لا تاريخية التشكيك في المقاومة
د. عبد
الستار قاسم
صحيفة
الخليج الإماراتية 5/10/2004
من
الغريب على صفحات التاريخ أن تكون مسألة مقاومة الاحتلال أو الاستعمار أو
أي غزو كان موضع تساؤل. هل نقاوم أم لا نقاوم؟ المعروف تاريخياً أن الشعوب
أو المجتمعات التي تتعرض إلى هيمنة أجنبية أو تشريد من أي نوع كان تنهض
وتحاول أن تسترد حقوقها بمقاومة العدو التي تتعدد أشكالها. هناك شعوب
ومجتمعات لم تقاوم وفضلت الاستكانة فكان مصيرها الانقراض أو الذوبان في
مجتمعات أكثر قوة، أو الغياب بصورة أو بأخرى، وهناك مجتمعات استكانت تبعاً
لظروف معينة مثل الهنود الحمر. لكن النمط الذي ساد تاريخياً لدى الشعوب
التي أصرت على التحرر واسترداد الحقوق كان المقاومة بكافة أشكالها.
لا توجد
في صفحات التاريخ أمة استردت حقوقها أو طردت المستعمر من خلال الحوار الذي
يطلق عليه صفتا العقلانية والحكمة. لا مفر من الحوار لكنه كان باستمرار
مترافقاً مع وسيلة أخرى تقنع القوة الغاشمة بأن فشل الحوار ثمنه كبير. هناك
دول حصلت على استقلال شكلي مثل بعض الدول العربية، لكنها لم تحققه لا
بالحوار ولا بالقوة وإنما بإرادة الاستعمار نفسه الذي اختار ممارسة
استعماره بطريقة غير طريقة الوجود المباشر. خرج الاستعمار المباشر من هذه
الدول لكنها بقيت بلاداً مستعمرة. على أية حال، قد يجدي الحوار المستقل عن
الوسائل الداعمة، لكنه لن يأتي بالحقوق حسبما تشتهي النفوس.
شهد
التاريخ حواراً بين القوى الظالمة والمظلومة لكنه كان حواراً حقيقياً دعمته
القوى المظلومة بإرادة عملية صلبة في مواجهة القوى الظالمة. لم يكن مثل هذا
الحوار استجدائياً وإنما ندّياً وجد فيه الظالم نفسه أمام خيارين: إما رفع
الظلم أو دفع ثمنه.
من سوء
الطالع أن نجد على الساحة الفلسطينية من يصر على السير عكس التاريخ أو خلفه
ويرى ضرورة توقف المقاومة الفلسطينية. على الرغم من أن المقاومة عبارة عن
ظاهرة تاريخية موضوعية لا يستطيع أشخاص وقفها، إلا أن البعض يحاول السير في
ركب تلك الدول التي تجد في المقاومة تطوراً خطيراً على المشروع الصهيوني،
ويعمل على تصوير المقاومة على أنها سبب معاناة الشعب الفلسطيني.
من
المشروع أن نسأل عن فزع الولايات المتحدة و"إسرائيل" من المقاومة. هل حرصاً
على نفوس الفلسطينيين وراحتهم أم على راحة "الإسرائيليين"؟ لا شك في أن
المقاومة تؤدي إلى عمليات انتقام "إسرائيلية" حادة، ولا أظن أن الاحتلال
يمكن أن يقف مكتوف الأيدي أمام ضربات المقاومة الفلسطينية. إنه من المتوقع
أن تتصاعد وتيرة الانتقام الصهيوني مع تصاعد المقاومة الفلسطينية، وبالتالي
من المتوقع أن تزداد معاناة الفلسطينيين اليومية بسبب الإجراءات
"الإسرائيلية" المتنوعة في التضييق على الشعب. هذه هي المقاومة وما يصاحبها
من آلام. وسواء استمرت المقاومة أو لم تستمر، لن تتوقف "إسرائيل" عن مواصلة
سياساتها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني والمتمثلة بالقتل والاعتقال ومصادرة
الأراضي وهدم البيوت، إلخ. لقد مرت فترات طويلة من الهدوء على الساحة
الفلسطينية من دون أن تتوقف الإجراءات "الإسرائيلية" لحظة واحدة. فهل
يستسلم الفلسطينيون للعدوان في انتظار طاولة المفاوضات، أم سيدافعون عن
أنفسهم؟
أما فزع
الدول المختلفة من المقاومة الفلسطينية فناجم عن قدرة هذه المقاومة على
اختراق أهم أسس النظرية الأمنية "الإسرائيلية" ونقل المعركة إلى التجمعات
السكانية اليهودية. لم تعد المعركة دائرة في التجمعات العربية، بل دخلت إلى
تل أبيب وحيفا وبئر السبع، مما يجعل من أمن اليهود أمراً يستعصي على
الضمان. قامت الهجرة الصهيونية على أسس متعددة منها البحث عن الأمن، وإذا
كان لهذا الأمن أن يتبدد فمبرر وجود "إسرائيل" يتبدد أيضاً. ولهذا تفزع
الدول المناصرة لـ "إسرائيل" وتصرح بأنها حريصة على أمن الفلسطينيين الذين
يقتلون كل يوم. الحريص على أمن الفلسطينيين لا يسمح أبداً بكل أو بعض ما
تعرض له الشعب الفلسطيني من آلام.
الشعب
الفلسطيني يعاني بسبب الاحتلال والسياسات الداخلية الفاشلة، وإذا أراد
تخفيف المعاناة فأمامه ما يلي: ليدع التاريخ يعمل حسب قواه الموضوعية والتي
بالتأكيد تأكل من يتحداها، وليعمل على تطوير البرامج الاقتصادية
والاجتماعية والسياسية التي تخفف المعاناة، يستطيع الشعب أن يحمل بعضه
بعضاً، ويستطيع أن يقتسم اللقمة وأن يقتسم المعاناة، فمن كان قلبه على
الشعب الفلسطيني، بإمكانه أن يتأكد أولاً من أنه لا يوجد متخم ولا يوجد
جائع، وأن يحرص على حسن التوزيع وعلى حسن التوجيه حتى لا يدفع الشباب ثمناً
بلا مقابل يدفعه العدو. حياة شبابنا ليست رخيصة، ومن المفروض أن يتطور
برنامج ثقافي وأمني يصقل همتهم العالية في ردع العدو. من الملاحظ أنه في
هذه الذكرى السنوية للانتفاضة أن المقاومة الفلسطينية ما زالت مستمرة
وبتصاعد على الرغم من كل الإجراءات "الإسرائيلية" والتدابير والاحتياطات
الأمنية المكثفة. ظن كثيرون أن المقاومة ستخمد إثر اغتيال قيادات وأفراد
فصائل المقاومة، لكنهم فوجئوا بقدرة هذه الفصائل على تجديد نفسها
والاستمرار في المقاومة. ومن الملاحظ أيضاً أن المقاومة الفلسطينية قد
تجاوزت حد التردد أو النهوض والذبول، إنها الآن في مرحلة النهوض، أي
المرحلة التي لا تجدي معها كل أعمال القتل والتدمير الصهيونية. أصبحت
المقاومة في وضع راسخ وعلى أسس متينة بحيث إنها غير مرتبطة بشخص أو مجموعة
معينة من الناس.
مرت عدة
أشهر من دون أن تكون للمقاومة عمليات عسكرية موجعة، لكنه تبين في الأيام
الأخيرة أن فترة السبات ليست إلا فترة تحضير وليس احتضاراً. إنه من المحتمل
جداً أن يتم تطوير أسلحة فلسطينية جديدة وإدخال تحسينات على الأسلحة
الموجودة حالياً. "إسرائيل" تقتل وتدمر، لكنها في ذات الوقت تزرع المزيد من
بذور تأجيج المقاومة ضدها، وهي بهذا تمثل غباء القوة المحتلة التاريخي.
لتعرض عضلاتها كيفما أرادت، وستجد الشعب الفلسطيني صابراً وقادراً على
امتصاص الضربات وردها.
الناس
في الضفة الغربية والقطاع يتألمون ويحزنون، ومنهم من لا يجد المأوى أو لقمة
الخبز. هذا كله مرتبط في النهاية بالسياسة الفلسطينية الداخلية. هل ستعمل
السلطة الفلسطينية على تغيير ما هي عليه لتحرص على مصالح الناس ولتعينهم
على امتصاص ضربات الاحتلال؟ لا أعتقد أن هذا سيحصل.
|