التحركات الفتحاوية في غـزة
مأزق جـديد للسلطة أم تعبير متفجر عن الأزمة الكامنة
[7/27/2004]
محمـد
العبـد اللـه
تشهد أراضي السلطة الفلسطينينة منذ أسبوعين تقريباً ، تحركات واسعة ، جاءت
في تعبيرها ، الظاهر والمباشر ، بحجز غازي الجبالي ، الشخصية القيادية داخل
الأجهزة الأمنية المرتبطة بالرئيس ، لتتفاعل الإجراءات والتحركات مابين
مركزي القرار ( المقاطعة في رام الله ، وقادة التحرك في غزة ) لتعلن للجميع
أن " مفهوم التعايش" الذي حكم العلاقة بين الطرفين قد وصل إلى طريق مسدود ،
مع إقتراب موعد الإستحقاقات المرتبطة بالتمهيد لتنفيذخطة شارون بالإنسحاب
من القطاع ، وحرص الأطراف المتحكمة بعملية " السلام " ( الدولية والإقليمية
) على صياغة الوضع المستقبلي داخل المنطقة التي ستـُخليها قوات الإحتلال
وقطعان المستعمرين ، بالأدوات والخطط التي تتوافق مع برنامجها المرسوم
للمنطقة .
وقد جاءت الأحداث المتسارعة في العديد من مناطق القطاع ، لتعلن عن بدء
مرحلة جديدة في الصراع الداخلي الفلسطيني ، وبالتحديد ، داخل " البيت
الفتحاوي " الذي يشهد منذ سنوات عديدة تحركات واضحة ، خاصة مع التواجد
المميز ، والدور الأساسي لحركة فتح داخل التجمع الوطني الفلسطيني ، الذي
أوجد التماهي الكامل بين الحركة وأجهزة السلطة ، فهذا التطابق بأشكاله
المتعددة ، أتاح للعديد من القيادات الحركية التحكم بالمفاصل المركزية في
بنية الأجهزة التي أوكلت لها إدارة الشؤون السياسية _ الإقتصادية _ الأمنية
، وقد تنامت هذه التحركات في ظل انعدام الحياة التنظيمية ( آخر مؤتمر
للحركة كان قبل خمسة عشر عاماً ) وغياب دور الهيئة الجماعية المقررة ، وهو
الذي " يعوضه تاريخياً " دور الفرد / الرمز ،مع إنتشار كبير لنهج داخلي
يقوم على عدم التقدير للعديد من أعضاء اللجنة المركزية الحاليين، والتباين
الواضح في البنية الفكرية _ الثقافية التي يستند عليها التوجه السياسي داخل
العديد من التشكيلات الحركية التنظيمية ، كل هذا يتفاعل في ظل حملات الغزو
والقتل والتدمير الوحشية التي يقوم بها جيش العدو ، والذي ألحق ضربات قاسية
في بنية المجتمع الفلسطيني ، وبالتالي داخل التشكيلات المقاتلة الحركية ،
إضافة للإرباك الكبير الذي أوصل العديد من المؤسسات إلى العجز والشلل
الكامل ( آخر دورة للمجلس الوطني كانت عام 1996 ، وللمجلس المركزي قبل ثلاث
سنوات ) ولوجود الرئيس / الرمز الممسك بكل مفاتيح العمل المركزية رهن
الإعتقال منذ سنوات ، داخل جدران المقاطعة ، ضمن بضعة أمتار مربعة !. وقد
ترافق كل ذلك بأزمات متلاحقة ومتعاظمة تواترت على المواطنين في كل المدن
والقرى والبلدات التي كانت خاضعة لإدارة السلطة في الضفة والقطاع ، مما
انعكس فقراً مدقعاً على الوضع الإقتصادي ، خاصة على سكان القطاع ، في
مفارقة واضحة تمثلت في زيادة عدد " القطط السمان " التي تتباهى بامتيازاتها
الموغلة بالثراء الفاحش والإستفزازي ( الفيلات الضخمة ، السيارات الفارهة ،
النمط الإستهلاكي لعائلات المسؤولين ، الإدخارات البنكية .... ) مما عكس
نفسه في حالة إجتماعية مأزومة ، تقف على بعد خطوات من لحظة الإنفجار
الإجتماعي، الذي وجد تنفيساته في عدة تحركات محدودة خلال الأشهر الأخيرة (
مظاهرات عمال غزة العاطلين عن العمل ، التي رفعت رغيف الخبز بيديها ) توحدت
جميعها تحت شعار مركزي هو محاسبة الفاسدين ، وضبط وترشيد عمليات صرف المال
العام ، وجعل شعار : " من أين لك هذا " المدخل الأساسي للمحاسبة .
وعلى الرغم من وضوح هذه السمات التي طبعت المجتمع الفلسطيني طوال
السنوات الأخيرة ، إلا ّ أن توقيت تفجرها العنيف الآن ، يدفع العديدين من
المراقبين والمهتمين بالوضع الداخلي للتساؤل عن الجهة التي حركتها ،
والأهداف التي تريد تحقيقها من وراء ذلك .
من المؤكد أن محمد دحلان القائد السابق لجهاز الأمن الوقائي في القطاع ،
والوزير في حكومة محمود عباس يقف وراء الأحداث الأخيرة ، بل إنه " مايسترو
تحركها " محاطاً بمجموعة من القيادات الفتحاوية التي تتبنى الموقف السياسي
والرؤية التنظيمية لذلك التكتل الذي بدأ يعبر عن نفسه من خلال الأسماء
المعروفة داخل أجهزة السلطة السياسية والأمنية والمالية ( محمود عباس ،
محمد دحلان ، محمد رشيد " خالد سلام " ) وقد استغلت قوى التحرك الراهن ،
الوضع المأزوم والمحتقن للجماهير الفقيرة و المعدمة ، لتدفع بها للشوارع
للتحرك تحت يافطة مكافحة الفساد وضرورة طرد كل المفسدين ، هذه الشعارات
التي ينطبق عليها بكل موضوعية التفسير المتداول شعبياً ( إنها كلمة حق ،
يراد بها باطل ) لأن محاربة الفساد والمفسدين لاتكون بأدوات ورموز ، فسادها
وفجرها ، لايمكن أن تحجبه كل العبارات التي تدغدغ مشاعر و" بطون " فقراء
شعبنا ، وهو ماتشاهده عيون سكان جباليا والنصيرات والقرارة وخانيونس وحي
البرازيل والزيتون والأمعري وبلاطة وعسكر وعايدة ، من سلوك وممارسات " طبقة
" الفاسدين في أكثر من مكان وموقع .
وقد جاء الحديث الصحفي لدحلان مع جريدة " الحياة " المنشور يوم الأحد 25
الجاري ليشير إلى " تنظير " جديد ، لوصف التحرك / الهزة بالقطاع ( الهبة
الإصلاحية جاءت بعد عشر سنوات من المطالبات المتكررة ) ويسأل العديدون : هل
الإصلاح يكون بالإختطاف والرصاص وترويع المواطنين وحرق الأملاك العامة وحجز
مناصري الشعب الفلسطيني " الفرنسيين " ، وهل هي رسالة جوابية إستنكارية
أراد تقديمها قادة التحرك للحكومة الفرنسية التي أصرت على أن يزور وزير
خارجيتها أبو عمار بالمقاطعة ، ليعرب له عن إستهجان وإدانة فرنسا لسياسة
عزله .
وقد
عبر في أكثر من مكان في مقابلته الصحفية تلك إلى العديد من المسائل
الخلافية الداخلية ، على الرغم من محاولاته المتكررة للإبقاء على رمزية أبو
عمار ! لولا أن بعض الكلمات أفصحت حقيقة عن موقفه تجاه " الرئيس " ( ليس
لدي مشكلة مع أبو عمار ، مشكلته مع الشعب ... ) ثم ينتقل ليدعو أبو عمار
إلى ( أن يقف ويفكر في مستقبل شعبه بعيداً عن الوساوس والدسائس ... ) في
نبرة تحمل الكثير من النقد والتوجيه و " الأستذة " . وقبل أن يختتم اللقاء
الصحفي يرد على سؤال محدد : سيد دحلان يقال بأنك رجل الولايات المتحدة
الأمريكية ، فيرد قائلاً ( الولايات المتحدة فاشلة في كل شيء وليست نموذجي
... ) وهنا يتبادر إلى الذهن مانقله العديدون ممن زاروا المكتب الخاص
للعقيد ، عن مغزى وجود صورة "جورج تينيت " المدير السابق لوكالة المخابرات
المركزية الأمريكية على مكتبه!
إن توقيت التحرك الذي تشهده بعض مناطق القطاع ، يفصح عن مخطط مرسوم يريد
التفريط بكل المكاسب السياسية الجديدة التي حققها الشعب الفلسطيني ( قرار
محكمة العدل الدولية في لاهاي بخصوص جدار الفصل والتدمير العنصري ) وعلى
أعتاب المناقشات والمداولات المتعلقة بذلك القرار في هيئة الأمم المتحدة ،
مما يوفر لحكومة العدو فرصة التحرك على الصعيد الدولي لتقليص حجم هذه
الإنتصارات السياسية . إن المعركة التي يخوضها كل الوطنيين المخلصين ضد
مظاهر الفساد مستمرة منذ سنوات طويلة ، ولم تبدأ فقط في مناطق السلطة ، بل
كانت بواكيرها الأولى منذ عقود ، داخل كل الساحات التي تواجدت فيها منظمات
ومؤسسات العمل الوطني الفلسطيني ، إلا ّ أن مظاهر الفساد المالي / الإداري
المترافق مع ظاهرة المحسوبية والإستزلام برزت بشكل واضح داخل مناطق السلطة
مع وصول المساعدات والمنح الدولية ، التي تسرب جزء منها ، ليصل إلى جيوب
البعض الذي بدأ يدير إستثمارات مشبوهة مع شركاء من داخل الكيان الصهيوني (
كازينو أريحا ، مضاربات مالية بنكية ، صفقات الإسمنت لبناء الجدار ... )
وكل هذا مرتبط أساسأ بالنهج الفردي الإستثنائي الذي يتحكم بكل شيء منذ عقود
طويلة ، والذي أتاح عبر سياسة الإسترضاء و "التملك الخاص " ، تخريب
المفاهيم الحقيقية في بناء التنظيم وإدارة المجتمع ، والتصدي لقوات
الإحتلال الوحشية ،مما وفر للعديدين من مناضلي التنظيم العمل على بناء
شبكات مقاتلة خاصة داخل كل مدينة وقرية ومخيم ، بعيدة عن مفاهيم ( ماكان
ينبغي حمل السلاح ، ولاداعي لعسكرة الإنتفاضة ) التي روج لها رموز هامة من
قادة العمل السياسي _ التنظيمي داخل الحركة ، يتناغم معهم ويوفر لهم الدعم
السياسي " من خارج فتح " دعاة تحالف السلام ، والحملة الشعبية للسلام ،
المحدودة التأثير داخل المجتمع الفلسطيني . وقد عبر قادة هذه الشبكات
المقاتلة ( كتائب شهداء الأقصى ) عن ديمومة الصراع مع العدو ،وقدموا في
سبيل ذلك عشرات الكوادر الميدانية البطلة ، شهداء على درب الحرية
والإستقلال ، فجماهيرنا لن تنس الشهداء الميامين للكتائب ، وآخرهم الأبطال
الستة الذين سقطوا بالأمس في مدينة طولكرم ، نتيجة عملية إغتيال فاشية
،وقد ترجمت الكتائب في كل منطقة برنامجها الخاص ، مما أوقعهم بمشكلات
عديدة ، نظراً لغياب قيادة مركزية لهم ، مما أتاح للبعض في مراحل عديدة ،
إستخدام اسم وشعار الكتائب في مواقف محددة لاتخدم نهج الكتائب ومشروعها
القتالي الوطني ، وهذا مايحصل الآن في العديد من مناطق القطاع .
إن المعالجة الحاسمة لما يحصل الآن ، يجب أن يتم بالعودة إلى أسس العمل
التنظيمي الداخلي ، بإعادة الإعتبار للعمل الجماعي " الهيئات التنظيمية " ،
وتعميم ثقافة الحوار، و محاسبة كل من أساء للشعب أمام قضاء نزيه بعيد عن أي
تأثير ، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، بمعنى التخلص من اللصوص
والمسيئين ، وتعيين الأكفأ "عفيف اليد والسلوك "، وليس إستبدال السيء
بالأسوأ . إن هذه المعالجات الضرورية لاتهم " البيت الفتحاوي " فقط ، بل هي
مهمة وطنية ملحة وعاجلة تطال كل القوى السياسية الفلسطينية ، لأن هذه
الظواهر المرضية منتشرة بشكل أو بآخر ، بهذه النسبة أو تلك ، داخل الفصائل
والقوى الأخرى . إن التصدي لكل ماحصل يتطلب بشكل فوري البدء بحوار وطني
واسع ، يحدد أسباب المشكلات ويرسم طرق معالجتها ، وهذا يكون أساساً بوجود
قيادة وطنية موحدة ، تشكل المرجعية الوحيدة لمعالجة كل القضايا التي
يجابهها الوضع الفلسطيني ، سياسياً _ أمنياً _ إقتصادياً بهدف تمتين النسيج
المجتمعي الداخلي ، وتحصينه ضد كل الأخطار المحيطة بمسيرته .
|