بعض مشاهد اليوم التالي لإفشال «حماس»


محمد خالد الأزعر

صحيفة الحياة اللندنية 30/4/2006

تحالف الحرب على «حماس» يتحرق شوقاً للحظة وصولها إلى طريق مسدودة وانهيار حوائط الصد المادية والمعنوية التي تتوسلها في المواجهة غير المتكافئة معه. بعض أعضاء هذا التحالف غير المقدس يتوقعون هذه اللحظة في غضون ثلاثة أشهر. في هذا السياق المخجل، تستأثر الضغوط الاقتصادية والمالية والسياسية بقسط وافر من أدوات هذه الحرب على جانبي الأطلسي، بينما يتيح الوضع اللوجستي لإسرائيل إضافة الأداة العسكرية، علاوة على تقطيع سبل الاتصال بين حكومة «حماس» وشعبها، وكذلك بين وزراء هذه الحكومة ومسؤوليها أنفسهم.

لا يستثني «غزاة حماس» من ضرباتهم الجبهة الداخلية الفلسطينية، وهذا ما يؤكد أنهم يقصدون إيلام هذه الجبهة عمداً ومعاقبتها، لكي تندم أولاً على سوء اختيارها الانتخابي، ثم لئلا تعود ثانية إلى فعلتها هذه في أي جولة انتخابية تالية. ويدرك هؤلاء الغزاة تماماً معنى الطرق على أعصاب فلسطين المالية والاقتصادية العارية حتى العظم بفعل خصائص ليس هنا مقام الإفاضة حولها.

لو كنا في عالم ينتصر للنظام والقانون وشرعية التحضر، لحقت إقامة دعوى جنائية دولية على الداعين لمقاطعة شعب فلسطين، وتعريض وجوده للخطر، وهذه جريمة ضد الإنسانية، وستكون هذه الدعوى مبررة إذا ما استندت إلى أن «حماس»، الحركة والحكومة، لم تتعرض لطرف من غزاتها بأي نوع من الأذى. وفي هذا الإطار، يمكن إخضاع مواجهة «حماس» لإسرائيل للجدل، شريطة أن يكون هذا الجدل موصولاً بفقه الاستعمار والتحرير ومنطقه وقوانينه.

في غياب الروادع القانونية والأخلاقية الإنسانية أو تغييبها بسيف القوة العارية، تحاول «حماس» الصمود بما تيسر لها من وسائل، أهمها حض شعبها على الصلابة واستنفار طاقته لربط الأحزمة والرباط، واستفزاز نخوة ظهيريها العربي والإسلامي، شعبياً بالذات، علاوة على التشهير بالغزاة وفضح خطابهم المتهافت المراوغ عن الديموقراطية ومواثيق حقوق الإنسان والشعوب، ويؤكد قادتها أن حكومتهم باقية ولن تنهزم أمام الضغوط وستكمل ولايتها للسنوات الأربع المقبلة، ساخرين بذلك من مزاعم سقوطها في أجل قريب. لكن لنفترض على سبيل الجدل والتناظر الصوري أن التحالف إياه تمكن من مغالبة «حماس»، وأجبرها على مغادرة مقامها في السلطة الفلسطينية، ترى ما التداعيات التي قد تتأتى عن حال كهذه؟!



أولاً، لا نعتقد أن سواد الفلسطينيين يُلقون راهناً باللائمة على «حماس»، باعتبارها مسؤولة عن ضائقتهم المالية والاقتصادية ومحاصرتهم سياسياً، كما لا نعتقد أنهم سيفعلون ذلك مستقبلاً، فهم من الذكاء المجبول بالتجربة والمراس، بحيث يعرفون ما يدور حولهم جيداً. الأرجح أن تتعاظم لديهم صورة هذه الحركة عن البطولة، كونها لم تنحن للإملاءات التي يراد فرضها عليها ولا خانت برنامجها ولا غادرت خنادقها السياسية الأيديولوجية تحت إغراء السلطة أو طمعاً في ديمومة المكانة التي بلغتها بنضال مرير.

وسيقر أكثر في ذهن الفلسطينيين الجمعي أن «حماس» قدمت طموحاتهم وآمالهم وحقوقهم الوطنية على الغايات والمكاسب الفئوية الحزبية الضيقة والمتغيرة. وربما ترسخت أقدام الحركة مقارنة بأندادها ومنافسييها بين يدي الرأي العام الذي سيتذكر طويلاً كيف رد هؤلاء دعوتها ويدها المبسوطتين بنداء الوحدة الوطنية بذرائع رخوة سهلة التجاوز.

ولأن «حماس» لم تختبر في الحكم في شكل حقيقي ولا هي حازت على موارد كثيرة أو قليلة يجري التأمل في كيفية التصرف بها أو محاسبتها عليها ومساءلتها عنها، فستظل مبرأة من شبهة الفساد والإفساد المالي والإداري والمساومة بالمواقف السياسية التي لحقت بأسلافها. وستكون هذه الصورة عاملاً يضيف إلى رصيدها في الخيال الشعبي، ولن يتمكن المرجفون بحقها من العثور على قرائن تشينها أو تدحض صدقيتها الوطنية والأخلاقية.

ولعل أخطر ما قد يتخلف عن إفشال «حماس» فلسطينياً هو الإضرار بمفهوم الوحدة الوطنية بين القوى السياسية، وتداعي الجروح على هذا المستوى إلى العمق الشعبي، إذ لن تعدم «حماس» من يبلغ بهم الغضب من تجربة الإفشال طور محاولة الانتقام
المضاد
ممن سيليها في الحكم وشن هجوم ثأري متعدد الأبعاد للنيل من صورة الوريث ومكانته. بل وربما لا يخلو المجال السياسي والشعبي الفلسطيني من جماعات تجرم هذه الوراثة وتعدها لا شرعية، وصولاً إلى التشكيك في وطنية الوارثين وتخوينهم والدعوة لنبذهم كمتواطئين ضد الشرعية الانتخابية لـ «حماس»، ساعدوا معسكر الأعداء على إسقاطها لمجرد استعصامها بالمصالح والحقوق العليا للشعب. وقد يساعد على توسيع شقة الصدوع الوطنية إفلات زمام التوجيه والسيطرة من أيدي عقلاء «حماس» وبراغماتييها، في مقابل استقواء متشدديها أيديولوجياً وأتباعهم ممن سئموا ضبط النفس وكظم الغيظ والصبر على كيد بعض شركاء القضية. وفي حال كهذه، ستمس الساحة الداخلية في مكان قريب من الالتهاب والسخونة وقابلية الاشتعال، ولن يكون يسيراً على حكماء الداخل الدعوة إلى الالتزام بأي تهدئات مع العدو الإسرائيلي الذي سيجد فيه الجميع متنفساً لكل الاحتقانات بعدما سدت في وجوههم آفاق تسوية مرضية.



ثانياً، ستتفاقم إلى أقصى الحدود قضية عدم الثقة في دور القوى الغربية الوسيطة والمانحة بعامة، ولن يقتنع الفلسطينيون إطلاقاً، بمن في ذلك بعض المتواطئين مع غزو «حماس»، بحسن نيات هذه القوى. وسينظر إلى تسييل المعونات وإعادة انسيابها بعد أفول عهد «حماس» على أنه ثمن بخس ومشبوه لقاء التنازل عن أهداف وطنية حساسة، وسينتهي عموماً زمن التكاذب والنفاق في شأن الأجندة الحقيقية للدول المانحة. وسترتفع حساسية الرقابة الشعبية على توجهات النخب الفلسطينية التي ستخلف «حماس». ولن تثير الدعوة إلى الإصلاح السياسي الديموقراطي والاقتصادي في الوسط الفلسطيني سوى السخرية والاستهجان، وربما تلصصت نداءات متهورة من لدن أجنحة في «حماس» بالتعرض المفتوح للمصالح الغربية والإقلاع عن تقليد حصر معركة التحرر في حدود فلسطين.

هنا، ستجد التنظيمات الإسلامية العالمية الطابع والشديدة الدوغمائية الموصوفة بالتطرف والإرهاب، أرضية خصبة للانتشار في الرحاب الفلسطينية. وسيكون أتباع بن لادن، والظواهري، والزرقاوي، بين الشامتين، الساخرين من «اعتدال حماس» المستعدين لتلقف الغاضبين الجدد في حوزتهم. ومع أن تحالف غزو «حماس» سيعجل باتخاذ خطوات استدراكية تعد الفلسطينيين بعد «هوجة حماس» بمكافآت مالية واقتصادية وربما سياسية، إلا أن هذا التوجه لن يفي بغرضه في إزالة ما علق بالوجدان الفلسطيني من سيئات أعمال هذا التحالف. ولن يساعد في هذه الإزالة أيضاً، اعتزاز "إسرائيل" بأنها تمكنت من اعتصار الفلسطينيين ولي عنقهم وتجييش فواعل دوليين أشداء ضد «متطرفيهم» وذهابهم إلى مزيد من سياسات الخنق ضدهم، أملاً في وضع حد نهائي لقضيتهم طبقاً لمخططاتها الأحادية.

مثل هذا المناخ المحموم والمسموم، لن يوفر فرصاً مناسبة للشروع في تسوية مقبولة فلسطينياً. على الأقل لأن ورثة «حماس» سيتحسبون أكثر لمواطئ أقدامهم، درءاً لشبهة التهاون الوطني والانصياع للقوى الضالعة في إزاحة منافسيهم (حماس)، وكذا لعلمهم بأن ذمتهم وأمانتهم الوطنية موضوعة على محك الامتحان على نحو لا سابقة لهم به.



ثالثاً، سيتعرض الظهير الرسمي العربي لمحنة متعددة الجوانب. فمن جهة، ستحلق مجدداً في الأفق الفلسطيني النظريات المشككة في صدقية هذا الظهير وسلامة نياته إزاء إسناد القضية الفلسطينية. وسيتجدد الدفع بتخلي النظم العربية عن فلسطين أوقات الجد، وبأن النظام العربي أسهم في إسقاط خيار الشعب الفلسطيني الديموقراطي يوم وقف بميوعة وعجز إزاء تجويع هذا الشعب. وعليه، فلا خير يرجى من هذا النظام وما على الفلسطينيين سوى المضي في توجهاتهم المفرطة في قطريتها غير منتظرين مدداً عربياً لن يسعفهم في أيام العسر.

ومن جهة أخرى، ستغذي قضية غزو «حماس» وإفشالها الجدل الساخن أصلاً حول صحة الميل للاعتدال لدى بعض أجنحة التيار الإسلامي، ومدى نجاعة الاحتكام لصناديق الاقتراع ضمن آليات الممارسة الديموقراطية ودولة النظام والقانون. بمعنى أن تجربة صعود «حماس» وأفولها لن تمر كسحابة صيف، وإذا كانت فرصة الأجنحة المتشددة المغالية في خطابها «الإسلاموي» ستتسع في الرحاب الفلسطينية، فإن الفرصة ذاتها وزيادة ستلوح لمثل هذه الأجنحة في الصعيدين العربي والإسلامي.

في كل حال، ستذهب آثار عملية إفشال «حماس» إلى كل الدوائر المعنية بالقضية الفلسطينية. وحتماً لن يعود المشاركون في هذه العملية إلى قواعدهم سالمين غانمين، وربما جاز وصف وصول «حماس» إلى مركز السلطة الفلسطينية بالانقلاب الأبيض، لكن إزاحتها عن هذا المركز بأدوات القسر ستمثل حتماً انقلاباً أسود.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع