في فلسطين الآن.. تموت القضية مع الفساد
الحياة
اللندنية - خالد الحروب
هل يمكن
أن يُهزم إحتلال، أي إحتلال، بجيش فاسد، ووضع فاسد وقيادة فاسدة؟ بالطبع
لا. لكن مع ذلك يأتي ثمة جواب يقول: الإحتلال هو سبب كل شيء بما فيه فساد
الجيش وفساد الوضع وفساد القيادة! لولا الإحتلال لما نشأ الفساد، إذن نتخلص
من الإحتلال أولاً (بالجيش والقيادة الفاسدة) ثم نصلح الفساد! كيف يمكن أن
تتم تلك المعادلة المستحيلة، الله وحده أعلم! الوضع الفلسطيني قبل قيام
السلطة ومرور عشر سنوات على الأداء المتردي كان أفضل ألف مرة مما هو عليه
الآن. كانت هناك بوصلة موحدة، قضية واضحة، كان هناك تضحية وإنكار للذات،
وكان هناك أمل. الآن يكاد يقضي الفساد على كل رقعة أمل في الحلم الفلسطيني.
ما نشرته «الحياة» في ملحق «الوسط» بتاريخ 16 آب (أغسطس) 2004 من مقتطفات
من ملفات الفساد المعروضة على المجلس التشريعي تقشعر له الأبدان. تقول إحدى
الفقرات إن عدد التهم الموجهة إلى أحد كبار مسؤولي الأمن هي 41 تهمة، ليست
تهمة أو تهمتين، ليست شبهة يمكن أن يكون مصدرها مغرض أو منافس أو حاقد، بل
واحد وأربعين تهمة دفعة واحدة. تتنوع التهم من إختلاس مئات الألوف من
الدولارت، إلى الإبتزاز، إلى التورط في قتل الشهود، إلى الإغتصاب الجنسي،
إلى الإتجار بالمخدرات، إلى التعاون والمتاجرة مع المستوطنين، إلى التغطية
على العملاء والمساهمة في تهريبهم من العقاب، وإلى كل ما قد يخطر على بال
عتاة المجرمين.
الملفات
المشار إليها تشير إلى عشرات بل مئات من المتهمين الذين تنافسوا في سرقة
المال الفلسطيني على حساب المناضلين الحقيقيين وعلى حساب الشهداء وعلى حساب
ألوف العوائل الفقيرة والصابرة. تغص الملفات بالمحسوبيات وتعيينات المقربين
والأبناء الفاشلين في أرفع المناصب على حساب الكفاءات الفلسطينية في الداخل
والخارج. ملف الأسمنت المصري لوحده يجب أن تسقط جراءه عشر حكومات دفعة
واحدة. كيف برب فلسطين يمكن أن يستمر مسؤولون فلسطينيون في مناصبهم ومنهم
«مستشارون للرئيس» بعدما تلوثت أيديهم بتوريد الأسمنت وتسريبه إلى إسرائيل
للمساهمة في بناء جدار الفصل العنصري؟ كيف يمكن قبول إستمرار التعمية على
كل ذلك والإختباء خلف الشعارت الكبرى، أو خلف «القائد الكبير» والتهرب من
القانون والمحاسبة، حتى لا نقول الضمير الوطني.
كل ذلك
حدث ولا زال يحدث تحت مرأى ومسمع القيادة. والمسوغ الأكبر وراء ذلك هو
التذرع بالإحتلال الإسرائيلي. إنه الإبتزاز الوطني والقيمي والسياسي الذي
يستخدم لإتهام كل من يريد إعادة صوغ الأجندة الوطنية. فما نراه الآن هو أن
رئيس السلطة الفلسطينية نفسه يدافع عن الفاسدين الذين يتحكمون في المصير
الفلسطيني سياسياً وأمنياً وإجتماعياً وإقتصادياً، ويقول هم جزء من الشعب
الفلسطيني. يرفض أن يوقع على أية لوائح قانونية تقضي بمحاسبتهم محاسبة
حقيقية. يقول، ويقول كثيرون معه، إن فتح ملف الفساد الآن هو مؤامرة هدفها
تحويل الأنظار عن القضية المركزية وهي الإحتلال الإسرائيلي والسياسة
الشارونية الراهنة. يقول، ويقول كثيرون معه، إن الفساد مستشرٍ في معظم إن
لم يكن كل الدول العربية، ومنها تلك التي تنتقد الفلسطينين، فلماذا لا يتم
التركيز إلا على السلطة الفلسطينية وإتهامها؟ ولماذا الآن بالذات؟ كل هذا
التبرير لا معنى له لأن الفساد الراهن الذي صار عمره السرطاني عشر سنوات
يقضي على كل همة فلسطينية لمقاومة الإحتلال الإسرائيلي سواء عسكرياً أم
سياسياً.
والمشكلة التي يطرحها سؤال «لماذا الآن بالذات» هي نفسها التي طرحها وما
زال يطرحها السؤال نفسه عندما يُطالب بإصلاح الوضع في أي بلد عربي لإثارة
الشبهات وللإبقاء على الوضع القائم الفاسد بمسوغات مواجهة إسرائيل و«حساسية
ودقة المرحلة». إستمرت «المرحلة» المذكورة أكثر من نصف قرن خسر خلالها
الفلسطينيون والعرب الأرض والحرب والإنصار في كل مكان، وبقي الظلم
والإستبداد والدكتاتورية. سؤال «لماذا الآن بالذات» سؤال تعجيزي فارغ يطلق
وسيطلق في وجه كل من يطالب بالتغيير ومحاربة الفساد في كل «آن». فلسطينياً،
ثمة في كل وقت وفي كل «آن» «ظروف حساسة» تمر بها القضية تستوجب عدم فتح هذا
الملف أو ذاك والتركيز على قضية الإحتلال الإسرائيلي والعدو الرئيس. وفي كل
«آن» ستظل إسرائيل تتآمر وتخطط وتستغل هذا الظرف أو ذاك. إن أردنا إنتظار
الوقت و«الآن» الذي تتوقف فيه إسرائيل عن ذلك حتى نتنفس ويُتاح لنا معالجة
الفساد فسننتظر إلى يوم الدين.
عدم
"ملائمة التوقيت" لفتح هذا الملف أو ذاك هو نفس التسويغ الذي كلف الشعوب
العربية أثمان باهظة في سكوتها على أنظمتها لأن «الوقت» غير مناسب للثورة
عليها وإقتلاعها من الجذور. على العكس من ذلك تماماً، إن «الآن»،
فلسطينياً، هو فعلاً الوقت الضاغط الأكبر لفتح ملف الفساد الأسود وعدم
إغلاقه من دون محاسبة كل الرؤوس الكبار مهما كبرت في المسؤولية والمنصب.
فهذا الملف البشع هو الذي حطم ويحطم أي إنجاز فلسطيني على صعيد القضية
الرئيسة والصراع مع إسرائيل. فلا يمكن أن يُدار صراع مع طرف متوحش وشرس مثل
إسرائيل يعرف أدق تفاصيل الصف الفلسطيني وتركيبته القيادية وإستشراء الفساد
فيها، ونقاط الضعف، والرموز الرخيصة التي بالإمكان شراء ذممها، وأن يتحقق
أي أنجاز أو نصر مهما كان ضئيلاً. إننا نخدع أنفسنا عندما نحول أبصارنا نحو
إسرائيل ونقول علينا أن لا ننشغل بالقضايا الهامشية التي ستستنزف الجهد
والطاقة اللذان يجب أن يوجها إلى الصراع مع إسرائيل. عندما يتخذ الفساد
شكلاً سرطانياً، لا يعود بالإمكان تحقيق أي خطوة فعلية على الجبهة الأهم،
فالجسد المنهك لا يتحرك، فإما أن يتم إستئصال السرطان منه أو يموت.
الفساد
في السلطة الفلسطينية وصل حداً لا يمكن السكوت عنه. والمنشور في الصحف أو
الذي يتم تسريبه من داخل أجهزة السلطة ويقوم به أفراد هالهم رؤية ما وقعت
عليه أيديهم يفقد الحليم حلمه. بل إنه يفرض إعلاء الصوت لإعمال الشفافية في
هذا الملف وكشفه أمام الشعب الفلسطيني عوض التستر عليه في أضيق دوائر ممكنة
وكأنه لا يهم الرأي العام. ما الفائدة من المجلس التشريعي برمته إن لم يكشف
هذه الملفات للشعب. إن القليل مما هو متوفر من معلومات يُشعر أي فلسطيني أو
عربي أو مؤيد للقضية الفلسطينية بالمرارة والحنق. فمئات التهم الموجهة إلى
قيادات عديدة يُفترض أن تكون على رأس مشروع الصراع مع إسرائيل تتضمن
الإستيلاء على ملايين الدولارات على حساب مئات الالوف من فقراء فلسطين.
وتتضمن تهماً بـ «البلطجة» يقوم بها مسؤولون أمنيون في قطاع غزة والضفة
الغربية يكون ضحاياها مواطنون لا حول لهم ولا قوة، يتم مصادرة أموالهم أو
ممتلكاتهم أو مصانعهم لأن المسؤول المعني يريد أن يشاركهم فيها من دون وجه
حق. هناك تهم لمسؤولين بإغتصاب القاصرات وإستخدام نفوذهم ومناصبهم لإشباع
رذائلهم وبذاءاتهم عن طريق إبتزاز الفقيرات أو النساء من أية شريحة بما
فيهن زوجات الشهداء. هناك تهم بالإتجار بالمخدرات والحشيش والخمور والإثراء
الفاحش نتيجة ذلك، والقيام بكل تلك الصفقات من مكاتب المسؤولين الذين لا هم
لهم سوى نفخ جيوبهم بالمال الفاسد والمفسد. هناك تهم بوجود علاقات مريبة
ومشبوهة بين مسؤوليين أمنيين وزعماء المستوطنين في قطاع غزة، تتضمن تلك
العلاقات السماح لعناصر فلسطينية تابعة لهذا «الزعيم الأمني» أو ذاك
بالدخول إلى المستوطنات والتبادل التجاري الأسود مع المستوطنين وتزويدهم
بما يريدون. هناك تهم بإستشراء التعيينات غير القانونية لأفراد لا يستحقون
المناصب، مدراء أو نواب مدراء لمؤسسات غير حاصلين إلا على الثانوية العامة
لأنهم مدعومين من قبل هذا المسؤول أو ذاك، بينما تنتشر البطالة في صفوف
حملة الدكتوراة ممن تنطبق عليهم مواصفات المنصب ذاك أو الوظيفة تلك. هناك
تهم لمسؤولين عينوا زوجاتهم (الأولى والثانية في بعض الحالات!) وأبناءهم
وأبناء عمومتهم في وظائف لا يستحقونها وعلى الورق فقط حيث يستلمون الرواتب
المجزية وهم في بيوتهم، بل إن بعضهم يعيش خارج فلسطين أصلاً. هناك تهم
وحقائق، يتمنى المرء أن لا تثبت، تحدد مسؤولين وأسماء كبار ممن لهم علاقات
وطيدة مع شبكات العملاء، حيث سهلوا لهم تحركاتهم مقابل رشوات كبيرة. ومعنى
تسهيل تحركات العملاء هو تزويد أجهزة الأمن الإسرائيلي بمعلومات أكثر وأدق
عن تحركات القيادات والعناصر الفلسطينية المخلصة لإغتيالها والقضاء عليها.
كل هذا
وغيره كثير مما تقشعر له أبدان المخلصين لا دخل لإسرائيل به، ليس دفاعاً
عنها، بل لقطع الطريق على أي تعذر تافه أو تهرب من المسؤولية. بل حتى لو
فعلت إسرائيل كل ذلك وسهلته وساهمت فيه فإنها لا تلام، فهي العدو الواضح
الملامح الذي لا يتوقع منه غير ذلك. لكن الطرف الذي لا يمكن أن نتوقع منه
التغافل عن ذلك وغض النظر عنه وتجاهله هو السلطة الفلسطينية ومجلسها
التشريعي وكل أجهزتها. لا يمكن لأي مشروع وطني فلسطيني أن يحقق أي نجاح
معتبر وهذا الفساد يضرب أطنابه على الواقع الفلسطيني جملة وتفصيلاً.
أي
تبرير لما يحدث مرفوض، وأي تبرير أو تسويغ لمحاولة الإفلات من فتح ملف
الفساد الفلسطيني يجب أن يرفضه المخلصون في الصف الفلسطيني والعربي. فالفئة
الفاسدة في أوساط السلطة الفلسطينية شوهت القضية الفلسطينية، وشوهت الوجدان
الفلسطيني، وشوهت الحلم الفلسطيني، وشوهت صورة الفلسطيني في العالم. عندما
نسأل كثير من أنصار القضية الفلسطينية من الغربيين الذين يذهبون إلى فلسطين
للمرة الاولى عن إنطباعاتهم، نجد أن أكثر الإنطباعات سوءاً هي تلك التي
تتعلق بالمسؤولين. يقولون لنا: إنهم يعيشون حياة باذخة لا تناسب حياة مجتمع
يعيش تحت إحتلال وحشي. يقولون: كيف يمكن أن يضحي أو يمكن توقع التضحية من
قبل قيادي يحيا في قصر منعم ويتنقل بعدة سيارات فارهة مع أتباع ومرافقين
وكأنه شبه ملك؟
أولوية
الأولويات الآن هي تنظيف البيت الفلسطيني، وإعادة البهاء للفلسطيني الثائر
والمناضل الذي كان ولا يزال يقدم أغلى ما يمكن من أجل فلسطينه. المطلوب هو
تقديم صور المخلصين الذين هم في الصفوف الخلفية يقارعون العدو بإخلاص منقطع
النظير ولا تقع عيونهم على مكتسبات ومنجزات شخصية. المطلوب إعادة هيكلة
الجسم الفلسطيني قيادة وقاعدة على أساس نظافة اليد والسلوك، لأنه من دون أن
يكون الجسم سليماً وصحياً فإنه لن يقوى على مصارعة عدوه. ومن دون ذلك ستظل
القضية الوطنية الفلسطينية الناصعة العدالة تأن تحت فشل القيادات وفسادها،
وبالتالي إنفضاض المؤيدين من حولها.
|