونهارا وبدون كلل محتسبة ذلك عند الله تعالى  .

أما قبائل الزولو فعشرات الأشخاص من أبنائها يعربدون في الأسواق وكأنها ملك شخصي لهم ولآبائهم لأن قريبهم مسئول كبير في جهاز كذا ، وهم الذين يعتدون على امرأة حرة كريمة تسير في الطريق لوحدها وهم الذين يسيطرون على أملاك الدولة  وهم وراء الاعتداء على هذا الطبيب وذاك المعلم في مكان العمل ، وهم وراء العربدة والفلتنة والزعرنة متكئين على أقربائهم العاملين في أجهزة السلطة وكما يقول المثل الشعبي : جبتك يا عبد المعين لتعينني لقيتك بيدك من يعينك .

تسيطر قبيلة على مرفق هام من مرافق السلطة وهو مرفق حيوي جدا يقدم الكثير من الخدمات اليومية والحياتية للمواطنين وذلك بوجود رجل من رجالاتها يتحكم في كل شيء فيها لسبب وحيد وهو أنه ابن تلك القبيلة فلا يتمكن أحد من محاسبته حتى وصل الأمر إلى شتم الذات الإلهية في شهر رمضان أمام مسمع ومرأى من الموظفين وقام آخر بالاعتداء بالضرب على موظفين آخرين وممن هم أعلا شهادة منه وأكثر كفاءة ، فلقد أُسند الأمر لغير أهله وانكفأت الكفاءات .

كانت السلطة الفلسطينية بكل قواتها عاجزة عن الدخول إلى بعض المناطق والبيوت قبل اندلاع انتفاضة الأقصى بسبب المقاومة الشرسة التي كانت تواجه بها السلطة هناك من هذه القبيلة أو تلك لينسجم ذلك تماما مع عوامل الترسيخ للعقلية القبلية ولقتل روح الانتماء للوطن والمواطن ، فكيف هو الحال اليوم في ظل انتشار الدويلات القبلية وتنامي ميليشيات الزعرنة القبلية المحسوبة على قبيلة فلان وفلان ودون أدنى ارتباط لها بالعمل النضالي المشرف وانتشار ظاهرة الفلتان الأمني وغياب القانون إلا على المساكين .

يقول المثل الشعبي : الحجر اللي بيصيب راس غيرك يمكن يصيب راسك .

إنني أدعو السلطة الفلسطينية وجميع الأقلام الشريفة وكل المعنيين من شرفاء هذا الوطن للإسراع في وضع الخطط لعلاج ما يمكن علاجه وإلا فالطامة كبرى لا يسلم منها أحد .

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع