السفسطائيون الجدد
د/إبراهيم أبراش
ليس هدفنا من هذا المقال كما هو الحال بالمقالات الأخيرة فتح النار على
الجميع وبالتالي تعويم المسؤولية والتهرب من تسمية الأشياء بأسمائها كما
اتهمني بعض الزملاء ،كما أن الهدف ليس صب الزيت على نار الأوضاع الملتهبة
أصلا، بكشف المستور ووضع النقاط على الحروف وتجريد البعض من غطاء قدسية
كانوا يضفونها على أنفسهم معتبرين أنفسهم فوق النقد والمساءلة..إن ما
نرمي إليه هو تبليغ رسالة غضب واستنكار من مواطن هاله ما وصلت إليه
أمورنا من ترد على كافة المستويات ..0ونحن بذلك نعتبر نقدنا نقدا بناء
يهدف للإصلاح ،إصلاح ما هو قائم بالرغم من كل سوءاته ،وليس تحطيمه
والجلوس على أنقاضه.قد يكون النقد حادا ويعتبره البعض جارحا وماسا به
شخصيا ،قد تعتقد السلطة وحزبها أنهم المستهدفون بالنقد ، وقد تعتبر حماس
والمعارضة أنهم المستهدفون ، وقد يرى أعضاء التشريعي الموقرون أنهم
المستهدفون،الأمر الذي يثير حفيظة كل الأطراف على كاتب هذه السطور.ولكني
على ثقة بان كل أصحاب العقول النيرة يدركون ان الوقت قد حان للمصارحة
بعيدا عن المجاملة ،لأن قضيتنا الوطنية وصلت لطريق مسدود والخطر يتزايد
يوما بعد يوم ،والكل ،والكل بلا استثناء، يتحمل المسؤولية ،فلا نبرئ أحدا
من المسؤولية ،بما فيهم غالبية الكتاب والمثقفين الذين يتموقعون في خانة
شُهاد الزور أو ممالئة هذا الفريق أو ذاك سعيا وراء كسب مادي أو خوفا على
موقع أو وظيفة أو تطلعا لموقع ووظيفة.
ننتقد ليس من باب إطلاق رصاصة الرحمة على ما هو قائم ،لا على السلطة التي
نؤمن بضرورة وجودها وتفعيلها وإصلاحها كسلطة واحدة لكل الشعب وعلى كل
الشعب ومصدرا وحيدا للقرار الوطني،ولا على الحق بالمقاومة كحق مقدس ما
دامت الأرض محتلة..إننا ننتقد ممارسات سلطة -بما فيها السلطة التشريعية -
تسيء للسلطة ولما تمثله من رمزية وطنية نفتخر بها ،وننتقد ممارسات معارضة
وتنظيمات مقاومة تسيء لحق المقاومة وقدسية ونبل المقاومة بممارسات لا
تخدم القضية . وفي هذا السياق يأتي حديثنا النقدي عن المؤسسة التشريعية
..
ما هو المجلس التشريعي أو البرلمان ؟
إنه ببساطة مؤسسة وطنية تحتوي ممثلي الأمة ،أعضاء المجلس التشريعي هم
أفراد انتخبتهم الأمة ووضعت فيهم ثقتها وقلدتهم أمورها ليمثلوها ويدافعوا
عنها ،وفلسفة الانتخابات والعمل النيابي مستمدة من اعتبارين :الأول هو
الإيمان بالديمقراطية ،أي حرية الناس بالتعبير الحر عن آرائهم واختيار من
يمثلهم ،ومستمدة ثانيا من واقع أن الشعب لا يستطيع أن يحكم نفسه بنفسه
،نظرا لكثرة العدد أو لعدم تأهله لذلك .... فالنواب كما يفترض هم الأكثر
خبرة ودراية وممثلو الأمة وضميرها الحي،والسلطة التشريعية التي يتوفرون
عليها هي أسمى السلطات على هذا الأساس.
لا شك أن السلطة التشريعية ليست هي السلطة الوحيدة بل يوجد لجانبها
السلطة التنفيذية والسلطة القضائية ،وهناك فصل وظيفي-دون قطيعة- للسلطات
،ولكن السلطة التشريعية هي أهمها لأنها تملك الحق بالتشريع والرقابة
والمحاسبة وصلاحياتها تؤهلها لمنح الثقة للحكومات أو إسقاطها،ونظرا لهذه
المهام السامية للبرلمان فإن أعضاءه يتوفرون على حصانة وعلى رواتب
وامتيازات حتى يكونوا بعيدين عن المتابعة والمضايقة وحتى تتوفر لهم حياة
كريمة تبعدهم عن العوز وتحصنهم ضد الإغراءات المادية.
فما هو حال مجلسنا التشريعي الموقر؟
قبل مباشرة نقد حال المجلس التشريعي الفلسطيني لا بد من التأكيد بأن لهذا
المجلس خصوصية تميزه عن بقية البرلمانات في العالم ،فهو ليس برلمان شعب
حر ومستقل ،بل مؤسسة تشريعية لشعب خاضع للاحتلال ،تكون في ظرفية غير
مسبوقة تاريخية
، وحتى لا نظلم المجلس وحتى نضع الأمور في سياقها الحقيقي يجب التأكيد
على ما يلي:
1- إن المجلس التشريعي والسلطة التنفيذية وكل المؤسسات الأخرى هي نتاج
لاتفاق أوسلو الذي يضع قيودا أمام السلطات وقيامها بمهامها.
2- افتقار السلطة الفلسطينية – تشريعية وتنفيذية وقضائية- لعنصر السيادة
،مما يجعل قدرتها على التجاوب مع التطلعات الوطنية الاستراتيجية مقيدة
بنصوص أوسلو-.
3- القول بأن أعضاء المجلس التشريعي منتخبون من طرف الشعب - سكان الضفة
وغزة –وبالتالي يتوفرون على (شرعية شعبية) ،لا ينفي القول بان شرعيتهم
ناقصة ما داموا ملتزمين بقيود اتفاقية أوسلو .
4- هناك تداخل في الصلاحيات والمرجعيات التشريعية ،ما بين المجلس
التشريعي والمجلس الوطني الفلسطيني واللجنة المركزية واللجنة التنفيذية
لفتح.
5- عدم تجديد المجلس بالانتخابات يبهت من شرعيته القانونية ،مما يجعل
وجوده هو اقرب إلى الديكور الذي يجمل المشهد السياسي الفلسطيني ويجعله
دون وجه حق قريب الشبه من الدولة .
6- عدم مشاركة حماس والجهاد وفصائل أخرى في الانتخابات وفي المجلس
التشريعي افقد المجلس التشريعي شيئا من صفته التمثيلية وخصوصا في سنوات
الانتفاضة .
7- سيطرة حركة فتح – الحزب الحاكم-على غالبية مقاعد المجلس التشريعي
،يجعل هذا الأخير فاقدا للقدرة على احتواء معارضة حقيقية للسلطة
التنفيذية وخصوصا ان المعارضة التقليدية في المجلس تعيش تاريخيا في جلباب
حركة فتح .
8- غياب استراتيجية عمل وطني عند السلطة التنفيذية وعلى المستوى الوطني
بشكل عام ،يجعل المجلس التشريعي مترددا في التعاطي مع الشأن السياسي
،وعاجزا عن اتخاذ قرارات حاسمة في قضايا استراتيجية.
9- محدودية القدرة على تفعيل الممارسة الديمقراطية ،يعود لكون غالبية
أعضاء المجلس التشريعي ينتمون لتنظيمات غير ديمقراطية في بنيتها
،وبالتالي يكون عضو المجلس التشريعي أسيرا لانتمائه الحزبي وثقافته
الحزبية أكثر مما هو متطلعا لممارسة الديمقراطية –فاقد الشيء لا يعطيه-.
10- لا يشكل الديمقراطيون دعاة الإصلاح كتلة متماسكة داخل المجلس
التشريعي ،بل يتصرفون كأفراد ،وأحيانا يلجأ بعضهم لممارسة النقد الحاد
بطريقة استعراضية دون رؤية بعيدة المدى أو تصميم على متابعة القضية
المنتقدة لآخر المطاف ،فيحقق عضو المجلس التشريعي نصرا شخصيا حيث يظهر
أمام الجمهور وكأنه بطل يناضل ضد الفساد ومن أجل الديمقراطية،ولكن بعد
إثارة الموضوع يتم لملمة الموضوع أو إسكات العضو (المشاغب ) بالرشوة أو
بالمساومة .- مثلا الذين أثاروا قضايا الفساد – قضية الاسمنت وقضية
الأدوية وغيرها- .
الخصوصية لا تبرر التقصير
بعد عقد من وجود المجلس الموقر وبالرغم من الأحداث الجسام التي مرت بها
القضية دوليا ووطنيا ،فأن أداء المجلس التشريعي كان دون المستوى المطلوب
، وبكل موضوعية يمكن القول بأن المجلس لم ينجز إلا القليل مما كان مأمولا
منه .وبالرغم من النشاط الكثيف للمجلس خلال السنوات الأولى الذي أسس على
تفاؤل كبير من الشعب ومن السلطة بما فيها المجلس التشريعي على نجاح مسلسل
التسوية ،وكون أعضاء المجلس آنذاك كانوا أقرب للشعب ولم يتخموا بترف
السلطة ويتبقرطوا ببروتوكولاتها ،إلا أن هذا النشاط خمد وتراجع ،ولم
يتمكن المجلس من ان يكون عند حسن ظن الجمهور به. وبقي موقفه ضعيفاً لم
يرق إلى مستوى طموحات الشارع الفلسطيني وفقد كثيرا من مصداقيته.
وحتى الظروف المأساوية التي تشهدها مناطق السلطة أخيرا والتي وصلت لإراقة
الدم الفلسطيني بيد الفلسطيني ونهب المال العام وحالة من الفوضى لم
تشهدها البلاد من قبل لم تستحث النواب الأشاوس ممثلو الأمة للارتقاء
لمستوى المسؤولية. فكل اللجان وجلسات المتابعة والمساءلة التي شكلها
المجلس مؤخراً لبحث الوضع الفلسطيني السياسي والامني وصلت لطريق مسدود
وكأن لسان حال المجلس يقول ما على الرسول إلا البلاغ ،أو اللهم قد بلغت
!.ويتجاهل الأعضاء الأشاوس أنهم ليس مجرد مراقبين ومسجلين للأحداث أو
منددين لها ، بل هم سلطة عليا يمنحها القانون الأساسي صلاحيات مهمة ويعول
عليها الشعب كثيرا.
ومع كامل الاحترام لبعض المخلصين من أعضاء المجلس التشريعي ولرمزيته
الوطنية فإن حالته أصبحت تدعو للرثاء والغضب معا ،الرثاء لحال القلة من
النواب الصادقين غير القابلين بالوضع القائم والراغبين بالتغيير،والغضب
على غالبية النواب الذين استمرؤوا المقاعد والرواتب والمرافقين- الذين
تحولوا خدما للنواب- والمهام للخارج بما يصاحبها من تعويضات وفسح ،ويبدو
أن اتفاقية ضمنية قائمة بين هؤلاء من جانب والوضع الخطأ الذي يسببه
الفاسدون والمفسدون في المجتمع ،بأن يسكت كل طرف على الآخر .ولا أدري إن
كان النواب يتساءلون بينهم وبين أنفسهم ،لماذا نحن موجودون ؟ومَن نمثل ؟
وما هي المصالح الوطنية التي ندافع عنها ؟وما هو دورنا في الأحداث التي
تجري على أرض الوطن؟.
لقد تحول أعضاء التشريعي إلى سفسطائيين جدد-والسفسطائيون هم الفلاسفة
تجار الكلام كما سماهم أفلاطون وقد ظهروا في دولة- المدينة( أثينا) في ظل
نظامها الديمقراطي وسيطروا على الجمعية الشعبية بمنطقهم الجدلي وقدرتهم
على الكلام دون ربط الكلام بالواقع –وأعضاء التشريعي ومن خلال متابعة ما
يدور في جلسات المجلس تحولوا على سفسطائيين يحسنون التلاعب بالكلمات
والشعارات والجدل ألعدمي وإثارة قضايا ساخنة تهم الجمهور ثم تمييعها
بمقايضات ومساومات داخلية ،وكل هدفهم هو خداع الجمهور والتظاهر بانهم
يعارضون نهج الحكومة ويدافعون عن مصالح الشعب فيما الحقيقة ان كل همهم
ضمان بقائهم في مناصبهم المغرية ماديا أو التطلع لوزارة أو موقع جديد في
حالة فشلهم في الانتخابات المقبلة والتي يسعون لعدم تحققها.
ودون تجاهل للجنود المجهولين من أعضاء المجلس التشريعي ،فأن عددا من
أعضائه ينتمون لأحد النماذج التالية:1 -النائب المناضل المقهور2-النائب
لازم تزبط 3 -النائب الغائب 4-النائب النائم 5 -النائب الحالم 6-النائب
الرداح 7-النائب المناضل صوتيا8-النائب الوجه التلفزيوني 9-النائب المهرج
10 -النائب شاهد مشفش حاجة 11-النائب هزاز الرأس 12 -النائب الزئبقي13-
النائب الوصولي.
وخلاصة القول أن هناك الكثير مما يمكن أن يفعله المجلس التشريعي حتى ضمن
المعطيات الراهنة ،حيث لا يجوز التحجج بالظروف الاستثنائية أو القوة
القاهرة لتبرير العجز ،فالمجلس جاء قبل أن يحسم الصراع مع العدو وجاء
ليستكمل مع الشعب المشروع الوطني ،ولم يأت تتويجا لانتصار . أذن الظروف
الراهنة لا تنفي أن أعضاءه ما زالوا يتوفرون على أهم ورقة وهي الشرعية
الانتخابية والدستورية ، كما أن بيدهم صلاحية إضفاء الشرعية على الحكومة
أو سحبها منها، وشرعيتهم هذه لا تقل عن شرعية السياسيين من قادة المنظمات
والأحزاب . وبالتالي
فإن
سكوتهم على ما يجري هو جريمة و مسؤوليتهم أهم واخطر من مسؤولية غيرهم .