الشرق الأوسط الكبير

الدكتور عبد الستار قاسم

 

من المطلوب أن نتريث في تناول فكرة الشرق الأوسط الكبير على أنها مشروع متكامل يمكن أن يجد غدا طريقا نحو التنفيذ. فالفكرة أولا ليست جديدة، وهي لم تخضع بعد لبلورة تجعل منها كلا متكاملا بخطوط عريضة وتفاصيل. طلت علينا الفكرة بمسميات متعددة منذ خمسينيات القرن الماضي، وبلورها شمعون بيريس في كتاب بعنوان الشرق الأوسط الجديد. لكن مع كل الضعف العربي لم يحقق أصحابها نجاحا حتى الآن على الرغم من وجود أطراف عربية متنفذة سياسيا وثقافيا راغبة في التعاون.

واضح أن الفكرة ليست عربية وليست إسلامية وإنما غربية إسرائيلية. إنها ذات منابت بريطانية بداية وتم تبنيها أمريكيا، واحتُضنت إسرائيليا. ولهذا تعكس ملامحها ملامح السياسة الغربية في المنطقة وبالذات فيما يخص القضية الفلسطينية. فلسطين، حسب السياسة الغربية عبارة عن الوطن القومي لليهود، ولا غرابة أن فلسطين والقضية الفلسطينية مغيبتان. مشكلة الفلسطينيين كسكان هي المطروحة وليس القضية الفلسطينية بمختلف عناصرها الحقوقية والوطنية والسياسية والسيادية، الخ. أي أن المطروح قضية أفراد وليس قضية شعب ووطن.

على أية حال، من المطلوب ألا نفترض سلفا بأن الفكرة ستتبلور إلى مشروع متكامل مؤهل للنجاح. تبني أمريكا وإسرائيل للفكرة عبارة عن عنصر فشل أكثر منه عنصر نجاح.

 

المفهوم

من الصعب جدا تحديد معنى واضح قاطع مانع لمفهوم الشرق الأوسط الكبير. حتى أن مفهوم الشرق الأوسط بحد ذاته غير واضح أيضا. أتت التسمية أساسا من التراث الاستعماري البريطاني الذي صنف المناطق غير الأوروبية الواقعة إلى الشرق من إنكلترا إلى ثلاث: الشرق الأدنى، الشرق الأوسط والشرق الأقصى. وقد كانت جرينيتش هي نقطة المركز التي يدور العالم حولها، ومنها تشعبت خطوط الطول. لم ينل أي من المناطق الثلاث على تعريف واضح. فمصر مثلا تصنف أحيانا على أنها من الشرق الأوسط وأحيانا أخرى من الشرق الأدنى. أما باكستان فحائرة بين الشرق الأقصى والشرق الأوسط.

من الناحية الجغرافية، المنطقة المشار إليها بطريقة عائمة على أنها الشرق الأوسط هي حقيقة قلب العالم القديم أو مركزه لأنها تتوسط القارات القديمة: أوروبا، آسيا وإفريقيا. وأرى أن التسمية تكون أقرب إلى الصواب لو نُعتت المنطقة بمركز العالم لأنها تجاريا وعسكريا كانت كذلك، ولأن الجغرافيا لا تتحفظ كثيرا على التسمية. لكن البعد الذاتي الاستعماري والأنانية غلبتا المنطق العلمي في كثير من الأحيان. حتى أن المتتبع للخرائط الأمريكية يجد أن التراث البريطاني قد تم رفضه ووضعت الأمريكيتان في منتصف العالم لتصبح آسيا الغرب الأقصى وأوروبا الشرق الأدنى. 

أما الكبير والصغير فلا تعريف لهما أيضا. تخضع مسألة المساحة أو الحجم لرغبة المتحدث ومقاييسه الذاتية سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو ثقافية. ولهذا ليس من المتوقع أن يبقى الكبير على كبره، بل سيتذبذب تبعا لتذبذب المقاييس السياسية والمصلحية. قد لا تكون إيران الآن مشمولة في الكبير، لكنها قد تصبح غدا. ومن الممكن أن تكون اليمن ضمن التعريف بينما تخرج منه مصر لأسباب سياسية. وهذا يعني أن التعريف، مهما بدا جذابا ومريحا، لا يحمل في داخله مقومات الصمود إلا إذا طغت عليه الصبغة الموضوعية.

 

أسباب بروز الفكرة من جديد

لم تأت الفكرة من فراغ ولم تكن بمعزل عن المصالح الأمريكية. رأت أمريكا أن الأمور تسير في المنطقة على غير هواها وعلى غير هوى إسرائيل، فطرحت المشروع بناء على ما يلي:

أولا: تحقق سياسات الولايات المتحدة في المنطقة منسوبا متزايدا من الكراهية والضيق لدى شعوب المنطقة وبالذات لدى الحركات الإسلامية والقومية. أمريكا لا تقيم وزنا لمشاعر الناس ولا لاهتماماتهم وكرامتهم، ومضت عبر السنوات في سياسات مقبولة للمستوى الرسمي العربي دون الانتباه إلى درجة الرفض الشعبي. والنتيجة أنه حق على أمريكا مفهوم الشيطان الأكبر الذي أطلقته عليها الثورة الإيرانية بقيادة الخميني.

ثانيا: تبين لأمريكا أن الأنظمة التي حظيت بدعمها عبارة عن أنظمة متخلفة وظالمة ولا تتمتع بتأييد شعبي. تنادي أمريكا بالديمقراطية، في حين تراها شعوب المنطقة دولة داعمة للاستبداد وسببا رئيسا في قمع الإنسان العربي.

ثالثا: قدرت أمريكا مدى استياء الشعوب من الأنظمة التي تبدد الثروات ولا تعتني برفاهية الشعوب ولا تقدم في كثير من الأحيان الحد الأدنى من الخدمات المطلوبة. هناك نسبة فقر عالية على الرغم من وجود ثروات هائلة في المنطقة، وهناك نسبة أمية عالية.

رابعا: أخذت أمريكا تدرك مدى تأثير الهزائم التي مني بها العرب على نفسية الإنسان العربي، ودرجة تأثير ذلك في بناء ثقافة الانتقام. وربما تشير أحداث أيلول في نيويورك وواشنطون إلى هذه الرغبة العربية المتصاعدة.

سادسا: النتائج واضحة بين أيدي الأمريكيين وغيرهم وهي تتمثل بظهور حركات سرية مقاتلة تهدد أمن إسرائيل والولايات المتحدة والدول الأوروبية. إسرائيل أقل أمنا من أي وقت مضى في تاريخها القصير، والولايات المتحدة تواجه متاعب أمنية متزايدة. أي أن الوضع القائم أصبح مفرخة للتنظيمات والأعمال التي يطلق عليها إرهابية. التيار الإسلامي الرافض للهيمنة الغربية والصهيونية بتصاعد ويكتسب زخما شعبيا واسعا. إنه تيار قادر على كسب انتخابات إذا جرت بنزاهة في مختلف الدول العربية والإسلامية، وقادر على خوض معركة دموية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل. هذا يهدد مصالح أمريكا وإسرائيل.

سابعا: صنعت أمريكا لنفسها بؤرا معادية تشكل ساحات حرب متفاوتة الشدة. أتت إلى العراق بدعوى التحرير فوجدت أنها بحاجة إلى المزيد من القوات لحماية جنودها، وذهبت إلى أفغانستان لوأد ما تسميه بالإرهاب فارتفعت وتيرة الإرهاب العالمي. وهي تحرض النظام الباكستاني ضد العديد من الناس والفئات مغامرة بصناعة مركز جديد قوي لإنشاء تنظيمات سرية معادية. أي أن السياسات الأمريكية ارتدت في كثير من الأحيان عكسيا مما يضطر الولايات المتحدة إلى البحث عن مخارج مع حفظ ماء الوجه.

 

ما العمل

السؤال الكبير المطروح هو: كيف يمكن امتصاص نقمة الشعوب في ذات الوقت الذي تتأثر فيه المصالح الأمريكية والإسرائيلية سلبا؟ أو ما هي السياسات التي يجب اتباعها فتحسن من وضع الإنسان العربي بعيدا عن الوعي العروبي والإسلامي ضمن الرؤية الأمريكية-الإسرائيلية؟ أي أنه إذا أتت سياسة القمع المباشر والإخضاع بنتائج عكسية فمن المفروض استقدام سياسة جديدة تبقي العرب مطية للغير بطريقة مريحة.

هناك عدد من المحاور المتكاملة التي تحاول الولايات المتحدة سلكها لتحقق أغراضها وهي:

أ‌-         الاستبدال القيمي والذي يعني تغييب قيم اجتماعية ومادية وثقافية ودينية سائدة حاليا لصالح قيم مادية جديدة تبتعد عن الترابطية وترسخ الفردية. من المطلوب الترويج الواسع للقيم الفردية والتحررية الجديدة التي تهتم كثيرا بالفرد على حساب المجتمع وتضرب بعرض الحائط بتلك القيم التي تجعل من الناس أسرة واحدة يجمعها التآلف والمحبة. أي لا توجد محاولة لإلغاء الفرد وإنما إعادة صياغته بطريقة تحول الجماعة إلى مجرد مجموع، وتحول المصلحة العامة كعنصر يعتمد على المصلحة الخاصة.

ب‌-      إحلال الهم الاقتصادي المادي محل الهم القومي بحيث لا تعود مسألة العزة القومية والوحدة العربية ذات معنى. الهزائم لها علاقة بأنظمة مهترئة وبأحقاد قومية تجاوزها التاريخ، لكن النصر يقاس بمقدار ما يحقق الشخص من مكاسب مادية تجعل حياته الخاصة مريحة بطريقة لا تدفعه إلى التفكير بتلك الأمة العظيمة المترامية من المحيط إلى الخليج.

ت‌-     تحويل الإسلام إلى علاقة ما-فوق-الطبيعة يناجي فيها المرء ربه مباشرة بالطريقة التي تريحه. هذا الإسلام الذي يهتم بالدنيا ليس دينا وإنما تعبير عن هموم أناس معقدين لا يقوون على شق حياتهم بسهولة فيحملون فكرة الرب يروجون لها لتضليل الناس.

ث‌-     التضييق والتوسيع بحيث تصبح الهموم القومية والإسلامية محاصرة تماما وتصبح الهموم المادية عامة في كل المنطقة المنوي إعدادها كشرق أوسط كبير. تضيق مساحة الانتماء والشعور الجماعي المنحصر في المنطقة العربية أو الإسلامية لصالح اتساع الاهتمام المادي الذي يستهلك الجهد والوقت. الاتساع المادي يتغذى على الشعور بالانتماء فتضيق دنيا الفرد على الرغم من اتساع الجغرافيا.

ج‌-       صناعة إسرائيل على أنها العقل المدبر والعبقري الذي يدفع بالمنطقة نحو التطور والتطوير. المحاور أعلاه في خدمة هذا المحور الذي يجب أن يحافظ على قيمه القومية والدينية وعلى مشاعر الانتماء والتفوق. ومن المفترض أن يساهم هذا في بث المزيد من مشاعر النقص واليأس في نفوس العرب والمسلمين مما يجعلهم أكثر رغبة في التسليم غير المباشر لإرادة الغير.

 

فكرة الشرق الأوسط الكبير تبعد التطلع العروبي والإسلامي عن السياسة العامة في المنطقة ذلك لأن من الشركاء من هم غير عرب ومن هم غير مسلمين. الإطار العام للفكرة أوسع من العروبة وأوسع من الإسلام ويأخذ بعدا جغرافيا ينفي مسائل الانتماء العقائدي والقومي. بهذا يمكن تحويل التطلعات العربية من العروبة والإسلام إلى تطلعات رفاهية واقتصادية لها علاقة بالجيب وليس بالعقل أو الشوق النفسي.

فكرة الشرق الأوسط الكبير تريح الأنظمة العربية والمثقفين المتعاونين مع الغرب من مسألة التطبيع مع إسرائيل. فبدل أن تكون فكرة التطبيع مع إسرائيل مطروحة بمخاطرها، تصبح المسألة ذائبة في مستقبل المنطقة ككل وضرورة تعاون الجميع من أجل رفاء الجميع. وبما أن إسرائيل هي الأقدر علميا وتقنيا فإن السواعد العربية والتركية وغيرها ستكون ظهيرا للعقل الإسرائيلي. ومع الدعم الغربي لإسرائيل، سيكون الشرق الأوسط الكبير بقيادة إسرائيل التي تحقق دخولا ميسرة في المنطقة وبأقل الأضرار الممكنة.

والفكرة ستريح الأنظمة وتحرريو الغرب من العرب من القضية. هذا سأناقشه تاليا.

 

الملامح الأساسية للشرق أوسط الكبير

تطرح أمريكا الأمور التالية كي تصل إلى أهدافها:

أولا: تحديد الشرق الأوسط الكبير أولا. هذا التحديد لم يحصل بعد وهو خاضع للمداولات بخاصة أن هناك دولا صديقة لأمريكا وأخرى عكس ذلك، ودولا يمكن أن تدخل في المشروع وأخرى لن تقبل. أما إسرائيل فهي جزء من المشروع ومن المؤكد أن تكون عضوا. لكن أمريكا ستواجه أزمة بالتأكيد في مسألة التعريف بخاصة فيما يخص سوريا ولبنان وإيران، وفيما يخص أي تغييرات سياسية قادمة وغير متوقعة. ولهذا من المحتمل جدا أن تؤسس أمريكا القلب النابض للمنطقة الذي يقرر كيف يشع وتائر عمله وعلى من. إسرائيل تبقى الرقم الأول الذي يمكن أن يسمح ظرفيا لأطراف أخذ أدوار ذات أهمية.

لكن حتى تفعل ذلك، ستحاول الولايات المتحدة أن تكون حذرة جدا خاصة أن الجزء الأكبر من حرجها وهمومها في المنطقة يتأتى من دعمها إسرائيل. الدعم الأمريكي المباشر والمكثف لإسرائيل يضع مختلف الخطط الأمريكية في حالة تشكك، ويضع أعوان واشنطون من الحكام والمثقفين على لسان وقلم المنتقدين، ويقدم دعما لجدليات المناهضين للسياسة الأمريكية ولوجود إسرائيل. لن يكون من السهل على أمريكا تثبيت تصوراتها الحالية بهذه المسألة دون أن تغرق في ذات الدوامة التي تعاني منها الآن، وسترى واشنطون أن إسرائيل بقدر ما هي حليف هي عبء كبير أيضا.

ثانيا: إحداث تنمية اقتصادية تركز على خلق فرص عمل وتعمل على توزيع أفضل للثروة. الهدف هو تقليص نسبة الفقر ورفع دخول الناس المالية على اعتبار أن الفقر يؤدي إلى الانضمام إلى تنظيمات سرية ومن ثم إلى القيام بأعمال عسكرية ضد أهداف أمريكية وصهيونية وأوروبية. وعليه فإنه ستقام صناديق التنمية وستتم المباشرة بمنشآت اقتصادية تستوعب ملايين الأيدي العاملة.

لكن تتطور مع هذه الفرص الجديدة قيم مادية جديدة بحيث يبدأ المرء يشعر بثقل الحياة المادية الجديدة بالمقارنة مع ما كان. الفواتير ستزداد ومعها متطلبات الحياة المادية ومعهما تركيز الوقت والجهد على جمع المال على حساب أمور أخرى أخذت أهميتها العملية تتقلص. هذا أمر حاولت الأنظمة العربية التأسيس له منذ سنوات بحيث ينشغل الفرد بشهواته ومتطلباته اليومية على حساب قضايا عامة حيوية، لكن فساد هذه الأنظمة وقدرتها العجيبة على تبذير الأموال وإهدار الثروة لم يحقق لها النجاح. بل على العكس، أدت عملية الفساد إلى رد فعل معاد للأنظمة يفوق أثره السلبي الأثر الإيجابي الذي ولده تلهي الناس بشؤونهم الخاصة لمصلحة الحكام.

ثالثا: إحداث تنمية سياسية تنهي عهود الاستبداد وتأتي بالديمقراطية إلى المنطقية. أدى قمع الأنظمة الرسمية العربية إلى الكثير من الاستياء مما دفع الكثيرين نحو التنظيمات السرية بخاصة التنظيمات الإسلامية. يجب تطوير الديمقراطية في الوطن العربي إنما إلى الحد الذي لا تفرز فيه قيادات معادية للمصالح الغربية أو متمسكة آيديولوجيا وقوميا بالإسلام والعروبة. أي يجب أن تبقى الديمقراطية تحت السيطرة بحيث لا تأتي الانتخابات بأشخاص غير مرغوب فيهم إسرائيليا وأمريكيا، أو بحيث تبقى الأغلبية لصالح الشرق الأوسط الكبير.

لكن هل من الممكن أن يتحقق ذلك؟ المسألة معقدة جدا ومن الصعب تخيل ديمقراطية مرتبة بطريقة معينة بحيث تفرز المرغوب فيهم وتستبعد المتمردين. حاولت دول عربية الالتفاف حول هذه المسألة من خلال نظم انتخابية متخلفة تعطي أولوية لأنماط اجتماعية معينة على حساب أطر اجتماعية حديثة. لكن هذا لم يسعفها ولم يجعلها ديمقراطية. تجري انتخابات في الأردن ومصر، لكن النظام الانتخابي في كل من الدولتين لم يجعل أيا منهما دولة ديمقراطية. ربما تلجأ الولايات المتحدة وإسرائيل، كما عهدنا الأمور في منطقتنا، إلى صناعة القادة والزعماء من خلال ضخ الأموال وتوظيف الإعلام وبؤرية الانتقاد والعداء. إنهما يوفران الأموال للقائد المطلوب ويستقدمان وسائل الإعلام المختلفة بطرق متعددة لتغطية نشاطاته، وتعملان على استعدائه ليكسب صورة البطل الذي يناهض الاستعمار والصهيونية. لقد نجحت الدولتان حتى الآن في هذا المجال ومن المحتمل أن تحققا نجاحا في المستقبل.

رابعا: إعادة النظر في المناهج التدريسية والتثقيفية بحيث يتم استبعاد الإسلام المجاهد لصالح الإسلام الكهنوتي، ويتم استبعاد التاريخ لصالح الواقع الاقتصادي. وهنا تتم مراقبة مناهج المدارس والتدريس الديني ونشاطات المساجد. ستعمل أمريكا وأعوانها في المنطقة على تحويل المسجد إلى صومعة للمتهجدين والصائمين النائمين، وسيعملون على إلغاء دوره كجامع. سيتم تشجيع الدراويش وفرق الصوفية الانعزالية وملاحقة الإسلام الحركي الذي يصنع منهاجا حياتيا وفق مبادئ وتعاليم إسلامية.

هنا لا بد من فصل العربي والمسلم عن التاريخ. لن يكون التاريخ مهما لأنه قد مضى، والأهمية ستعطى للمستقبل المادي للفرد. تاريخ الأمويين والعباسيين سينتهي إلى فترة إجرامية تنافس فيها أناس أشرار وسعوا ممالكهم بحد السيف ونهب الشعوب. أما تلك الأمجاد التي تبعث الأمل في النفوس فسيطويها التاريخ في صفحات لا ترى النور.

خامسا: رفع مستوى المرأة بحيث تنخرط في الحياة العامة من مختلف النواحي التعليمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. لكن هذه المرأة ليست تلك التي تقوم على أسرة وتحافظ على الترابط الأسري والاجتماعي وإنما تلك التي ترى في فرديتها عنوان حريتها وفي جسدها ملكا خاصا يمكن استعماله كأداة. سيكون الإغراء الأنثوي مقبولا، والدعارة الاختيارية جزءا من الحرية والاغتصاب محرما. وبدل أن تكون علاقة الرجل بالمرأة علاقة تكاملية ستصبح علاقة ندية وربما تنافسية إحلالية. هذا سيقوض جزءا كبيرا من أواصر المحبة بين الناس وسيؤثر على النسيجين الاجتماعي والأخلاقي بشكل خطير.

أي أن التركيز الأمريكي على المرأة لن يكون بهدف تحررها وتحريرها وإنما بهدف سوقها إلى عالم التزاحم الرأسمالي التي يجعل منها في كثير من الأحيان سلعة غير محترمة. وبالطبع ستستغل أمريكا سوء أوضاع المرأة في الوطن العربي والعالم الإسلامي لتكون مقنعة.

سادسا: تذويب التطلعات العربية وإخفاؤها لصالح التطلعات المادية والاقتصادية التي لا تقيم للأبعاد القومية والدينية وزنا. هنا وفي كل الخطوات سيتم استخدام التحرريين (الليبيراليين) العرب لتنفيذ المشاريع المطروحة. هؤلاء منتشرون الآن في مختلف أنحاء الوطن العربي وهم يتقاضون أموالا ليفعلوا ما يؤمرون. أغلب هؤلاء يعادون القومية العربية والإسلام ويسخرون من التطلعات العربية ومن المقاومة الفلسطينية والعراقية وكل الحركات الجهادية والأحزاب المناوئة للاستعمار والصهيونية. خرج أغلبهم من ثوبهم العربي والإسلامي ليلبسوا الأفكار الغربية التي ترى في الحياة الغربية القائمة على الفردية والتحررية والرأسمالية الليبيرالية الحديثة غاية المنى.

سابعا: فلسطين موجودة في الشرق الأوسط الكبير ضمن المنطلقات الغربية الإسرائيلية. إنها منطلقات تسلّم بوجود إسرائيل وتعتبرها جزءا فاعلا ولا يتجزأ من المنطقة، وتفتح أبواب التطبيع معها. وهو أصلا لم يكن مشروع الوطن العربي الكبير أو العالم الإسلامي الواسع لأن الهدف ليس رفاهية الشعوب وإنما سيادة إسرائيل في المنطقة وبقاؤها. فيما يلي المزيد من التفصيل:

 

فلسطين في المشروع

يقوم الفكر الغربي وبالأخص الفكر الأمريكي تجاه ما يسمى بقضية الشرق الأوسط أو القضية الفلسطينية على العناصر التالية:

أولا: فلسطين هي الوطن القومي لليهود وعليها تقوم الدولة اليهودية التي من المفضل أن تكون خالصة. وقد تم التعبير عن هذا مرارا وتكرارا منذ تصريح بلفور عام 1917 حتى المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس الأمريكي برفقة شارون عام 2004. لم يترك الغربيون مجالا للشك بأنهم يحرصون على أن إسرائيل هي دولة اليهود.

ثانيا: هناك مشكلة سكانية فلسطينية من شقين: اللاجئون وسكان الضفة الغربية وقطاع غزة ويجب حلها كمدخل لتحقيق الاستقرار في المنطقة. التوطين هو الحل الأمثل لقضية اللاجئين لأن عودتهم إلى بيوتهم وممتلكاتهم، حسب النظرة الغربية، غير واقعية. هنا يتفق الأوروبيون والأمريكيون في تجاوز المقررات والمواثيق الدولية، لكنهم يعتبرون مساعدة الفلسطينيين على التوطن في البلدان العربية حيوية لمصالحهم ومصالح إسرائيل.

لا يهتم الغربيون بالعرب داخل فلسطين المحتلة عام 1948 على اعتبار أنهم شأن داخلي إسرائيل وتستطيع إسرائيل اتخاذ السياسات المناسبة للحيلولة دون تطورهم إلى أقلية قومية تناضل من أجل نيل حقوق قومية. لكنهم يهتمون بسكان الضفة والقطاع ويعملون نحو إيجاد حل يبقيهم مجرد سكان ولا يرتقي بهم إلى دولة حقيقية ذات سيادة. تهجير الفلسطينيين من الضفة وغزة أمر غير وارد تحت الظروف الدولية الراهنة، وتبقى مسألة حجزهم في منطقة جغرافية ضيقة هي الخيار الأفضل. هذا خيار يصنع وهما بأن هناك دولة فلسطينية مما يشبع رغبة القيادة الفلسطينية بالظهور بمظهر المحرر، وفي نفس الوقت يحافظ على المتطلبات الأمنية الإسرائيلية التي يعمل الكيان الفلسطيني وكيلا لها.

هنا لا يصادف الأوروبيون والأمريكيون أي مشكلة في هذا الطرح بسبب تجاوب المستوى الرسمي العربي بمن فيه الفلسطيني معه. على الرغم من أن القيادة الفلسطينية تنطق بعبارات ثورية أمام وسائل الإعلام، إلا أنها من الناحية الفعلية ارتضت التنازل عن حق العودة وعن التدخل في شؤون الفلسطينيين في الأرض المحتلة/48 وعن إقامة دولة فلسطينية عبر منهج التحرير؛ وارتضت أيضا أن تكون عونا أمنيا لإسرائيل وفق اتفاقيات أمنية.

ثالثا: إسرائيل جزء لا يتجزأ من المنطقة ويجب على العرب تطبيع العلاقات معها منفردين وليس مجتمعين. يفتح التطبيع الطريق أمام إسرائيل للدخول في مختلف النشاطات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في البلدان العربية، ويؤثر على النفسية العربية بطريقة تقبل فيها إسرائيل كدولة لها الحق في البقاء، وترفض الأقوال الفلسطينية بأن للشعب الفلسطيني حقوقا ضائعة. أي أن قبول إسرائيل يجب ألا يبقى أمرا تفرضه القوة العسكرية بل يجب أن يتحول إلى ثقافة عربية لها جذور عميقة في التكوين النفسي العربي.

رابعا: المحافظة على إسرائيل قوية من الناحية العسكرية بحيث تبقى متفوقة على الدول العربية منفردة ومجتمعة، والسلام لا يتأتى إلا بإسرائيل قوية وعرب ضعفاء. ولهذا تتم ملاحقة مصادر القوة العربية وتدعيم قوى الحرب والردع الإسرائيلية.

خامسا: ملاحقة كل جهة عربية لا تسلم بهذه الركائز وتقديم الدعم للعرب المرتضين.

 

وإذا كانت رفاهية الشعوب هدفا فإنها تبقى ضمن الظروف المطلوب إقامتها في المنطقة للحيلولة دون قيام ثورة على الأنظمة العربية أو نشوء حركات مقاومة سرية قادرة على استقطاب الناس حولها. بل أن كل الحديث عن رفاهية شعوب المنطقة ودمقرطتها إنما يصب في خانة درء ما هو أسوأ لكن دون التضحية برموز الحكم العربية التي ما زالت قادرة على تقديم خدمات لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل.

فأين الشعب الفلسطيني في المعادلة؟ أعتقد أن اتفاقية أوسلو المعقودة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية تقدم حلا. نصت الاتفاقية على تأجيل التفاوض بشأن اللاجئين إلى مفاوضات الوضع النهائي، وفي ذات الوقت تم انعقاد مؤتمر اللاجئين على مستوى المنطقة للبحث في مسائل اللاجئين وبمشاركة السلطة الفلسطينية. كان ذلك المؤتمر نواة لحل مشاكل المنطقة على اتساعها وبمشاركة من دول أخرى من خارج المنطقة مثل روسيا وأمريكا والاتحاد الأوروبي. المعنى أن المشروع الشرق أوسطي سيبحث عن حل لكل مشاكل اللاجئين في المنطقة بما فيها مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ومن يسمونهم اللاجئين اليهود في البلاد العربية. ومن المحتمل جدا اعتبار الفلسطينيين داخل فلسطين لاجئين عرب في أرض اليهود ومن الضروري إعادتهم إلى موطنهم الأصلي.

أما عن إقامة الدولة، لن تسمح إسرائيل وأمريكا بإقامة دولة عربية غربي نهر الأردن. الحديث الدائر الآن حول إقامة دولة فلسطينية والتصريحات الأمريكية بشأنها لا يعني بأي حال من الأحوال إقامة دولة فلسطينية حقيقية ذات سيادة، وإنما يعني إقامة كيان فلسطيني يشرف على شؤون المدنية للسكان الفلسطينيين ويلتزم بالمتطلبات الأمنية الإسرائيلية. إنه يعني استخدام الفلسطينيين كوكلاء للاحتلال، كيانهم يبقى ما داموا ملتزمين وإلا فإن إسرائيل تدخل بدباباتها إلى مناطق هذا الكيان بالطريقة التي تراها مناسبة.

الشرق الأوسط الكبير من أجل بقاء إسرائيل وهيمنتها وليس من أجل احترام حقوق الشعب الفلسطيني أو جعل العرب ديموقراطيين. إنه مشروع لا يختلف جذريا عن المشاريع التاريخية التي حملت ذات الهدف، ومثلما فشلت تلك، فإنه ليس من المتوقع أن ينجح هذا.

 

الشرق الكبير والعولمة

لا تنفصل فكرة الشرق الأوسط الكبير عن التحول نحو العولمة. هناك تحول عالمي بقيادة الولايات المتحدة نحو عولمة تكرس هيمنة معينة ومنهجا حياتيا متناسبا مع الطرح الفكري-الثقافي الغربي ومع الرأسمالية الليبيرالية الجديدة التي ترى في نفسها نهاية التاريخ. وإذا أراد الباحث أن يقف عند انسجام الطرح الخاص بالشرق الأوسط الكبير مع الفكرة العامة التي تستهدف العالم، فإن أمامه أن يعالج البعد العالمي ككل يهضم الإقليمي.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع