نحو شرعية فلسطينية جديدة

أساسها حل السلطة وإجراء إنتخابات عامة

 

خالد الحروب

 

صحيفة الحياة 7/8/2004

 

الصراع المخجل على المناصب في فلسطين، والتمرد المتصاعد على زعامة ياسر عرفات، واستشراء الفوضى والفساد ووصولهما إلى درجة تدميرية، وغياب بوصلة وطنية فلسطينية، والفشل الدبلوماسي الفلسطيني في استثمار التعاطف الدولي والإنتصارات الصغيرة مثل قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي، هو إنعكاس لإضمحال الشرعية الفلسطينية، من ضمن أشياء أخرى. لا يعني هذا تبرئة "إسرائيل" التي حفرت عميقاً في البنية التحتية الفلسطينية وعلى كل الجبهات وأعطبتها.

 

هذه السطور تتناول ما خص الشرعية الفلسطينية المتآكلة والضرورة الملحة التي تطرحها وهي إعادة خلق وتكوين شرعية جديدة تأخذ بالإعتبار المعطيات والتطورات والإخفاقات التي شهدها المسار الفلسطيني في العشر سنوات الماضية، أي سنوات أوسلو.

 

التردي الحالي الذي يشهده الأداء الفلسطيني المنبثق من أوسلو يؤكد، للمفارقة، مقولة شهيرة لـ"أبو مازن"، مهندس أوسلو، كان قد أطلقها عشية التوقيع على الاتفاق سنة 1993. آنذاك، قال أبو مازن إن الاتفاق قد يقود إلى دولة فلسطينية أو إلى الكارثة، وذلك تبعاً للأداء الفلسطيني. نحو الآن في مواجهة الكارثة، وأبو مازن كان نتفائلاً لأنه أراد أن يتغافل عن مشروطية الأداء الإسرائيلي وإفترض أن الإسرائيليين جادون في مسألة السلام. وكان متفائلاً أيضاً لأنه تغافل عن حقيقة أن الأتفاق ذاته حمل جنين الفشل في أحشائة ساعة وقع، لأكثر من سبب قيلت ونوقشت في السنوات الماضية ألف مرة. المهم أننا صرنا نعرف جميعاً، ولا حاجة للتكرار، أن سنوات أوسلو المديدة ضاعفت الاستيطان في الضفة والقطاع، وزادت من تهويد القدس، وشرذمت الأرض الفلسطينية بما يقضي على أية احتمالات لقيام دولة متواصلة وذات معنى، وقللت من احتمالات تطبيق حق العودة، وواصلت إهانة وإذلال الفلسطينين ودفعهم إلى حواف اليأس وتبني كل وسائل المقاومة والرفض.

 

يومها، لم يبلع الشعب الفلسطيني مرارة أوسلو إلا بترياق الشرعية الثورية والتمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية، والكاريزما الوطنية لياسر عرفات. تسامح الفلسطينيون مع أوسلو ليس اقتناعاً به، لكن انصياعاً لإرادة "الأخ القائد" الذي عرفت "إسرائيل" والولايات المتحدة أنه الوحيد الذي يمكنه التوقيع على اتفاق مثل أوسلو وامتصاص الرفض الذي سينتج عنه وبسببه، فلسطينياً وعربياً. اعتاش أوسلو على الرأسمال النضالي والتاريخي للوطنية الفلسطينية، "العرفاتية" تحديداً. لكن تآكل رأس المال ذاك خلال المرحلة الإنتقالية، وكانت السلطة المتولدة من رحم أوسلو تقامر على استعادة رأس المال الوطني والنضالي بعد الإنتقال إلى مرحلة مفاوضات الحل الدائم عقب مرور خمس سنوات من المرحلة الإنتقالية التي خسرت فيها كثيراً.

 

بالتوازي مع التآكل التدريجي للشرعية الفلسطينية على ايقاع الفشل المتراكم لأوسلو كانت خريطة القوى السياسية الفلسطينية والشرعيات المتصاعدة تتغير باستمرار. فخلال العشر سنوات الماضية انقضى بريق القيادة التاريخية التي جاءت من الخارج محملة بالرمزية الوطنية والتجربة الطويلة والرومانسية الثورية. ومقابل ذلك التذري المستمر والإنحدار الحاد لبريق القيادات التاريخية الخارجية برزت قيادات الداخل على حاملة الإنتفاضة الأولى ثم الثانية. اتصفت هذه القيادات بالإلتصاق بالواقع الشعبي والمخيماتي والإنتماء الطبيعي له، على تفارق بارز مع خيلاء وممارسة القيادة القادمة من الخارج. كل ذلك كان يحدث في المربع الفتحاوي والفصائلي التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية. إلا أن التغيير الفتحاوي لم يكن سوى جزءاً من الصورة. فلا يقل أهمية عنه، إن لم يجاوزه إثارة، كان التصاعد المتنامي والبارز للتيار الإسلامي متمثلاً بحماس والجهاد الإسلامي، والذي راكم رأسمال وطني ونضالي وسلوكي منذ الإنتفاضة الأولى ظل يتسع أفقياً ورأسياً على حساب شرعية وشعبية منظمة التحرير وسلطتها الفلسطينية الأوسلوية الجديدة.

 

وخلال السنوات الأربع الماضية من الإنتفاضة الثانية لم تهدأ آليات تفتت الشرعيات الفلسطينية التقليدية وتصاعد شرعيات بديلة، وهي آليات شلت أفق العمل السياسي واالعسكري معاً. فلا العمل السياسي، التسووي الأوسلوي، تتابع وراكم نجاحات تدعم الشرعية الفلسطينية "العرفاتية"، ولا العمل العسكري ذي الشرعية "الحماسية" المنافسة انسجم في استراتيجية سياسية لها أفق واضح. لكن ظلت الخسارة تبرز في صف الشرعية الفلسطينية متمثلة في السلطة، لأنها ببساطة العنوان الرسمي للمشروع الوطني الفلسطيني. ففي قلب الهيكل التنظيمي الذي ترتكز عليه هذه الشرعية بلغ التشتت ذراه حيث ما عاد الصف الفتحاوي موحداً، بل انقسم بين فتح والسلطة، ثم انقسمت فتح على نفسها بين فتح الحرس القديم وفتح كتائب الأقصى، وانتهت فتح عموماً واختصاراً إلى أجنحة تدور في أفلاك قيادات متنافسة، لا يدري كل جناح منها إن كان يؤيد السلطة أو يؤيد الإنتفاضة، أو إن كان يخدم الإثنتين أم يضرهما معاً.

 

الأطراف الخارجية، "إسرائيل" والولايات المتحدة، لم تكن واقفة وتتفرج، بل اتبعت سياسة تحطيم الشرعية الفلسطينية وإضعاف أية قيادة جماعية وفرض اشتراطات على السلطة لتصفية المقاومة. ثم جاءت سياسة الإحتياجات الوحشية والتدمير الأعمى الشامل طولاً وعرضاً وضد عناوين "العمل السياسي" وعناوين "العمل العسكري"، بما ساعد في خلق فراغ سياسي تذرعت به "إسرائيل للإغال في سياسات انفرادية بدعوى غياب "الشريك".

 

خلاصة المشهد هو أن الجميع متورط الآن، ومحاصر بالمأزق الراهن، والجميع يعلم أن أن انهاك الوضع الفلسطيني قيادياً وشرعياً سيكون له ثمناً باهظاً على كل الأصعدة والأطراف. إضافة لذلك، يبدو أن الوقت قد فات على إعادة تأهيل السلطة ونفخ الروح فيها بعد أن تعفنت بغياب الرؤية، وتشوهت بالدفاع عن المصالح الشخصية لأفرادها والفساد الذي شاب الكثير من رموزها، وبتقطع أية علائق صحية لها مع شرائح المجتمع الفلسطيني. إذ ليس هناك سلطة يمكن أن تتصف بالحد الأدنى من المسؤولية الوطنية يثبت تورط رموز كبيرة منها في فضائح من العيار الثقيل مثل توريد الإسمنت للشركات التي تبني الجدار العنصري، أو التي تبني المستوطنات من قبله ومن بعده. أو يثبت تورط قيادات أمنية كبيرة منها في فضائح اغتصاب قاصرات في غزة، وتعامل بالمخدرات والرشاوى وسوى ذلك كثير.

 

المهم أن الخراب الكبير الذي لحق بشرعية السلطة الفلسطينية وطنياً وأخلاقياً وسياسياً ودولياً لا يبدو أن بالإمكان إصلاحه. فعندما يخسر الشعب الفلسطيني أنصاره في العالم، وتتحول الأمم المتحدة وممثليها إلى ناقدين للطرف الفلسطيني بسبب فساده، وعندما يقسو سولانا والإتحاد الأوروبي الأقرب لنا على السلطة فإن ذلك يمثل ذروة من ذرى فشلنا الدبلوماسي والدولي. والأهم من ذلك كله هو أن السلطة الفلسطينية التي قامت على أساس أوسلو لم يعد لها أساس قانوني وقد فشلت في تقريب الحلم الفلسطيني بإنجاز الحد الأدنى من الحقوق. كما أنها أصبحت مضرة بالقضية الفلسطينية برمتها، إذ أراحت "إسرائيل"، القوة الإحتلالية المتغصبة، من عبء الإحتلال قانونياً وعملياً، مقابل لا شيء، إذ لا منجز وطني عام يمكن أن تُفاخر به وتقدمه للشعب الفلسطيني.

 

لقد أصبحت السلطة الفلسطينية عبئاً على القضية الفلسطينية، فلا هي نجحت في المفاوضات ولا نجحت في المقاومة، وآن لها أن تريح وتستريح. فكثيرون في العالم الآن يظنون عندما يسمعون وصف "الرئيس الفلسطيني" أو "رئيس الوزراء الفلسطيني" أن هناك دولة فلسطينية وأن هذه الدولة تتنازع مع "إسرائيل" على بعض المكتسبات الحدودية، أو لها معها خلافات كتلك التي بين سائر الدول. فقد تم تخفيض سمة "الإحتلال" ومركزيتها في الصراع مع "إسرائيل"، وهذا بحد ذاته إيهام كبير للرأي العام العالمي كسبته "إسرائيل"، وفيه إضعاف هائل لجوهر القضية الفلسطينية ومضمونها الأساسي: احتلال عسكري وحشي لأرض وشعب أعزل. وإذا كان "منطق أوسلو" قد قبل وتضمن تخفيض رتبة الإحتلال لمدة خمس سنوات، هي الفترة الإنتقالية، بأمل، أو وهم، الإنتقال إلى المرحلة النهائية، فإنه لا مسوغ الآن لاستمرار ذلك الوهم، ويجب إعادة القضية لمسارها الحقيقي وهو النضال والمقاومة ضد احتلال استعماري غاشم لإنتزاع حق تقرير المصير.

 

لن يتم ذلك ولا يمكن أن يتم مع الإبقاء على شكل السلطة الفلسطينية الحالية، التي صارت حمولة زائدة على القضية الوطنية خاصة بعد أن بذرت رأسمالها الوطني والسياسي والتاريخي (لقياداتها) ولم يعد لها سند قانوني. كما أن أي حل يمكن أن تتوصل إليه مع "إسرائيل" لن يكون له شرعية شعبية أو وطنية بعد أن فقد رموزها أية هيبة أو احترام في أوساط الشعب الفلسطيني. وفي الوقت نفسه فإنه لا يمكن للقضية الوطنية الفلسطينية أن تتقدم بأي اتجاه، تفاوضي أو مقاومي، من دون وجود شرعية مقنعة تعبر عن المعطيات والتطورات التي تشكلت في الشارع الفلسطيني. ووجود هذه الشرعية أصبح الآن أكثر من ضرورة وطنية، بل شرطاً شارطاً لأي محاولة للإنفكاك من المأزق الحالي المتمثل بسلطة وشكل سياسي لا يعبر عن مكونات البيئة التي يزعم قيادتها وتمثيلها. كما أنه في غياب شرعية فلسطينية قوية ونظيفة ومعبرة عن الشارع الفلسطيني تُتاح الفرصة تلو الأخرى لإسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة، للتلاعب بالمصير الفلسطيني وفق ما تريد. فتهافت الشرعية الفلسطينية هو الذي يوفر لإسرائيل أن تقوم بالخطوة تلو الأخرى ومن طرف واحد وبشكل مقنع أو شبه مقنع للرأي العام الدولي.

 

على ذلك، يحتاج الفلسطينيون إلى شرعية جديدة تتأسس عبر خطوتين: الأولى حل السلطة الفلسطينية من خلال إعلان جريء عام، وعلى منصة الأمم المتحدة، وعلى أساس أن السلطة كانت جزءاً من اتفاق أوسلو الذي فشل، وأن على العالم والأمم المتحدة اللذان دفعا الفلسطينين للقبول به تحمل مسؤولياتهما. والتأكيد على أن حل السلطة يعني العودة، قانونياً، إلى مرحلة ما قبل أوسلو، أي إلقاء التبعة على "إسرائيل" كقوة احتلالية مغتصبة للأرض وبحسب قرارات الأمم المتحدة. والخطوة الثانية، هي الطلب من الأمم المتحدة الإشراف على انتخابات فلسطينية، بعيداً عن الوصاية والتدخل الإسرائيلي، وبعيداً عن أية شروط مسبقة حول من يترشح لها، هدفها إيجاد قيادة فلسطينية جديدة تحمل مسؤولية التمثيل والقرار الفلسطيني، سواء تفاوضاً أو مقاومة.

 

الشرط والهدف الأساس للإنتخابات العامة هو إشراك كل القوى الفلسطينية أياً كانت في صناعة القرار الفلسطيني، وفي مقدمة تلك القوى حماس. فمن دون أن تنخرط القوى الإسلامية في عملية صنع القرار الفلسطيني وتكون مسؤولة على قدم المساواة مع بقية القوى، ستظل معادلة التمثيل الفلسطيني معطوبة، وكذا البوصلة الفلسطينية تظل مشتتة. وفي نفس الوقت فإن اندماج حماس في القيادة، حقيقة وليس شكلاً، يضع الحركة مباشرة أمام القرار السياسي ولا يترك لها فرصة للتملص من ضرورات مواجهة الواقع. ومن دون انخراط حماس والقوى الإسلامية في جبهة وطنية عريضة تكون هي عنوان الشرعية الفلسطينية الجديدة فإن الجهد الفلسطيني سيظل مشتتاً، ويعمل ضد بعضه البعض: المفاوض يعاكس المقاوم، والمقاوم يخرب على المفاوض. فقد ثبت أن "توزيع الأدوار" لم يكن إلا وهماً حيث كان الكل يعمل فيه ضد الكل، وليس الكل يعمل فيه لمصلحة الكل.

 

على الشرعية الفلسطينية الجديدة والمتولدة عن انتخابات عامة ونزيهة أن تبدأ بالإختيار بين مسارين، لا الجمع بينهما: إما أن نفاوض جميعاً، أو نقاوم جميعاً. وفي أي من الحالين فإن الممارسة ستكون أصلب وأكثر قطفاً للثمار، كما ستقطع الطريق على سياسة "إسرائيل" وغيرها القائمة على توظيف المفاوض لضرب المقاوم، أو استغلال المقاوم لضرب المفاوض، والظفر بالوقت وتكريس الواقع الإحتلالي خلال ذلك كله.

 

٭ باحث فلسطيني/أردني، كامبرج

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع