الظروف الفلسطينية لم تعد تحتمل تكاتف الكرادلة

شاكر الجوهري

ترشيح محمود عباس من قبل حركة "فتح" لرئاسة السلطة الفلسطينية يأذن بانتقال الفصيل الأكبر في منظمة التحرير الفلسطينية من المواجهة الدائمة مع بقية الفصائل الفلسطينية، إلى مواجهة الشعب الفلسطيني والفصائل معا، بما في ذلك كتائب شهداء الأقصى المنبثقة عن حركة "فتح".

هذه الحقيقة تترتب على:

اولاً: تعهد محمود عباس، من موقعه الجديد كرئيس للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بإنهاء المظاهر المسلحة قبل انتخابات الرئاسة المقبلة. وهو التعهد الذي لا تجوز قراءته بشكل منفصل عن تصريحات ومواقف عباس السابقة المدينة للإنتفاضة والمقاومة الفلسطينية، وتعهده السابق للرئيس الأميركي جورج بوش، ورئيس وزراء اسرائيل ارئيل شارون، بتفكيك حركتي "حماس" والجهاد الإسلامي، وكذلك كتائب شهداء الأقصى.

تعهد عباس يدعو للتساؤل عما إذا كان يريد أن يصبح رئيساً للسلطة الفلسطينية على قاعدة إنهاء الإنتفاضة والمقاومة وتفكيك ادواتهما: وأن يتم هذا على قاعدة خارطة الطريق..؟

في هذا الإطار سعى عباس وتياره داخل المجلس الثوري لحركة "فتح"، أكثر من مرة، إلى استصدار قرار بحل كتائب شهداء الأقصى.

ثانيا: انعدام أي شعبية لعباس لدى الشعب الفلسطيني. فبعد أن شكل عباس حكومته، وقبل أن يسقطها متظاهرون رشقوه بالحجارة عند مدخل المجلس التشريعي في رام الله، أظهر استطلاع للرأي أنه يحظى بتأييد فقط أقل من اثنين بالمئة من الفلسطينيين.

ما سبق يجب أن يؤخذ بعين الإعتبار عند التدقيق في حادث اطلاق النار الذي وقع داخل سرادق العزاء بالرئيس ياسر عرفات في غزة، فور دخول عباس، مصحوبا بهتافات ضده وضد حليفه العقيد محمد دحلان.

لا جدال في أن ما حدث لم يكن محاولة لاغتيال عباس، لكنه لا جدال كذلك في أنه يعبر عن حالة احتقان شعبي ضد عباس ونهجه، لئن عبرت عن ذاتها من خلال اطلاق النار في الهواء اعتراضا على وجوده، فور دخوله سرادق العزاء فجأة، فإنها مرشحة لأن تعبر عن نفسها عبر التخطيط لاغتياله بشكل مدبر في مقبل الأيام.

لقد اعاد حادث اطلاق النار إلى الأذهان أنه لئن كان محمد دحلان يحظى بتأييد شعبي في قطاع غزة، فإن هناك كذلك خصوما اقوياء له لا يقتصروا على الإستخبارات العسكرية بقيادة اللواء موسى عرفات، والمخابرات العامة بقيادة اللواء أمين الهندي، إنما هناك كذلك معارضة قوية تتمثل في لجان المقاومة الشعبية وقوات الـ17 التي شاركت في اطلاق النار داخل سرادق العزاء، وقوات الناصر صلاح الدين، وعمر المختار، وغيرها من تشكيلات المقاومة المسلحة المنبثقة عن حركة "فتح"، وغيرها من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، فضلا عن كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة "حماس"، وكتائب سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي.

بل إن محمد حلس أمين سر اللجنة الحركية لـ"فتح" في قطاع غزة هو من خصوم دحلان.

أما في الضفة الغربية، فلا يوجد لدحلان أنصار مطلقاً.

ثم إنه في ضوء حقيقة أن لا شعبية تذكر لعباس وأن لا تحالفات دائمة في العمل السياسي، يحق التساؤل عن العمر الإفتراضي لتحالف عباس ـ دحلان..؟! خاصة وأن دحلان لا بد أن يستشعر أن عباس سيتحول إلى عبء عليه في مقبل الأيام، ما دام يغلب الحسابات الآنية المؤسسة على رؤيته لحل سريع، على الحسابات المستقبلية المؤسسة على طموحات لا حدود لها لدى دحلان، تدفع باتجاه الإفتراق عن عباس، وعدم التكيف مع كل الإملاءات والإشتراطات الأميركية ـ الإسرائيلية، كما تبين تصريحاته الأخيرة لرجال الصحافة في غزة.

كل هذه الحقائق تقف بالتأكيد وراء التصريح العلني غير المسبوق لصخر حبش عضو اللجنة المركزية في حركة "فتح"، مفوض الشؤون الفكرية والدراسات، الذي طالب علنا بالفصل بين رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ورئاسة السلطة، مبرراً دعوته هذه بأن رئاسة اللجنة التنفيذية أهم من رئاسة السلطة.

نظرياً، لا غبار على تبرير حبش، ما دامت اتفاقات اوسلو تنص على أن منظمة التحرير هي المرجعية السياسية والقانونية للسلطة.. لكن واقع الحال لا يتطابق مع هذه التبريرات، ذلك أن عرفات كان يجمع هاتين الرئاستين إلى جانب رئاسة حركة "فتح"، ورئاسة دولة فلسطين ورئاسة مجلس الأمن القومي، ورئاسات أخرى متعددة، إذ كان رحمه الله رئيسا لكل شيء.

ثم إن الجمع بين رئاسة السلطة ورئاسة المنظمة.. السلطة التنفيذية والمرجعية السياسية، يسهل الأداء..!

صخر حبش ليس الوحيد في مركزية "فتح" الذي يعارض ترشيح عباس لرئاسة السلطة، وتصريحاته قد لا تكون سوى الجزء الطافي من موقفه، كما أن موقفه ليس سوى الجزء الطافي من موقف اعضاء آخرين في اللجنة المركزية كانوا يرفضون تفرد عرفات بالقرار قبل وفاته، وهم يرفضون الآن تفرد أبو مازن بالقرار، كما يرفضون كذلك ـ وقد يكون هذا هو الأهم ـ استئثار "الكرادلة" بكل المواقع الأولى..! و"الكرادلة" هم القادة الأول في حركة "فتح" الذين تبقى منهم ثلاثة فقط هم فاروق القدومي، محمود عباس وسليم الزعنون.

"الكرادلة" في "فتح" لا يختلفون في كثير أو قليل عن كرادلة الكهنوت في الكنيسة، فهم حريصون على وحدة صفهم، وإن لم تتوحد مواقفهم أو اهدافهم. وهم يغطون وحدتهم، ويبررونها دائما برفع شعار وحدة الحركة..!

لذلك، وجدنا الزعنون يسارع إلى التوفيق بين القدومي وعباس، بحيث انتخب الأول رئيسا لحركة "فتح" وانتخب الثاني رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وبقي هو رئيسا للمجلس الوطني الفلسطيني.

وبعد اتمام هذا التقاسم، لم يعد هناك من بين "الكرادلة" من يتحدث عن عقد المؤتمر العام السادس للحركة، الذي سبق للقدومي أن رفض انعقاده في ظل الإحتلال. ولم يعد هناك من يتحدث عن انتخابات تشريعية، فالإنتخابات المقبلة ستكون فقط رئاسية يفرضها موت الرئيس، ما دام هناك داخل مركزية "فتح" من يتوقع فوز حركة "حماس" في الإنتخابات العامة حال اجرائها. ولم يعد هناك من يتحدث كذلك عن تشكيل قيادة وطنية موحدة، كما فعل القدومي فور وفاة عرفات.

بل إن القدومي حرص على التصريح عبر احدى الفضائيات بأن عباس هو مرشح "فتح" الوحيد لرئاسة السلطة، ملتقيا بذلك مع تصريحات أدلى بها دحلان، في وقت لم تبدأ فيه اللجنة المركزية لحركة "فتح" مناقشة هذا الأمر، ولم يبد فيه عباس بعد أي رغبة بالترشح لمنصب الرئيس.

لقد لفت اندفاع القدومي في دعم ترشيح عباس لرئاسة السلطة المذيعة (جوزيل خوري) لسؤاله عن سبب هذه الحميمية..! ونحن بدورنا نسأل، ونتساءل: ما جدوى وتأثير وانعكاس التباين اللفظي في المواقف في ظل تكاتف الكرادلة..؟!

ولعل السؤال الأهم هو كيف يمكن التوفيق بين موقف القدومي الرافض بوضوح التعرض لحركتي "حماس" والجهاد الإسلامي، وموقف عباس المتعهد بإنهاء المظاهر المسلحة قبل انتخابات الرئاسة..؟! وما هو الموقف الذي سيترجم على أرض الواقع..؟

أكثر من ذلك.. كيف يمكن التوفيق بين موقف القدومي الذي يحث على المقاومة من أجل تحقيق السلام، وموقف عباس الذي يرى أن المقاومة والإنتفاضة اسفرتا فقط عن تدمير السلطة، وتهديد الحلم الفلسطيني في دولة فلسطينية بالضياع، ما دام تحالف "الكرادلة" لا يسمح بأكثر من تيابن التصريحات الإعلامية، دون تحولها إلى مواقف متقابلة في الميدان..؟!

الأمر هنا لا يخرج عن أحد ثلاثة احتمالات:

الأول: عدم قدرة القدومي كرئيس لحركة "فتح" على فرض موقفه وسياساته على مركزية الحركة، التي تضم عباس في عضويتها.

 الثاني: أن تباين التصريحات العلنية هو مجرد توزيع للأدوار، وهذا ما نستبعده.

الثالث: أن عباس متمرد على مرجعيته التنظيمية في حركة "فتح".

والواقع أن عباس كان في حالة تمرد على كل المرجعيات لحظة وفاة عرفات. فقد كان مستقيلا من عضوية مركزية "فتح"، واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لأنهما لم تقرا سياساته المتماهية، دون حدود، مع املاءات واشتراطات اميركا واسرائيل.. وإلى الحد الذي جعله يعتذر علنا في قمة العقبة عن كل ما حاق باليهود من ظلم على مدى التاريخ، وكأن الشعب الفلسطيني مسؤول عن كل ذلك، دون أن يشير، ولو بشكل عابر إلى عذابات الشعب الفلسطيني على يد اسرائيل..!

تمرد عباس على كل المرجعيات قبل وفاة عرفات يغلب استمرار تمرده على كل المرجعيات بعد وفاته، خاصة وأن عرفات خلف عرفاً في مصادرة قرار الفصائل الفلسطينية معلنا نفسه رئيسا لمنظمة التحرير، لا رئيسا للجنتها التنفيذية، كما ينص نظامها الداخلي.. وأن القدومي يواصل رفض الدخول للأراضي الفلسطينية مبررا موقفه برفض الدخول في ظل سلطة أقيمت بفضل اتفاقات اوسلو التي يرفضها.

حسنا، على القدومي أن يعلن إذاً، قياسا على موقفه من اوسلو، رفض اجراء انتخابات رئاسة السلطة بموجب القانون الإنتخابي السابق الذي انتجته اوسلو. وعلى القدومي أن يرفض كذلك عدم اجراء انتخابات عامة ينبثق عنها مجلس تشريعي جديد، وأن يرفض الإبقاء على المجلس الذي انبثق عن اتفاقات اوسلو. وعليه في حالة اجراء انتخابات تشريعية جديدة أن يرفض اجراءها بموجب قانون اوسلو، وإنما بموجب القانون الجديد الذي انتهت اللجنة القانونية في المجلس التشريعي من صياغته، ويقضي بالتمثيل النسبي لنصف اعضاء المجلس، والتنافس بين اللوائح الحزبية على نصفها الآخر.

ما لم يتخذ القدومي هذه المواقف، ويصر عليها، فإنه سيجد نفسه يخسر تحالفاته مع الفصائل الفلسطينية الأخرى، وهي أحد اسباب قوته، ليتآكل تأثيره داخل حركة "فتح"، وإن ظل رئيسا لها، بسبب بقائه في الخارج، وتعاظم تأثير السلطة على الحركة، ما دامت كل التجارب العربية علمتنا أن الأحزاب الحاكمة سرعان ما تتحول إلى احزاب للحكومة للسلطة التي اقامتها.. لقد أسفرت كل التجارب العربية عن تحول الأحزاب التي اقامتها إلى احزاب للسلطة بدلاً من أن تقيم سلطة الحزب. وهذا يستتبع أن تنشر الأحزاب برامج السلطة، بدلاً من أن تطبق السلطات برامج الأحزاب.

ما يضاعف من هذه المخاوف والإحتمالات بالنسبة للتجربة الفلسطينية هو أن محمود عباس لم يكتف فقط بالتلميح سابقا لاستعداده قبول حل منظمة التحرير، لكنه استقال فعلاً من عضوية لجنتها التنفيذية حين تعارضت سياسات حكومته مع مواقف الأعضاء الآخرين في اللجنة، مديراً ظهره بذلك لمنظمة التحرير التي يتولى رئاستها الآن استعداداً للقفز إلى رئاسة السلطة عبر عملية تهيئة بدأت لاستبدال الإنتخابات الجماهيرية لرئيس السلطة، بانتخابه من خلال المجلس التشريعي الذي تسيطر عليه حركة "فتح".. الحركة التي أدار ظهره لها يوم أدار ظهره لمنظمة التحرير حين كان عرفات رئيسا للمنظمة والحركة معاً، فهل ينتظر منه غير ادارة ظهره للحركة حين أصبح القدومي رئيسا لها..؟!

خلافة عرفات، بل القضية الفلسطينية برمتها، تمر في أزمة حقيقية لا خروج منها إلا عبر اعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير ومؤسساتها.. وهذا ما تنادي به جميع فصائل المنظمة، بل هذا ما سبق لحركتي "حماس" والجهاد الإسلامي أن اشترطتاه للدخول إلى المنظمة. كذلك لا خروج من هذه الأزمة إلا بتشكيل قيادة فلسطينية موحدة تحول دون أن يسير عباس على نهج عرفات لجهة الإنفراد بالقرار الفلسطيني، ولكن لصالح الخروج عن نهج عرفات السياسي في هذه المرة..!

انفراد عباس بالقرار الفلسطيني على طريقة عرفات من شأنه أن يرفع توقعات شارون بإمكانية ارغامه على تقديم تنازلات غبر متناهية، وهذا يستدعي رفع وتيرة الضغوط الإسرائيلية على عباس، ربما وصولا لفرض حصار عليه كالذي ظل مفروضا على عرفات حتى وفاته.

أما القيادة الجماعية فإنها حصانة أكيدة للقضية، ذلك أن شارون لا يستطيع أن يحاصر الجميع، وأن يحاصر كل المؤسسة.. ذلك أن واشنطن ستصبح مضطرة في هذه الحالة للتساؤل: مع من سيقيم شارون السلام..؟!

الظرفان الذاتي والموضوعي للقضية الفلسطينية لا يحتملان تكاتف "الكرادلة"..!!

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع