الثوابت الفلسطينية غير الثابتة
بقلم:د.عبد الستار قاسم*
يكثر
حديث مسؤولين فلسطينيين رسميين وفصائليين حول التمسك بالثوابت الفلسطينية
والإصرار على تحقيقها، وتساعد وسائل الإعلام في نقل الصورة التمسكية لجمهور
العرب والمسلمين. ويبدو أن الترداد قد أقنع الكثيرين بأن منظمة التحرير
الفلسطينية والقيادة الفلسطينية لم تتنازلا وبقيتا متمسكتين بما أصرت عليه
الأجيال ومبادئ الثورة. الحديث غير صحيح. لم يتم التمسك بالثوابت
الفلسطينية، وكل الكلام حول هذا التمسك يجد مجريات ومواقف فلسطينية تنزع
عنه الحقيقة. التمسك بالثوابت أشبه ما يكون بالشعارات الموجهة جماهيريا ولا
يعكس تطورات المواقف الفلسطينية مع الزمن.
من أين
يتم استقاء أهداف ورؤى الدول والتنظيمات والأحزاب، وكذلك المبادئ والأسس
التي تنطلق منها في سياساتها الداخلية والخارجية؟ في عصرنا هذا، من المادة
المكتوبة بخاصة الدستور أو الميثاق أو القانون الأساسي أو البرنامج المقر
على المستوى الواسع. هناك أهمية للمادة الشفوية إنما فيما يتعلق بالتفاصيل
والمستجدات وتسيير النشاطات اليومية، الخ. وهذه الأهمية تتلاشى عندما يحصل
التصادم مع المبادئ الأساسية أو الخطوط الدستورية. فإذا أراد دارس التعرف
مثلا على أهداف الولايات المتحدة وأسس نظامها السياسي، فإنه لا يستمع إلى
خطاب بوش حول أفغانستان وإنما ينظر أولا في الدستور الأمريكي والتعديلات
التي طرأت عليه. ربما يأتي الخطاب بجديد من ناحية السياسة المتبعة في
أفغانستان لكن يبقى ضمن ما يتوافق مع الدستور أو ما لا يتعارض معه.
إن ما
يعرفنا على الثوابت الفلسطينية هو المادة المكتوبة والتي توضح أهداف الشعب
الفلسطيني والأسس التي تحكم تطلعاته ونضاله من أجل نيل حقوقه. ميثاق منظمة
التحرير الفلسطينية المعروف بالميثاق الوطني الفلسطيني هو الوثيقة التي
تحدد ثوابت الشعب الفلسطيني وأهدافه ووسائله في استعادة حقوقه المغتصبة. من
خلال هذا الميثاق، أراجع مع القارئ الثوابت الفلسطينية وذلك وفق النقاط
التالية:
أولا:
الميثاق الوطني الفلسطيني عبارة عن تعديل عن الميثاق القومي الفلسطيني. أهم
ما في هذا التعديل هو اعتبار فلسطين وطن الفلسطينيين بعد أن كانت أرضا
عربية، والمعنى هو تحويل القضية الفلسطينية إلى قضية الفلسطينيين بدل أن
تكون قضية العرب. يردد بعض المسؤولين الفلسطينيين أحيانا لومهم للعرب
والحكومات العربية على تقصيرها، لكن هذا لوم مخادع لأن منظمة التحرير عملت
على استبعاد العرب شعوبا وحكومات منذ العام 1968.
ثانيا:
يرفض الميثاق الوطني الفلسطيني قرارات الأمم المتحدة جميعها. وقد تم
التأكيد على رفض قراري مجلس الأمن 242 و 338 مرارا من قبل مجالس فلسطينية
ومسؤولين فلسطينيين على اعتبار أن هذا الموقف من الثوابت الفلسطينية. لقد
تم الاعتراف بالقرارين عام 1988.
ثالثا:
أصر الميثاق الوطني الفلسطيني على التحرير وذلك بالكفاح المسلح. الدولة غير
مذكورة في الميثاق لأن الأولوية للتحرير. اخترقت منظمة التحرير ميثاقها
وبحثت عن دولة من خلال طاولة المفاوضات مع إسرائيل.
رابعا:
اعتبر الميثاق أن الهجرة الصهيونية إلى فلسطين غير شرعية وأنه لا بد من
إعادة التوازن السكاني في فلسطين إلى ما كان عليه قبل الغزو الصهيوني.
أي أن الميثاق تبنى موقفا يصر على طرد اليهود الغزاة من فلسطين. هذا
الموقف لم يعد موجودا الآن، ويعاني من يتبناه من أوصاف التطرف والغباء
السياسي والتحجر.
خامسا:
قال الميثاق بأن فلسطين حق لكل الفلسطينيين الموجودين ومن ينحدرون منهم
نسلا عبر الأجيال. واعتبر أن العودة لا مساومة عليها. حق العودة لم يتم
الإصرار عليه إلا في التصريحات الإعلامية، ووافقت السلطة الفلسطينية على
مبادرة جنيف التي تجاوزت حق اللاجئين في العودة. وإذا حصلت مفاوضات جادة
حول هذا الحق فإنها تركزت فقط على حق عودة اللاجئين الموجودين في لبنان إلى
الضفة الغربية وليس إلى فلسطين المحتلة عام 1948. يسمع الفلسطيني والعربي
عموما عبر وسائل الإعلام بأن هناك إصرارا على حق العودة في حين أن رجالات
السلطة يجعلون من الأمر في جلساتهم الخاصة مادة للتندر والاستهزاء. إنهم
على يقين بأن طاولة المفاوضات عبارة عن نقيض حق العودة، وأن إسرائيل لا
يمكن أن تجلس على ذات الطاولة التي يجلس عليها المصرون على هذا الحق. ومن
السهل أن يشاهد المراقب كيف يُتهم المصر على حق العودة من قبل العاملين في
السلطة الفلسطينية بخاصة الأجهزة الأمنية بأنه مع الحرب وضد السلام.
سادسا:
أصر الميثاق الوطني على أن للفلسطينيين حق تقرير المصير ولا حق لأحد
بالتدخل في شؤونهم الخاصة بهم. كل العالم الآن يتدخل بشؤون الفلسطينيين
وبالذات الدول التي ساهمت بقيام إسرائيل وتشريد الفلسطينيين وسفك دمائهم
وهدم بيوتهم. لم تعد مسألة حق تقرير المصير مطروحة على اعتبار أن للعالم حق
التدخل لاعتبارات واقعية.
سابعا:
لم ترد في الميثاق عبارة الاعتراف بإسرائيل على اعتبار أن كل البنود
المذكورة أعلاه ترفض القبول بإسرائيل أو الاعتراف بها أو التفاوض معها. ومن
خلال أدبيات منظمة التحرير وتصريحات قياداتها السياسية والعسكرية، كان من
الواضح أن الاعتراف بإسرائيل عبارة عن خيانة عظمى يستحق المبادر إليه
القتل. اعترفت منظمة التحرير بإسرائيل.
ثامنا
أيضا لم ترد مسألة القبول بالحكم الذاتي في الميثاق وذلك لأنها خارج
التفكير الفلسطيني. وعندما طرحت إسرائيل فكرة الحكم الذاتي، أدلى المسؤولون
الفلسطينيون في الداخل والخارج من عرفات حتى أدنى رتبة بتصريحات نارية
ساخنة جدا ضد كل من يقبل بالحكم الذاتي. وقد قامت منظمة التحرير وبالتحديد
حركة فتح بقتل يوسف الخطيب من رام الله لأنه قبل بالحكم الذاتي. أجمعت
القيادات على أن القبول بالفكرة عبارة عن خيانة عظمى.
يتحدث
قادة فلسطين الآن عن التمسك بالثوابت التي يحصرونها بحق العودة وإقامة
الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. إنهم يتحاشون الحديث عن
كل الثوابت، علما أن إقامة الدولة ليست من الثوابت، والتمسك بحق العودة لم
يعد قائما إلا في وسائل الإعلام. لقد تنازلت القيادة الفلسطينية عن
الثوابت، والواقع العملي يشهد بأن الثابت الوحيد على الساحة الفلسطينية أن
كل شيء متغير. تتالت التنازلات عبر السنوات إلى درجة أن الفلسطيني أصبح
حارسا في بعض الأحيان على أمن إسرائيل، والشاهد على ذلك هو اعتقال السلطة
الفلسطينية للمجاهدين من حماس والجهاد الإسلامي.
في كثير
من الأحيان، وكما هي عادة العرب، تطغى المجاملات على الحقيقة، ويصدق الناس
في النهاية ما يتم ترداده. لم يعد لدى القيادة الفلسطينية ثوابت، ويجب ألا
يشكل موت عرفات سببا لكتم الحقيقة والطبطبة. قيادة فلسطين قادت الشعب
الفلسطيني من تنازل إلى آخر، ومن مأساة إلى أخرى إلى أن دفعته إلى حالة
متردية من الفساد المبرمج. ويكفي أن القيادة ألغت الميثاق بحيث لا يوجد
هناك الآن وثائق مكتوبة يمكن أن تشكل مرجعية لمحاسبة هذه القيادة. لكن من
المهم للباحث عن الحقيقة أن يعود إلى هذا الميثاق الملغي ليتأكد بأن الكلام
عن الثوابت ليس إلا من قبيل التورية.
ربما
يقول أحد أن مقررات المجالس الوطنية الفلسطينية قد ألغت الثوابت الأصلية
وصاغت ثوابت جديدة. أولا لا يحق للمجلس الوطني الفلسطيني أن يتخذ قرارات
تناقض الميثاق إلا بعد تعديل الميثاق. دأبت المجالس الفلسطينية على تجاوز
الميثاق واتخاذ قرارات تناقضه ذلك لأنها كانت أداة ولم تكن مجالس حقيقية
ذات استقلال تشريعي. وثانيا لم تتوقف المجالس الفلسطينية عند حدود تنازلات
معينة وإنما استمرت في القفز عن قراراتها إلى أن ألغت الميثاق.
وأخيرا
أرى أن أهم أسس نجاح الإنسان على المستوى الشخصي والجماعي هو الصدق مع
الذات.
*استاذ
العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية- نابلس.
|