نعم نحن مدينون لشارون... بالشكر!

 

 

عرفان نظام الدين

 

كاتب وصحفي عربي

 

  5/2/2004                                                 

في البداية لا بد من توجيه خالص الشكر الى «فخامة» الرئيس جورج بوش على «حكمته» و«عدالته»(!) بانحيازه الكامل والمتمادي الى إسرائيل في شكل عام ولأكثر قادتها تطرفاً وإجراماً ووحشية من الليكوديين والصقور العنصريين بزعامة «رجل السلام الأول» في العالم آرييل شارون.

واجب الشكر هذا ضروري لأن الرئيس بوش أزال الغشاوة عن أعيننا وأوضح لنا بما لا يقبل الشك ان من العبث والغباء انتظار «الترياق» من الولايات المتحدة بعدما سيطر على مقاليدها عتاة الصهاينة ليضربوا بمصالحها عرض الحائط ويجلبوا لها الكراهية والعداء ويعرضوا أمنها للخطر الدائم. كما أثبت لنا بوش أنه منقاد لإدارة اللوبي الصهيوني وأدواته التي احتلت مراكز القرار لتنفذ مآربها وتنشر فكرها الحاقد المتطرف ومبادئها اليمينية العنصرية التي تعادي العرب والمسلمين... والعالم بأسره.

والشكر لبوش واجب أيضاً لأنه حل معضلة انتظار «غودو» الانتخابات في الولايات المتحدة وكشف معها خطأ المراهنة على فوز هذا الرئيس أو ذاك، وانتصار الحزب الجمهوري أو الديموقراطي كما فعل معظم العرب عندما فاز بوش الابن حين هللوا وفرحوا وبشروا بقرب حلحلة الأمور وردع اسرائيل وإحلال السلام العادل في المنطقة على أساس ان آل غور كان مرشح اللوبي الصهيوني ومدعوماً من اسرائيل هو ونائبه المرشح اليهودي ليبرمان. وبعدما جرب العرب والعالم «المجرب» ترحموا على آل غور ونائبه وحزبه الديموقراطي وعضوا أصابعهم ندماً لتعاطفهم مع بوش وتفاؤلهم بنجاحه المشكوك فيه أصلاً.

وهنا يقول قائل ان من الخطأ لوم الرئيس بوش على انحيازه وتهافته على اسرائيل ورضوخه لإملاءات شارون بتقديم «إعلانه المشؤوم حول الشرق الأوسط وتأييده خطواته المشبوهة واجراءاته الظالمة المخالفة، ليس لمبادئ الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة فحسب، بل لكل المشاريع والخطط والمبادرات الأميركية وبينها مبادرة والده للسلام التي عقد على أساسها مؤتمر مدريد و«خريطة الطريق» التي أسهمت ادارته في وضعها ومعها «رؤية بوش» التي أعلنها بنفسه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة العام الماضي.

ويمضي هذا «القائل» في تبريره بأن بوش محشور الآن في معركة التجديد لرئاسته في الانتخابات المقررة في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. فقد بات مقتنعاً بأنه سيخسر أمام منافسه الديموقراطي جون كيري إذا تخلى اللوبي الصهيوني عنه، مع ان الخبراء يؤكدون ان هذا الدعم سيفقده أصوات العرب والمسلمين الذين رجحوا كفته في الانتخابات السابقة ويعرض مصالح الولايات المتحدة للخطر، مع التأكيد ان العوامل المرجحة له أو لمنافسه تتركز على الوضع الاقتصادي أولاً، ثم على تطورات الوضع في العراق ثم في المواجهة مع «القاعدة» واحتمالات وقوع هجمات ارهابية جديدة أو حدوث مفاجأة مرتقبة تتمثل في أسر أسامة بن لادن عشية الانتخابات الرئاسية.

أما بالنسبة الينا نحن المنكوبين العرب، فإن المعركة التي نعلق عليها الآمال العظام كل أربع سنوات، هي في الواقع بين السيئ والأسوأ. فكلما جاء رئيس ترحّمنا على سلفه وقارنا بين مواقفهما المزايدة، أو الأكثر انحيازاً لإسرائيل... فعلى يمين بوش يقف الآن منافسه كيري ليزايد عليه ويتخذ مواقف أكثر تطرفاً وانحيازاً لاسرائيل وتملقاً للوبي الصهيوني.

أخيراً لا بد من أن نشكر الرئيس بوش لأنه ذكرنا بواجب شكر السفاح شارون عندما قال «ان العالم مدين له بالشكر»، لأن بالشكر تدوم جرائمه ووحشيته وعنصريته ومعه تستمر جرائمه وتتصاعد ضد الشعب الفلسطيني وتتواصل تهديداته للعرب.

نعم نحن مدينون بالشكر لشارون لأنه فتح أعيننا على حقائق كانت خافية علينا، من بينها انتظار السلام من اسرائيل بكل أطيافها، واستجداء الفتات منها والترويج لسراب تقديمها تنازلات هي في الواقع ليست سوى اعتراف بالحقوق المشروعة وموافقة على اعادة الأراضي المحتلة الى أصحابها الشرعيين.

ونحن مدينون لشارون بفضح كل الحكومات السابقة وكشف زيف سياساتها وادعاءاتها بقبول مبادرات السلام من مدريد الى تينيت وميتشل، مروراً بأوسلو ووصولاً الى خريطة الطريق.

ونحن مدينون لشارون بالشكر لأنه أعاد تصحيح صورة اسرائيل الحقيقية وأنهى أحلام البعض وتهيؤاتهم وتنظيراتهم حول الفارق بين العمل والليكود وبين الصقور والحمائم... فقد أثبتت الأحداث والتجارب أن السياسة واحدة والاستراتيجية واحدة لأن الفارق الوحيد يكمن في «التكتيك» واللعب على الكلام والمناورة واستغلال عامل الوقت لتمرير الاجراءات التوسعية وإقامة المزيد من المستعمرات الاستيطانية وتكريس الأمر الواقع.

ونحن مدينون لشارون بالشكر لأنه كشف أخطاء العرب بالتفرد في توقيع معاهدات سلام مع إسرائيل والوقوع في فخ الحلول الجزئية والركون للمكر الصهيوني كركون الحملان للذئب. فقد أثبتت الأيام ان اتفاقات أوسلو خلفت كارثة كبيرة على الفلسطينيين وأوصلتهم الى ما وصلوا اليه الآن من أحوال مزرية، وتمثل الخطأ الأكبر في تأجيل الاستحقاقات الكبرى مثل قضايا الحدود واللاجئين والقدس والمستوطنات والتركيز على تفاصيل هامشية يعشش في سطورها ألف شيطان صهيوني ينسفها من أساسها ثم المضي في سياسة تقديم التنازلات والقبول بالمشاريع والخطط المشبوهة مثل تينيت وميتشل ثم خريطة الطريق، مع العلم أن اسرائيل لم تقبل بها ولجأت الى المناورة لدفنها مع غيرها من الاتفاقات والخطط.

نعم نحن مدينون لشارون بالشكر لأنه وضع العرب أمام حقائق دامغة: فإما ان يستيقظوا من غفوتهم التي طالت كثيراً ويوحدوا صفوفهم ويتخذوا مواقف حاسمة وجدية وعملية، وإما أن يجرفهم الطوفان الصهيوني ويؤكلوا يوم أكل الثور الأبيض.

ونحن مدينون لشارون بالشكر لأنه ساعد العرب في فرز المواقف وبيّن لهم من هو الصديق ومن هو العدو ومن هو المنحاز ومن هو المتخاذل. فروسيا التي كانت تحسب حليفة اتخذت مواقف مائعة تصب في النهاية في مصلحة اسرائيل، والصين المارد النائم تحول الى شيطان أخرس يسكت عن الحق ويتغاضى عن الباطل. أما أوروبا فقد أثبتت التجارب أن مواقفها أكثر قرباً من العرب وأشد تمسكاً بقرارات الشرعية الدولية عبرت عنها رداً على «إعلان بوش» بتأكيدها أنها «لا تعترف بأية حدود نهائية إذا لم تكن حدود الرابع من حزيران (يونيو) 7691». وعلى العرب وهم على أبواب قمة عربية جديدة أن يستغلوا هذه الفرصة لتعزيز أواصرهم مع أوروبا كاتحاد ودول. فالتحالف معها ضروري واستراتيجي لأنها تمثل بدايات قوة عظمى مستقبلية فاعلة لا بد من التعامل معها بجدية منذ الآن وقبل فوات الأوان.

ونحن مدينون بالشكر لشارون لأنه بيّن لنا بسياسته الخرقاء ان لا مجال للعرب لفرض مواقفهم واستعادة حقوقهم وتحرير أراضيهم إلا بالعودة للأصول أي اعادة بناء قوتهم الذاتية وتعزيز تحالفاتهم الطبيعية ولا سيما مع الدول الاسلامية والافريقية والتخلي عن التردد في اتخاذ القرارات التي تؤكد جديتهم وتصميمهم على تنفيذها مهما كان الثمن، خصوصاً أن شارون وعصابته مهدوا الأجواء للعرب بكشف صورة اسرائيل الحقيقية أمام العالم بأسره بكل ما تمثله من إجرام ومخالفات لقرارات الشرعية الدولية وانتهاكات لحقوق الانسان.

وبعد فيض الشكر هذا، لا بد من مواجهة الواقع الجديد في المنطقة بعد تأييد الولايات المتحدة خطة شارون الجهنمية الرامية الى الانسحاب من غزة لذر الرماد في العيون وتنفيذ مؤامرة ضم الضفة الغربية والقضاء على آمال الشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة القابلة للحياة واستعادة حقوقه المشروعة، علماً ان اسرائيل كانت منذ البداية تسعى للتخلص من أعباء غزة وكلفتها الغالية، حتى ان رئيس وزراء اسرائيل الراحل اسحق رابين عبر مرة عن أحقاده الدفينة ضد غزة وأهلها البواسل بقوله انه يتمنى لو يستفيق يوماً ويراها قد غرقت في البحر، ولهذا قدمت اسرائيل آنذاك هدية مسمومة للفلسطينيين عنوانها «غزة وأريحا أولاً»، ثم عاد شارون لينفض عنها الغبار ويقدمها زاعماً انه يقدم تنازلات «مؤلمة» يستحق عليها جائزة نوبل للسلام.

ولا أدري لماذا يقف العرب كثيراً أمام خطة شارون أو إعلان بوش ويصورون الأمر وكأنه كارثة كبرى أو انهما يمثلان نهاية القضية أو حتى نهاية الكون. فالولايات المتحدة حددت موقفها واسرائيل كشفت عن نياتها الخبيثة ولم يبق على العرب سوى مواجهة الموقف بشجاعة وحنكة وحكمة. فليقل الآخرون ما يقولون وليتخذوا ما بدا لهم من مواقف وبيانات وخطط ومشاريع، والمهم الاّ يتخاذل العرب أو يسكتوا على الضيم ويتفرقوا وينقادوا لمحاولات تقسيمهم الى معتدلين ومتطرفين وموافقين ورافضين ومترددين ومروجين لمزاعم أن في الهدية المسمومة المقدمة لهم أنهاراً من العسل وجملة ايجابيات يمكن الأخذ بها.

لقد قال الآخرون كلمتهم وعلى العرب اليوم ان يقولوا كلمتهم داخل القمة العربية وخارجها، وعلى كل المستويات من القمة الى القاعدة وألاّ يضيعوا الوقت والجهد في التنديد أو الاختلاف حول مضمون ما أعلنه الآخرون على رغم الاعتراف بخطورته وتماديهم في الظلم.

ولئلا يتهم العرب بالسلبية والرفض والتردد وإضاعة الفرص «الذهبية» المتاحة، لا بد من توصل أصحاب القرار الى موقف موحد يرتكز على التمسك بالسلام خياراً استراتيجياً، لأن خيار القوة غير ممكن وغير متوافر وغير مسموح به في الظروف الراهنة. وأمام العرب في قمتهم المقبلة خيارات عقلانية أهمها تأكيد تبني مبادرة السلام العربية التي قدمها الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد السعودي وتبنتها قمة بيروت ورفض تقديم اي تنازلات، لا سيما بالنسبة الى قضيتي الحدود واللاجئين، والتمسك بقرارات الشرعية الدولية ومرجعية مدريد القائمة على مبدأ الأرض في مقابل السلام. والمهم ألا يتراجع العرب عن مواقفهم المبدئية وألا يلينوا أمام الضغوط المرتقبة لأن اسرائيل دأبت على فرضها التنازلات من العرب والفلسطينيين الواحدة تلو الأخرى حتى انه لم يبق منها سوى «ورقة التوت»، فحذار ان يتخلوا عنها فتنكشف العورات وتضيع قضاياهم الى الأبد.

وصمود العرب واتفاقهم على موقف موحد في الرد على التحديات هو رهانهم الوحيد المتاح في هذه المرحلة، فإذا نجحوا في تجاوز هذا «القطوع»، فإنهم سيتمكنون من إعادة القضية الى مسارها الصحيح وحمل الولايات المتحدة على تصحيح مواقفها والعودة الى جادة الصواب من أجل حماية مصالحها الحيوية قبل مصالح الآخرين. فلا شيء دائماً في السياسة ولا شيء ثابتاً في المواقف. ولا يمكن أن نتوقع من الولايات المتحدة أن تغير مواقفها إذا بقي العرب ضعفاء لا حول لهم ولا قوة ولا قرار.

أما الدعوة لشكر شارون فستتحول الى نكتة الموسم تضاف الى طرائف بوش المضحكة المبكية... عندما تشكر الضحية جلادها، ويشكر المظلوم ظالمه والمسروق سارقه والقتيل قاتله... ويشكر صاحب الأرض والشرعية والحقوق مستعمره ومحتله الغاشم!

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع