السلطة المناهضة للفلسطينيين
ترجمة:
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
بيروت – لبنان
حزيران/ يونيو 2006
العنوان الأصلي: The Anti- Palestinian Authority
اسم الكاتب: جوزيف مسعد
المصدر: الأهرام ويكلي، العدد 799
التاريخ: 15-21/6/2006
ترجمة: الزيتونة
***
في هذا المقال يرى جوزيف مسعد أن الهوة الحقيقية في المجتمع الفلسطيني هي بين هؤلاء الذين يقاتلون من أجل المحافظة على الامتيازات الطبقية التي أفرزها اتفاق أوسلو، ومعارضيهم الذين يدافعون عن ثوابت القضية الفلسطينية. |
كان إيجاد البنى والطبقات والمؤسسات المرتبطة مباشرة بالعملية السلمية واحداً من أهم المعايير التي اعتمدها مهندسو اتفاق أوسلو من الاسرائيليين والفلسطينيين، وكانوا يهدفون من وراء ذلك إلى ضمان الحفاظ على البنية الأساسية للعملية السلمية التي أفرزها أوسلو، إذ كان من المخطط له أن يستمر وجود هذه البنى والطبقات والمؤسسات في حال انهيار الاتفاق نفسه. وقد عُزز هذا الضمان بقوة القانون وبتمويل مالي أجنبي على أساس دعم استمرارية عملية أوسلو ما دامت تخدم المصالح الاسرائيلية والأمريكية بالإضافة إلى مصالح النخبة الفلسطينية التي رضخت لها.
والطبقات الخمس الأساسية التي ابتدعها مهندسو أوسلو لضمان استمرار "العملية" هي:
- الطبقة السياسية، وهي موزعة بين من انتخبوا لخدمة عملية أوسلو، سواء في المجلس التشريعي، أو في السلطة التنفيذية (وبشكل أساسي منصب رئيس السلطة الفلسطينية)، ومن عيّنوا لخدمة من تم انتخابهم سواء كوزراء، أو كمسؤولين في مكتب الرئيس الفلسطيني.
- طبقة بوليسية أو أمنية، يبلغ تعدادها عشرات الآلاف، ومهمتها الدفاع عن عملية أوسلو في مواجهة الفلسطينيين الذين يحاولون إضعافها. وهي مقسمة إلى عدد من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي تتبارى مع بعضها بعضاً، وتتنافس كل منها من أجل إثبات جدارتها في عزل أي تهديد يمس بعملية أوسلو. وقامت هذه الأجهزة باستعراض خدماتها في غزة عام 1994 إبان رئاسة ياسر عرفات من خلال إطلاق النار وقتل أربعة عشر فلسطينياً اعتبروا أعداء "للعملية"، وهو إنجاز حاز على احترام الأمريكيين والاسرائيليين الذين أصروا على أن الطبقة البوليسية يجب أن تمارس المزيد من القمع من أجل أن تبلغ قمة الفعالية.
- طبقة بيروقراطية ملتصقة بالطبقتين السياسية والأمنية تشكل جهازاً إدارياً قوامه عشرات الآلاف من العاملين الذين ينفذون أوامر المنتخبين والمعينين لخدمة "العملية".
- طبقة جمعيات أهلية غير حكومية، وهي طبقة أخرى بيروقراطية تقنية يعتمد تمويلها بشكل كلي على مدى خدمتها لعملية أوسلو والسهر على نجاحها من خلال التخطيط والخدمات.
- طبقة رجال أعمال مكونة من رجال أعمال فلسطينيين مغتربين ومقيمين، (بما في ذلك، وبشكل خاص، أعضاء في الطبقات السياسية والبوليسية والبيروقراطية) ممن يجنون مداخيلهم من الاستثمار الاقتصادي في عملية أوسلو ومن الصفقات النفعية التي تسهلها السلطة الفلسطينية.
وفي حين أن المنظمات الأهلية غير الحكومية في الأغلب لا تتلقى الأموال من السلطة الفلسطينية كونها تستفيد من المساعدات المالية الخارجية من الجهات الحكومية وغير الحكومية المرتبطة بعملية أوسلو، فإن الطبقات السياسية والأمنية والبيروقراطية تتلقى كل مداخيلها الشرعية وغير الشرعية مباشرة من السلطة الفلسطينية. ومن خلال ربط حياة عشرات آلاف الفلسطينيين بعملية أوسلو، نجح مهندسو هذه العملية في إعطائها فرصاً هامة في البقاء على قيد الحياة حتى ولو فشلت في إفراز أي نتائج سياسية. أما المهمة الرئيسية التي كان يجب أن تتولاها النخبة الفلسطينية التي تولت إدارة السلطة الفلسطينية فكانت على طول الخط تأمين استمرارية عملية أوسلو (مهما كانت الظروف) وإحكام السيطرة على جميع المؤسسات التي تضمن هذه الاستمرارية. ما لم تتوقعه هذه النخبة أن يأتي يوم تفقد فيه سيطرتها لتحل محلها حماس، وهي الحركة التي تعارض علناً عملية أوسلو، والتي قاطعت عام 1996 الانتخابات التي أجرتها وسيطرت عليها حركة فتح. ولكن انتخابات عام 2006 التي كانت فتح على ثقة بأنها ستفوز بها، شكلت زلزالاً قد يؤدي إلى تدمير كل الضمانات البنيوية أو المؤسساتية، ويدمر معها "العملية" التي وجدت هذه المؤسسات لحمايتها.
وإذا كان الفلسطينيون في زمن منظمة التحرير قد كرّسوا أنفسهم بشكل طبيعي "للقضية"، فإنهم في زمن السلطة الفلسطينية أجبروا على تكريس أنفسهم "للعملية"، ولهذا السبب، تم تخصيص محفزات مالية للفلسطينيين الذين سينضمون إلى الطبقات المذكورة لتكون الضمانة الأساسية لبقائهم على التزاماتهم تجاه العملية. والذعر الذي أبدته الطبقات السياسية والبوليسية والبيروقراطية في السلطة الفلسطينية مؤخراً له علاقة مباشرة بقناعاتهم بأنه ما لم يقوموا بانقلاب على فوز حماس، فإن جوهر وجودهم كطبقات منتفعة سيكون على المحك. وبالتالي، بدأ مفكرو وتقنيو المنظمات الأهلية غير الحكومية بتقديم شروحات مفادها أن فوز حماس لم يكن كبيراً كما ظهر في بدايته، وأخذوا يزودون الطبقات الثلاث الأخرى في السلطة الفلسطينية بتحليلات تفصيلية حول الدوائر الانتخابية وغير ذلك من الأمور ذات الصلة؛ بالإضافة إلى تقديم النصح والمشورة لهذه الطبقات حول ضرورة إضعاف حماس، في حين عقدت طبقة رجال الأعمال لقاء في لندن شدد بشكل أساسي على ضرورة دعم حماس "للعملية".
ولهذه الأسباب، ما إن فازت حماس في الانتخابات حتى شرع أعضاء الطبقة السياسية بعقد الاجتماعات العلنية والسرية مع المسؤولين الأمريكيين والاسرائيليين من أجل التخطيط لإضعافها، وقريباً سوف تشترك في هذه الخطط دول عربية مجاورة كرست نفسها -كما السلطة الفلسطينية- لخدمة المصالح الاسرائيلية والأمريكية. ولم تعد الطبقة السياسية في السلطة الفلسطينية تهاب القيام بلعبتها في العلن، فقامت بتوقيف أحد مسؤولي حركة حماس بتهمة نقل مساعدات مالية خارجية إلى غزة، وهي مخالفة لم يكن ليسجن بسببها لو أنه مشى على خطى الفساد التي ينتهجها مسؤولو فتح والسلطة الفلسطينية الذين اعتادوا على سرقة المال العام وتهريبه إلى خارج غزة، وليس إلى داخلها.
بدورها، تستأسد الطبقة البوليسية من أجل تأكيد قوتها فتظهر بمظهر يوحي بأنها ليست سوى مجموعة من العصابات الإجرامية التي تعتاش من قمع الفلسطينيين خدمة للعملية. وفي الوقت نفسه رفضت الطبقة البيروقراطية التعاون مع مسؤولي حماس وشرعت بتهديدهم ورفض دخولهم إلى المكاتب الوزارية؛ وليس الاعتداء الأخير على مكتب رئيس الوزراء الفلسطيني ومبنى المجلس التشريعي وإضرام النار فيهما سوى مؤشرين على أن هذه الطبقات الثلاث ستفعل ما في وسعها من أجل استمرار تدفق المصالح الاقتصادية عليها من عملية أوسلو.
كان بالإمكان أن يحرك الحديث عن انقطاع رواتب الموظفين لشهرين متتاليين الشعب الفلسطيني لو أن أفراده كان لديهم مداخيل ثابتة، ولكن بما أن مداخيل غالبية الفلسطينيين ضئيلة –إن لم نقل معدومة- فإن وضع موظفي السلطة الفلسطينية ليس فريداً أو أكثر تراجيدية من وضع بقية الفلسطينيين؛ والحقيقة أن مساواة الفلسطينيين المستفيدين من طبقية أوسلو بأغلبية الشعب الفلسطيني هي ما يزعج طبقات السلطة الفلسطينية؛ وبالتالي فهم مصممون على المحافظة على الامتيازات الطبقية بأي ثمن.
إن فوز حماس في الانتخابات يساهم فعلياً في توحيد حركة فتح التي أنهكتها الانقسامات والصراعات الداخلية قبل الانتخابات لدرجة أنه سرت أحاديث بين أعضاء الحركة في كانون الثاني/ يناير الماضي عن إمكانية اغتيال محمود عباس إذا قام بتأجيل الانتخابات. وعلى خلاف عرفات، فإن عباس لا يتمتع بقاعدة شعبية داخل فتح، ويده طليقة - أكثر مما كان عليه حال سلفه - في التزلف للأمريكان والاسرائيليين طالما أنهم يؤمّنون استمرار "العملية". ولكن اليوم، تحشد فتح التأييد لعباس، ويفعل هو مثل ذلك من أجلها، ليس هذا فقط، بل إنه قام مؤخراً بمصالحة مع ما تبقى من منظمة التحرير (التي أسهم هو شخصياً، كما فعل عرفات من قبله، بتفكيكها) من خلال ترميم جسور العلاقات مع فاروق القدومي وسهى عرفات بعد شهور من الجفاء. ولكن من غير الواضح ما إذا كانت السلطة الفلسطينية ستستأنف دفع شيكات بقيمة ملايين الدولارات لسهى عرفات وابنتها. ومن ناحية أخرى، حتى محمد دحلان الخارج عن الطاعة والذي يريد الكعكة كلها لنفسه، يقدم العون الآن لعباس.
وها هو عباس يعزز السلطة ويمركزها بيده لأول مرة منذ توليه الرئاسة، ومؤخراً جعل قوات الأمن الرئاسي تحت إمرته ليؤمن على سلامته الشخصية كحارس أعلى، أو ربما عرّاب للعملية. ويبدو واضحاً من خلال استقراء تصريحات عباس أنه لم ينتقد الاسرائيليين إلا حين هدد شارون ومن بعده أولمرت بوضع حد "للعملية" من خلال اتخاذ خطوات أحادية الجانب، أما فيما عدا ذلك فلطالما كان عباس متجاوباً مع أي اقتراحات اسرائيلية أو أمريكية.
حماس من جهتها تلعب لعبة سلفادور ألندي، فكما ألندي، تستمر في إصرارها على اللعبة الديمقراطية في الوقت الذي يوغل في خصومها من العصابات الإجرامية إلى أبعد الحدود في خطوات الخيانة والتآمر. صحيح أن الاعتداء على مكتب هنية ليس بأهمية الاعتداء على لا مونيدا في 11 أيلول/ سبتبمر 1973، ولكن العصابات الإجرامية تظهر على أنها مستعدة للذهاب إلى أبعد ما ذهب إليه بينوشيه خدمة لمصالح فتح واسرائيل. وعلى الرغم من ذلك كله، تقوم حماس بعملية ضبط نفس مثيرة للفضول، فحماس على سبيل المثال يمكنها أن تعتقل كل القيادات العليا والوسطى في السلطة الفلسطينية وحركة فتح بتهمة الفساد والخيانة، ولديها الكثير من الأدلة على ذلك، وأن تحاكمهم محاكمة علنية عادلة، كما أن بإمكانها أن تحرك الشارع الفلسطيني ضد رموز الفساد من خلال المظاهرات والإعلام، ولكن في عدم قيامها بمثل هذه الخطوات دليل على التزامها بالحفاظ على أجواء السلم وعدم الانجرار إلى حرب أهلية تسعى نخب السلطة الفلسطينية إلى إشعالها لأنهم يرون فيها وسيلة محتملة لاستعادة "العملية". وفي الوقت الذي تخوض فيه الطبقات المنتفعة في السلطة الفلسطينية معركة لإبقاء "العملية" على قيد الحياة لا يتوانى الطرف الاسرائيلي عن الإشارة إلى أن العملية انتهت بالنسبة لهم؛ إذ لم تكن أوسلو بالنسبة لاسرائيل سوى خطوة ضرورية ولكنها ذات مدة تاريخية محدودة هدفها اختيار قيادة فلسطينية، وإحكام القبضة على الأراضي الفلسطينية المغتصبة وتطبيع وضع اسرائيل الدبلوماسي في الدول العربية وعلى صعيد عالمي، وبما أن اسرائيل حققت أهدافها هذه، فإن أوسلو لم تعد لها أي أهمية عندهم. وليس هناك ما يشير إلى أن اسرائيل ستوقف اعتداءاتها على الضفة الغربية وغزة، وقصفها واغتيالها للمدنيين والسياسيين المؤيدين والمناهضين "للعملية" على حد سواء. وبما أن أوسلو لم تجلب للشعب الفلسطيني إلا المأساة تلو الأخرى، فإن السبب الوحيد لاستمرارها هو استمرار طبقات السلطة التي لا يستفيد أحد سواها من العملية. هذه حقيقة المعركة التي تجري في الضفة الغربية وغزة، وعلى المحك حياة تسعة ملايين فلسطيني.
|