السلطة وفتح والمقاومة.. الحلقة المفقودة

ماجد أبو دياك – الأردن ـ كاتب عربي متخصص في الشؤون الفلسطينية

الاحد 4 كانون الثاني 2004

ما حقيقية دور "السلطة الفلسطينية" في انتفاضة الأقصى؟ ولماذا تأرجح هذا الدور خلال أشهر قليلة بين الاستثمار السياسي والدعوة إلى الاستمرار والتصعيد والمشاركة الفاعلة من خلال تنظيم "فتح"؟ وكيف انعكس هذا الموقف على الانتفاضة وعلى الفصائل الفلسطينية التي تتبنى المقاومة كخط إستراتيجي؟

هذه الأسئلة وغيرها باتت الآن أكثر إلحاحًا في ظل الاستهداف المتزايد من قِبَل حكومة "شارون" لقوات الشرطة الفلسطينية، وفي ظل الإشارات المتضاربة حول موقف السلطة الفلسطينية ما بين تبني بعض المبادرات السياسية التي طُرحت لوقف الانتفاضة ومشاركة بعض قواتها في تنفيذ عمليات مقاومة ضد الاحتلال.

حماية الاحتلال تفشل في تحقيق مكاسب سياسية

جاء دخول "السلطة الفلسطينية" إلى غزة عام 1994 كثمرة لاتفاق سياسي بين قيادة "منظمة التحرير الفلسطينية" والحكومة الإسرائيلية بقيادة "إسحاق رابين"، يقوم على أساس ممارسة هذه السلطة لدور أمني يحول بين الكيان الصهيوني والجماهير الفلسطينية، ومكافأتها بإعطائها المزيد من الصلاحيات والأراضي حسب نجاحها في تأدية الدور الأمني المنوط بها. وهذا ما عبرت عنه الاتفاقيات الانتقالية التي أعطيت فترة خمس سنوات قبل أن يتم الانتقال إلى المفاوضات المتعلقة بقضايا الصراع الرئيسية، وهي: القدس واللاجئون والمستوطنات والسيادة والمياه.

وبعد أن امتد وجود "السلطة الفلسطينية" إلى الضفة الغربية عام 1995 ازدادت المسئوليات الملقاة على عاتقها، لا سيما بعد تصاعد العمليات الاستشهادية في قلب المدن والتجمعات الإسرائيلية؛ حيث بذلت كل ما تملكه من إمكانيات وجهود، وسخّرت تنظيمها "فتح" لتنفيذ المهمة الأمنية؛ أملاً في الحصول على مكاسب سياسية تنتهي بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على جزء من أرض فلسطين التاريخية، إلى درجة أن أحد المسئولين الأمنيين الفلسطينيين الكبار صرّح ذات يوم أنه على استعداد للتضحية بالمئات من كوادر حركة المقاومة الإسلامية "حماس" من أجل الحفاظ على الأمن الصهيوني، مقتديًا بما سبق أن أعلنه عرفات بأنه على استعداد لمحاربة قبائل "الزولو" الفلسطينية (حماس)، على عكس ما فعله صديقه نيلسون مانديلا!.

وقد أدى هذا الدور إلى إيجاد شرخ كبير في جدار الوحدة الوطنية الفلسطينية، وكان من الممكن أن يسفر عن حرب أهلية داخلية لولا تحمل "حماس" مختلف الإجراءات التي اتخذت بحق كوادرها؛ بدءاً من الملاحقة الأمنية إلى اعتقال الرموز والكوادر السياسية والعسكرية ونقل معلومات إلى العدو ساهمت في تسهيل اعتقالهم أو تصفيتهم من قبل قوات الاحتلال، ومروراً بضرب المؤسسات المدنية والاجتماعية للحركة، وانتهاءً بتسليم كوادر الحركة المعتقلين إلى سلطات الاحتلال، بل وحتى تورط بعض الأجهزة الأمنية في اغتيال أحد قيادات الجهاز العسكري للحركة (كتائب الشهيد عز الدين القسام).

إلا أن مفاوضات المرحلة النهائية التي انطلقت في العام 1999 أظهرت بعد أشهر من بدئها أن التوصل إلى حلول حقيقية ومقنعة لقضايا الوضع النهائي، أبعد ما يكون عن الواقع، لا سيما أن الموقف الصهيوني من هذه القضايا لم يكن ليتزحزح إلا شكليًا، ولم يتح للطرف الفلسطيني- ومن خلفه الأطراف العربية- إمكانية الترويج لهذا الحل.. وكانت النتيجة اندلاع انتفاضة الأقصى التي لم تكن مجرد ردة فعل آنية على الزيارة الاستفزازية التي قام بها زعيم حزب الليكود الإسرائيلي المعارض "إريل شارون" للمسجد الأقصى، وإنما أيضًا تعبيرًا عن رفض الحلول السياسية التي تم التوصل فيها إلى تفاهمات غير موقعة بخصوص قضيتي القدس واللاجئين.

ولم تستطع السلطة الفلسطينية أن تقف في وجه الانتفاضة العارمة، بل ربما رأت فيها أداة ضغط على حكومة "باراك" لإقناعها بالتجاوب مع الموقف الفلسطيني من قضية القدس على الأخص، وشهد موقف السلطة الفلسطينية تبدلاً باتجاه تخفيف قبضة الأجهزة الأمنية على المقاومين الفلسطينيين، بعد أن تعرضت السلطة نفسها ومقار أجهزتها الأمنية للضرب من قبل الصهاينة الذين رأوا في الانتفاضة الجديدة مؤشراً على رفض هذه السلطة للتفاهمات التي تم التوصل إليها.

فتح تلتف حول الانتفاضة والمقاومة.. والسلطة تساوق

رأت قوى المقاومة الفلسطينية في الانتفاضة مرحلة جديدة في الصراع، وعملت بشكل سريع على ترتيب أوراقها وأوضاعها الداخلية لتصعيد المقاومة، واستفادت من الأجواء الجديدة التي أدت إلى إطلاق سراح معظم قياداتها من السجون الفلسطينية، وقامت بتنفيذ العديد من العمليات العسكرية المؤثرة ضد الاحتلال والمستوطنين، سواء في الأراضي المحتلة سنة 1967، وفي عمق الكيان الصهيوني المقام على الأراضي المحتلة عام 1948.

وفي المقابل حاولت "السلطة الفلسطينية" استثمار الانتفاضة سياسيًا وحصرها في إطار الفعاليات الشعبية التي تسلط الضوء على بشاعة الاحتلال، والانطلاق من ذلك لإعادة الاعتبار لمسيرة التسوية السياسية، ولكن على أساس تحقيق السيادة الفلسطينية على القدس، وتفكيك جزء كبير من المستوطنات.. ومع ذلك فإن حكومة "باراك" لم تكن مهيأة للقبول بهذا الحل وهي على أبواب الانتخابات.

وقد اتسمت مواقف "السلطة الفلسطينية" بالتذبذب في مرحلة حكومة "باراك". وانعكس ذلك بشكل طبيعي على القوى الفلسطينية، وعلى الأخص على "تنظيم فتح" الذي بدا أنه منقسم إلى تيارين:


الأول:
تيار محسوب على السلطة وتوجهاتها ومرتبط بها بشكل محكم عبر المصالح والمنافع والمناصب، ويدعم الانتفاضة الشعبية، ولكنه لا يؤيد عمليات المقاومة التي تضع السلطة في موقف حرج سياسيًا على المستوى الدولي من خلال اتهامها بدعم "العنف" و"الإرهاب"، ويضعف إمكانية التأثير في توجهات حكومة "باراك" لصالح القبول بالمطالب الفلسطينية.


الثاني
: يمثل الكثير من الكوادر المتوسطة، والقاعدة الجماهيرية، وهو غير مرتبط بشكل كبير بمنافع السلطة، بل ربما يعاني تسلط فئة محددة واستئثارها بالمناصب والمكاسب، وهذا التيار هو الذي تبنى مطالب الشارع الداعي إلى استمرار الانتفاضة والمقاومة، وقام بتنفيذ بعض العمليات التي استهدفت جيش الاحتلال والمستوطنين وبعض عمليات التفجير في المناطق المحتلة عام 1948، وكذلك دعم إطلاق قذائف "الهاون" من المناطق الفلسطينية ضد المستوطنات، بل وساعد الفصائل الأخرى على تنفيذها لوجستيًا. ويبدو أن التيار الثاني أصبح يتمتع بشعبية كبيرة في صفوف "فتح"، لا سيما بعد استهداف كوادره بعمليات التصفية الإسرائيلية؛ الأمر الذي دفع بالقيادة الفلسطينية إلى مراعاة التغيير الذي جرى في أوساط "التنظيم" ومحاولة استيعاب توجهاته وعدم التصادم معها، خصوصًا أن مفاوضات التسوية لم تُسفر عن نتائج ملموسة.

وجاء صعود "شارون" إلى سدة الحكم في الكيان الصهيوني ليعزز التيار الثاني في "فتح" وفعاليته، ذلك أن "شارون" لم يبد أي استعداد للبدء في المفاوضات السياسية من النقطة التي توقفت عندها في "كامب ديفيد – 2"، وكان برنامجه يستند إلى تشديد قمع الانتفاضة وعدم التفاوض مع الفلسطينيين إلا بعد وقفها واستكمال خطوات الحل الانتقالي، كما أصر في الوقت نفسه على استمرار الاستيطان وتأجيل مفاوضات الحل النهائي إلى أجل غير محدد.

وقد تقدمت "السلطة الفلسطينية" خطوة في تخفيف القيود عن المقاومة الفلسطينية، في محاولة منها لإيصال رسالة إلى "شارون" مفادها أنه لن يستطيع من خلال برنامجه الأمني أن يجبر الفلسطينيين على القبول ببرنامجه السياسي، وأن الفلسطينيين قادرون على إسقاط برنامجه الأمني ودفع الشارع الإسرائيلي لإسقاطه كما أسقطوا "باراك".

إصرار حماس يصلب موقف فتح ويربك العدو

أسفرت هذه التوجهات الفلسطينية الجديدة عن تعزيز برنامج المقاومة من خلال العمليات الاستشهادية التي قامت بها "حماس"، واستطاعت أن تُدخل الرعب في قلوب الصهاينة، وأن تعزز من مكانة المقاومة وأهميتها في استعادة الحقوق المغتصبة.

وترافق ذلك مع ظهور سلاح الهاون الذي استخدمته "حماس" وغيرها من القوى الفلسطينية بكثافة أذهلت الصهاينة، ودفعتهم إلى إنكار حصول خسائر بشرية جراء هذا الاستخدام؛ مخافة أن تزيد حدة انهيار الروح المعنوية لدى الشارع الصهيوني، وعلى الأخص بين المستوطنين المتواجدين في قطاع غزة.

ولعل من أهم الإيجابيات التي تمخضت عنها مرحلة حكم "شارون" هي تكريس الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتعزيز القناعة الشعبية بعدم جدوى عملية التسوية مع العدو الصهيوني، وزيادة الضغوط الداخلية على "السلطة الفلسطينية" لعدم إعادة التنسيق الأمني مع الصهاينة، وإيجاد إجماع وطني فلسطيني على تحريم الاعتقالات السياسية، وهو ما كان له أكبر الأثر في إجبار السلطة الفلسطينية على إطلاق سراح الدكتور "عبد العزيز الرنتيسي" بعد أسبوعين من اعتقاله تحت حجة انتقاده لمفاوضات إعادة التنسيق الأمني، وتعبيره عن رفض "حماس" للمبادرة الأردنية- المصرية التي سعت إلى وقف الانتفاضة مقابل استئناف المفاوضات وتجميد الاستيطان.

ولا شك أن نجاح "حماس" في تنفيذ عمليات بطولية ضد الاحتلال ومساهمتها الكبيرة في تفعيل المعارضة الشعبية للمفاوضات والتنسيق الأمني كان له دور كبير في فرملة توجهات تيار معين داخل "السلطة الفلسطينية" لم يزل يسعى لمقايضة الانتفاضة باتفاقات سياسية، حتى وإن كانت أقل من تلك التي تم الحصول عليها في عهد "باراك".

وقد مارست "حماس" في إطار "لجنة التنسيق الفصائلي" في كل من الضفة وغزة، دورًا مهمًا في توجيه فعاليات الانتفاضة والمحافظة على استمراريتها، وكذلك جذب شق مهم من تنظيم فتح باتجاه المحافظة على الانتفاضة ومكاسبها ودعم برنامج المقاومة.

السلطة والمقاومة.. مركب واحد والبرنامج لا يزال مختلفًا!

على الرغم من أن "السلطة الفلسطينية" كان ولا يزال لها دور في تسهيل عمليات المقاومة، أو على الأقل غض الطرف عنها، وعدم التجاوب مع المطالب الإسرائيلية بإعادة اعتقال منفذيها- وهذا مما يفسر استمرار قوات الاحتلال في استهداف مقار بعض الأجهزة الأمنية الفلسطينية- فإن الإطار العام الذي لا زال يحكم برنامج هذه السلطة هو العمل على العودة إلى المفاوضات، والاستفادة من الانتفاضة لتحسين الموقف التفاوضي الفلسطيني وليس الاستمرار في برنامج إستراتيجي يهدف إلى دحر الاحتلال عن الأراضي المحتلة عام 1967، سواءً أكان ذلك بدون اتفاق كما تريد "حماس"، أو من خلال اتفاق سياسي كما تريد بعض القوى الوطنية وعلى رأسها "تنظيم فتح".

ومن هنا يمكن تفسير بعض التناقضات في مواقف هذه السلطة من المقاومة، وعلى الأخص حين تتعرض لضغوط سياسية أجنبية، أو يتهيأ لها بعض الفرص لتحقيق مكاسب سياسية آنية.

وفي هذا الإطار يأتي قرار السلطة بحل "لجان المقاومة الشعبية" التي يشترك فيها بعض عناصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وقرار منع إطلاق قذائف "الهاون" تحت حجة عدم جدواها، واستجلابها لردود فعل عنيفة من الاحتلال.

مثل هذه القرارات جاءت في ظل تصاعد الجهود الديبلوماسية العربية والأمريكية لاستئناف المفاوضات التي تستدعي بعض الهدوء من الطرف الفلسطيني، ولكنها واجهت ردة فعل شعبية عنيفة تمثلت- ولأول مرة- بتحدي قرار الرئيس "عرفات" بشكل صارخ من قبل مسئولي "لجان المقاومة الشعبية" الذين عبّروا في الإعلام عن رفضهم لهذه القرارات، إضافة إلى استمرار "حماس" وغيرها في إطلاق قذائف "الهاون" على المستوطنات والتجمعات الصهيونية في مناطق الـ48، الأمر الذي يشير إلى أن قبضة "السلطة الفلسطينية" على الانتفاضة وعلى الشارع الفلسطيني لم تعد كما كانت في السابق، وأن التوجهات المتمسكة ببرنامج المقاومة أصبحت أكثر قوة وتغلغلاً في الشارع الفلسطيني، وهو ما يُصعِّب مهمة السلطة الفلسطينية إلى حد كبير إن أرادت ممارسة ضغوط لوقف الانتفاضة وتحجيم المقاومة

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع