شتان بين الديمقراطية والفوضى في
حركة فتح
د. خالد محمد صافي
أستاذ تاريخ العرب الحديث والمعاصر- جامعة الأقصى-
غزة
30/11/2005
إن الاحتكام للديمقراطية هو أمر جميل داخل أي حزب أو
حركة أو دولة ما، ولكن العملية الديمقراطية لها أسس يجب أن تقام وتستند
عليها من
أجل الوصول بها إلى بر الأمان وألا تحولت إلى فوضى عارمة تهدد بالاندحار
إن لم يكن
بالزوال. وهذا ينطبق على حركة فتح التي باتت تعاني من أورام سرطانية عدة
في جسدها
تهدد وجودها ومستقبلها. والاحتكام للعملية الديمقراطية داخلها في
انتخابات
البرايمرز دون معالجة هذه الأورام السرطانية قد أدى إلى ما شهدته صناديق
الاقتراع
من إغلاق وحرق ... الخ. فحركة فتح قد أصبحت أولا ً تفتقد إلى برنامج
سياسي واضح
ومحددا، وأضحى هناك خلاف في هرم قيادتها حول السبل المتبعة للاستمرار في
المشروع
الوطني التحرري بين تبني الخط المفاوض أو الخط المقاوم أو الجمع بين
الاثنين.
ويتجلى ذلك بوضوح في الخلاف بين السيد فاروق القدومي والرئيس محمود عباس
إذ يبدو أن
الأمور تسير بينهما نحو مزيداً من التنافس والصراع على النفوذ ومراكز
القوى أكثر من
الاتفاق والانسجام. وبالتالي فإن حركة فتح اليوم تعاني من تعدد
المرجعيات، بين رئيس
للحركة فاقد السيطرة والتأثير على قرارها وبين لجنة مركزية ومجلس ثوري
يدور في فلك
مخالف لرئيس الحركة. وفي خضم الصراع على الزعامة والنفوذ تراجعت مؤسسات
منظمة
التحرير بل أصبحت ربما في خبر كان، وتقدمت زعامة السلطة على زعامة
المنظمة. وهذا
بالطبع يعود إلى غياب عملية نقدية داخل قيادة الحركة بعد رحيل القائد أبي
عمار. وأن
ما تم آنذاك فيما سمي انتقال سلس للقيادة كان توزيعاً أسمياً وشكلياً
للأدوار
والنفوذ بناءً على مصالح شخصية أكثر من كونه إدراكاً لأهمية ترتيب البيت
الفتحاوي
على أسس سليمة ومؤسساتية للمرحلة القادمة، وتعزيز وجود مرجعية للحركة يتم
الاحتكام
لقراراتها. ولذلك شهدت حركة فتح قبل وفاة الرئيس عرفات تيارات مختلفة مثل
تيار
الوقائي وتيار الشرعية ...الخ، وقد توسع ذلك بعد وفاة الرئيس ياسر عرفات.
وأصبح
الانقسام واضحاً ومثار الحديث حول تيار يتبع لفلان وآخر يتبع لعلان. وقد
ساهم ذلك
في النخر في جسم الحركة التي تعاني من قبل من ترهل في جسمها. وقد يعتبر
البعض وجود
اجتهادات وتيارات داخل الحركة عاملاً إيجابياً وأنه عاملاً من عوامل
الصحة، وأن
الحركة تحترم الرأي والرأي المخالف، وتفسح المجال للمناقشة والاجتهاد.
وقد اتفق مع
هذا الرأي إذا تم في جو ديمقراطي سليم، يتم فيه احترام الأقلية لقرار
الأغلبية،
واحترام الأغلبية لحق الأقلية في التعبير عن رأيها، ولكن في ظل تعدد
المرجعيات
وتصارع الزعامات يبدو أن تعدد الآراء قد أصبح مثاراً للخلاف والصراع أثر
مما هو
مجالاً للحوار وتبادل الآراء.
وثانياً تعاني الحركة من تعدد أجنحتها العسكرية،
بحيث أصبح الصراع بين الأجنحة هو السمة البارزة أكثر من
التعاون. فهناك كتائب متعددة، ومجموعات متعددة،
وفرسان كثر ونقلت هذه الأجنحة صراعاتها إلى الأجهزة
الأمنية أو أصبحت هي ذاتها واجهة الصراع بين الأجهزة.
وقد تنافست بعض هذه المجموعات في السابق على
مقاومة الاحتلال، ولكن بعد خروج القوات الإسرائيلية من غزة، وجهت هذه
الأجنحة أسلحتها في اتجاه آخر. وبالرغم من أن العديد من
هذه الأجنحة قد بذل دوراً مشهوداً في عملية
المقاومة ضد الاحتلال فإن البعض منها لم يشارك في عملية المقاومة،
وتم إنشاؤه في الأساس لتحقيق مصالح شخصية للقائمين عليها
للحصول على رتب عليا مدنية أو عسكرية، أي تم
إنشاء هذه الأجنحة للضغط وربما تهديد أصحاب القرار بالاستسلام
لمطالبها. وأصبح بعضها منغمساً في مظاهر الانفلات الأمني
الذي تعاني منه الأراضي الفلسطيني وبالتالي جزءاً
من المشكلة وليس جزءاً من الحل. ولم تقم
قيادة حركة فتح
أو قيادة السلطة بجهود جدية لدمج هذه الأجنحة، وإيجاد مرجعية عسكرية
واحدة للحركة
مما أفقد الحركة قدرتها على حكم عناصرها وتراجعت شعبيتها. فبعد أن كانت
حركة فتح هي
رائدة المشروع التحرري الوطني قد أصبحت مصدر تفريخ مجموعات عسكرية تحتكم
إلى
البلطجة في سلوكها، وتهدد أمن الشارع الفلسطيني واستقراره. وأصبح سلاحها
مصدر خوف
في المجتمع بدل أن يكون مصدر أمن وحماية. وها هو السحر يرتد على الساحر
فهذه
الأجنحة التي تم إنشاؤها بمساندة بعض قيادات حركة فتح قد أصبحت مصدر
تهديد لها،
وتقويضاً لدور حركة كانت رائدة في العمل الوطني والكفاح المسلح.
وثالثاً إن الذي يهدد جسم الحركة ومستقبلها هو
الاندماج بين الحركة والسلطة الوطنية الفلسطينية. فمنذ قيام السلطة أصبح
الانتماء
للحركة والسير في ركابها يتم من أجل تحقيق مصالح شخصية. فالأغلبية أضحت
تبحث عن
الاستحقاق واعتبرت ذلك حقاً لها. فالكل في هجوم محموم بحثاً عن الرتب
المدنية
والعسكرية وتناسوا أن المشروع التحرري لم يكتمل بعد بل أن المخاطر التي
تتهدده أكثر
من عوامل الآمان للوصول به إلى قارب النجاة. فأضحت حركة فتح حركة تضم من
المرتزقة
أكثر مما تضم من المنتمين لمبادئ وتاريخ ومشروع. وبالتالي أصبح قيام
السلطة
والتصاقها بحركة فتح كحزب
حاكم عاملاً من عوامل ضعف
الحركة بدلاً أن يكون عاملاً من
عوامل قوتها أي باحتضان السلطة كجسم كياني فلسطيني للمرة الأولى وتطويره
والذود عنه
كنواة للدولة الفلسطينية المستقلة. وانغمس ذوو النفوذ في النهش من جسم
السلطة
والحركة حتى أدموا هذا الجسم متصفين بصفة التكالب على النفوذ والمال أمام
تراجع
مبدأ إيثار المصلحة العامة للفصيل أو الوطن. ويشهد الترشيح للانتخابات في
البرايمرز
مشهداً مرتزقياً واضحاً حيث أن نسبة لا بأس ممن رشح نفسه قد دخل اللعبة
بحثاً عن
مصالح شخصية بالدرجة الأولى أو بحثاً عن درجة مدنية أو عسكرية هنا وهناك
أو القفز
إلى هرم الزعامة ربما في غفلة من الزمن، وهم يفتقدون إلى دافعية العمل من
أجل
الصالح العام. ونسبة أخرى تدخل الترشيح بسبب تنافسات شخصية وعائلية
عشائرية وتصفية
حسابات ليس إلا. ولم يضع العديد بل الكثير منهم مصلحة الحركة وطبيعة
المرحلة نصب
عينية. لذلك تجد ترشيح الأخ وأخيه والابن وأبيه. وتجد عدداً لا بأس بها
يفتقد إلى
أدنى القدرات أو المؤهلات التي يجب أن يتصف بها عضو المجلس التشريعي، حيث
يعتقد أنه
يدخل انتخابات حارة أو منطقة أو إقليم أو جمعية. فالمجلس التشريعي
ينتظره مهام
تعجز عن حملها الجبال بسبب دقة وصعوبة المرحلة وتشعب التحديات. ولذلك نجد
أن العديد
من المرشحين قد أصبح هدفاً للتندر في الشارع ومثار سخرية في المجالس حتى
بين أهل
بيته وعائلته. وهذا بحد ذاته يشكل مثالاً واضحاً عما آلت أليه الحركة من
سيادة
عقلية الارتزاق في عناصرها وقياداتها الميدانية والعليا. وافتقارها إلى
أدنى درجات
الانضباط التنظيمي. وغياب روح المسؤولية والانتماء على صعيد الفكر
والممارسة.
إن قيام حركة فتح بإجراء انتخابات برايمرز لاختيار
مرشحيها دون أن توحد مرجعيتها السياسية والعسكرية، ودون
أن تعيد تعبئة صفوفها على أساس من الانتماء وليس
الارتزاق، هو ضرب من الفوضى وليس ضرباً من الديمقراطية.
فالديمقراطية شيء والفوضى شيء أخر وشتان
بين الاثنين. وأن انفلات المرجعية
والبرنامج السياسي والعسكري سيهدد وجود حركة فتح
ومستقبلها لاسيما وهي تنافس حركة يشهد لها بوحدة
المرجعية السياسية والعسكرية، وتتمتع بقدرة تنظيمية هائلة في الحشد
والتعبئة والانضباط. فهل تصحو حركة فتح من غفوتها وتعيد
تنظيم صفوفها ضمن رؤية نقدية جادة أم ستجد نفسها
خارج أصول اللعبة شاء من شاء وأبى من أبى.
|