التناقض في وثيقة الأسرى


بروفيسور عبد الستار قاسم

الاختباء وراء ما يظن الناس أنه مقدس أو من المحرمات التي لا يجب ألا تُمس عبارة عن سلوك عربي اعتيادي وتتم ممارسته يوميا. فمثلا يمكنإرجاع قول ما إلى أحد الصالحين أو أحد الصحابة لكي يُسكت المتحدث من يجادلونه، ويمكن الاستنجاد بعمل شخص يراه الناس بطلا لكي يكتسب القول أو العمل شرعية. هذا سلوك لا تشذ عنه
الساحة الفلسطينية. فمثلا، قامت بعض الفصائل الفلسطينية في الانتخابات الأخيرة بإدراج نساء شهداء في قوائمها الانتخابية على اعتبار أنسمعة الشهيد الطيبة قد تدر بعض الأصوات. ويتم أحيانا استعمال مقولات صدرت عن أناس عرفوا ببطولاتهم ضد الاحتلال لتبرير سلوك ما. هذا سلوك إجمالا غير علمي وهو يستعمل الرموزالتي قد تكون نبيلة لمصالح فئوية أو شخصية، وهو في الغالب عبارة عن استهتار بالمقدس الذي من المفروض أن يبقى فوق المصالح.
الآن يتم التمسك من قبل الرئاسة الفلسطينية ومن يساندها بوثيقة الأسرى بنوع من التقديس الذي يساعد على كسب تعاطف الشارع. يردد الرئيس الفلسطيني ومن معه بأن الأسرى هم أشرفنا وأحسن الناس فينا. هذا لنقل رسالة للناس مفادها بأن الوثيقة مقدسة لأن الذين صاغوها هم أشرف الناس، وإذا كان سيتم رفضها فإن الناس سيكونون غير أوفياء للشرفاء.
قضيت فترة لا بأس بها في المعتقلات الصهيونية، لكنني لم أجد أن المعتقلين هم أشرف الناس فينا. هناك معتقلون نبلاء ويحبون المعرفة والعلم، وهناك معتقلون غوغائيون يكرهون العلم والمعرفة. هناك المحترمون الذين يتعاملون باحترام مع الآخرين وهناك الذين لا يرغبون ببقاء المعتقلين هادئين. وجدت أن المعتقلين عبارة عن شريحة عادية من هذا الشعب الفلسطيني وهم يعكسونه بحلوه ومره، لا هم أشرف الناس، ولا الناس خارج المعتقل أشرف منهم. لقد كتبت ثلاثة كتب عن المعتقلات، واستنزفت أغلب جوانب الحياة الاعتقالية سواء تلك المتعلقة بتعامل الصهاينة، أو تلك المتعلقة بعلاقاتنا الداخلية. كتبت عن المعتقلات والمعتقلين أكثر مما كتب أي فصيل فلسطيني. لي كتاب بعنوان التجرية الاعتقالية وهومن 370 صفحة، وآخر بعنوان أيام في معتقل النقب وهو من 160 صفحة، وليالي تشارلي وهو من 120 صفحة.لا أحد ينكر تضحيات المعتقلين، لكن علينا ألا نخلط بينالتضحية والمعرفة، بين الالتزام الوطني والقدرة على التحليل العلمي. للتوضيح وليس للتشهير، أسوق التالي: كم من الفلسطينيين يعرفون أن في السجون لجنة اسمها لجنة الغش الوطنية، وهي اللجنة التي تنظم عملية الغش في امتحان التوجيهي؟ لقد كتبت حول هذه المسألة عام 1989 وقلت أننا نجعل من أنفسنا أضحوكة أمام الاحتلال. تم تهديدي بالقتل. وكم من الفلسطينيين يعلمون أن أبواب المعرفة الواسعة مغلقة أمام المعتقلين، وأن على كل معتقل أن يدرس وفق إرادة تنظيمه؟ وكم من الفلسطينيين يعلمون أن
معتقلي كل تنظيم يعيشون في غرف خاصة بهم؟ لقد لاحظت جيدا كيف يقوم الاحتلال بأبحاث علمية حول هذه السلوكيات الفلسطينية، وبالتأكيد هو يستفيد منها فيالتطبيق العملي ضدنا.
بالنسبة لوثيقة الأسرى، أنا كمدرس في الفلسفة السياسية، ألاحظ ما هو أقل من البساطة الفكرية والسياسية الموجودة فيها، مع احترامي للذين صاغوها. تحتوي الوثيقة أولا على عبارات حماسية لا يمكن أن يكون موقعها في وثيقة تتعلق بوضع فلسطيني حساس. يصلح الكلام الحماسي لخطاب سياسي، لكن الوثائق لا تفسح له مجالا. لكن الوثيقة تحتوي على بنود هامة ومفيدة للشعب الفلسطيني.

تتحدث الوثيقة عن حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، لكنها تطالب بالاعتراف بالشرعية الدولية. هذا تناقض لأن الشرعية الدولية التي تقودها أمريكا وإسرائيل والجوقة الأوروبية-العربية تعتبر مقاومة الشعب الفلسطيني إرهابا، وهي تطالب بوضوح من خلال اتفاقية أوسلو وطابا وخريطة الطريق ضرورة ملاحقة الإرهابيين
وتجريد فصائل المقاومة الفلسطينية المصنفة إرهابية من السلاح. كيف تصر على المقاومة، وتعترف بالشرعية الدولية في آن واحد؟من ناحية أخرى، طالبت الوثيقة بعودة اللاجئين الفلسطينيين لكنها تطالب بالاعتراف بالمبادرة العربية لحل القضية الفلسطينية. المبادرة العربية لا تطالب بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بيوتهم وممتلكاتهم في الأرض المحتلة/48. وثيقة الأسرى تتناقض في هذا مع ذاتها.
وثيقة الأسرى تؤيد المفاوضات بقيادة منظمة التحرير. المفاوضات لا يمكن أن تتم إلا بين أقوياء أو متوازنين بالقوة، وتلك المحادثات التي تتم بين قوي وضعيف ليست مفاوضات وإنما هي استجداءات من قبل الضعيف وإملااءات من قبل القوي. المفاوضات تفترض الندية، وهي تتطلب من الضعيف اكتساب القوة أولا قبل أن يزاحم من أجل الذهاب إلى طاولة المفاوضات. كنت أتوقع أن الذين صاغوا الوثيقة قد تعلموا الدرس جيدا من المحادثات الفلسطينية الإسرائيلية التي امتدت منذ عام 1991

لهذا، تقديري أن الوثيقة سياسية وليست وطنية وأن الذي صاغها لا يملك أي بعد استراتيجي، وأن عينه ليست نحو تطوير القدرة على مواجهة إسرائيل.
لا يمكن لأصحاب معرفة سياسية أن يقبلوا وثيقة تفيض بالتناقضات التي لا تخفى على بسطاء في العمل السياسي، لكن الساحة الفلسطينية لا تمتلئ بالكثير من العقلانية. ماذا تريد الوثيقة؟ هل تريد الحقوق الفلسطينية أم الشرعية الدولية
والمبادرة العربية؟ لا أظن أن الساحة الفلسطينية معنية بالتفكير العلمي، وإنما هي معنية بالمناكفات الفصائلية والنزاعات الداخلية التدميرية. فمهما كان صوت العقل قويا، فإنه يبقى ضائعا في صخب الطوشات القبلية.
 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع