تصاريح للخلوة الزوجية
بروفيسور عبد الستار قاسم
ذهبت إلى مصرف (بنك) فلسطين المحدود في نابلس لأحول لزميل لي في قلقيلية مبلغا بسيطا من المال (200 دينار). تعرف الموظف علي، فابتسم ابتسامة الذي يتوقع مني التعليق وقال: "هذه بحاجة لموافقة." نادى المراقب الذي تفحص الأمر وقال بأنه سيعرض الأمر. ذهب إلى من هو أعلى منه في السلم الإداري وجاءني بالموافقة على انتقال مائتي دينار من نابلس إلى قلقيلية. لم أقف في المصرف صامتا، مع علمي أن كل المصارف في فلسطين، وليس فقط مصرف فلسطين المحدود، تتصرف الآن وفق الإرادة الأمريكو-إسرائيلية. فهذه المصارف ليست أقدر من الجامعة العربية ورئيسها عمرو موسى.
عندما يجد العدو خصمه فأرا لا يهتدي من هلعه إلى جحره، أو أرنبا يمد رقبته أمام إغراء جزرة متعفنة، أو نعجة تتجمد أمام لعاب الذئب، فإنه يتمادى. إذا كان الرأسمالي مخنثا لا يعرف وطنا ولا عزة ولا كرامة، وإذا كان الموظف لا يجد عملا يقيت منه أطفاله وأهل بيته، وإذا كان المسؤول السياسي متاجرا بشعبه وأمته وقضاياها الوطنية والقومية والدينية، وإذا كان المواطن العادي يقاوم فقط برفع يديه إلى السماء، وإذا كان المثقف منافقا يبحث لنفسه عن حظيرة يتمطى فيها على آلام الناس، فما الذي يمنع العدو من الامتطاء وسوق الشعب وفق ما يريد؟ عرب يحاصرون شعب فلسطين، ومؤسسات مالية عربية تُحكم الحصار، وجامعة عربية لا ترى لنفسها دورا عربيا، وفلسطينيون يحاصرون فلسطينيين، ومسلمون يلاحقون مسلمين، وتهاو عربي مستمر لا كوابح له ولا فرامل سواء على مستوى الجماهير أو الأنظمة، فهل من المستبعد أن يشدد العدو من إجراءاته؟
سيحتاج الفلسطيني خاصة والعربي عامة في الغد غير البعيد تصريحا للخلوة الزوجية. مثلما تحتاج الآن أيها العربي إلى تصريح لترسل لأمك أو لأبيك أو لأخيك الفلسطيني المحاصر بضع دنانير لسد الرمق، فإنك ستحتاج غدا إلى تصريح بالزواج، وستحتاج المرأة تصريحا للاختلاء بزوجها. وكما أن طلبك اليوم بتحويل المبلغ البخس لأختك أو لابنك يُرفض، سيرفض طلبك الزوجي غدا. والمشهد ليس بعيدا بالنسبة لفلسطين والعراق وأفغانستان والصومال، لكنه لن يستني ابن الجزيرة العربية أو وادي النيل والمغرب العربي.
غدا ستصدر أمريكا وإسرائيل أوامر إلى الجمهور بألا يزوجوا المعتقلين والمعتقلات لأن الذين يتم اعتقالهم هنا وهناك عبارة عن إرهابيين، وكل من يزوجهم ابنته إنما لا يعمل على ملاحقة الإرهاب، ويختار أن يكون صهرا للإرهاب، وهو يستحق العقاب. وكذلك الأمر بالنسبة للإرهابيات اللواتي يجب أن يحرمن من نعمة الزواج. ستقول إسرائيل للفلسطينيين إنها ستمنع من السفر كل من يقبل بمصاهرة إرهابي أو إرهابية، وستطلب من السلطة الفلسطينية فصل من يقوم بذلك من عمله وحرمانه من شهادة "حسن السلوك" ومن تصاريح إقامة أشغال وأعمال يقتات منها، وهكذا.
سيقولون لنا إن الخلوة الزوجية تنطوي على مخاطر جسيمة لهم وتعمق التوجهات الإرهابية وتهدد أمنهم واستقرارهم وديمقراطيتهم. هنا أذكر المخاطر التالية:
أولا: ترفع الخلوة الزوجية من مستوى الألفة والمحبة بين الزوج والزوج مما يقود إلى تفاهمات عميقة وأعمال مشتركة قد يكون منها صناعة مجتمع متماسك ومتحاب ومتآلف. هذا يتناقض مع مسعى التفتيت الاجتماعي الذي تحاول إسرائيل وأمريكا تحقيقه عبر السلطات العربية التي تتقاضى الأموال والمتع لقاء ذلك.
ثانيا: على أغلب احتمال أن الخلوة الزوجية تؤدي إلى استرخاء الأعصاب والابتعاد عن الهموم المتواصلة التي يعيشها العربي والفلسطيني تحديدا. هذا يشكل خطرا لأن هدوء الأعصاب يؤدي إلى التفكير السليم والتروي واتخاذ القرار بهدوء مما قد يعزز قدرة العرب على المقاومة القائمة على مرتكزات علمية. من خطط الأعداء أن يبقى العرب والفلسطينيون متوترين حتى تبقى قراراتهم هوجائية وارتجالية وانفعالية.
ثالثا: تساهم الخلوة الزوجية في إنجاب أطفال قد يصبحون إرهابيين في المستقبل. فحتى تقطع إسرائيل وأمريكا دابر الإرهاب، فإنه لا بد من قطع دابر النسل. من المحتمل جدا ألا تكتفي إسرائيل وأمريكا بإصدار أوامر استعمال موانع الحمل الذكرية والأنثوية، بل ستجبران النساء على تقديم تقارير شهرية من أجل تحديد الموعد البيولوجي للخلوة والتي لا يمكن أن يتم الإخصاب خلالها. وليس من الضروري أن يتواجد مندوب إسرائيلي أو أمريكي لاستلام التقارير لأنه يتوفر لدينا ديوثيون من رؤساء وقادة عرب وأعوان لهم أكثر حرصا على انتهاك أعراض الأمة من اليهود والأمريكيين.
وقبل الزواج، من المحتمل أن يُطلب من كل من العريس والعروس الحصول على شهادة مخنث/ة من معتمد ثقة مشهود له بالسمسرة على أهل بيته.
هل سنجد التبرير لكل هذا؟ نعم سنجد. نحن نجد التبرير الآن للمصارف. يبرر لك الموظف العادي أسباب التزامه بتعليمات أمريكا وإسرائيل ويقول بأنها أوامر عليا. مدير الفرع المصرفي يقول بأنها أوامر عليا، وكذلك المدير الإقليمي والمدير العام. من الذي يأمر؟ هو ذلك الديوث الرئيس الذي يقف على رأس الهرم والذي يتلقى أوامره من السفير الإسرائيلي أو القنصل الأمريكي.
هل نحن الشعب نتحمل مسؤولية؟ نحن لا نتحمل مسؤولية فقط، وإنما نحن مجرمون فتحنا أبوابنا أمام كل البغاة. أغلبنا يتساءل عما بإمكانه أن يفعل وهو يعلم أنه غارق في النفاق والكذب والتزلف، مع الاحترام للقلة القابضة على الجمر والتي حتما ستنتصر في النهاية على كل المتخاذلين وعلى الحكام العرب وأعوانهم المدنسين.
|