بروفيسور عبد الستار قاسم
عدد من المتابعين أمثالي يحاولون تجنب التعليق المتكرر على تصرفات لرئيس السلطة الفلسطينية
نراها خارجة عن الأبعاد الوطنية، ومخالفة لروح ما يسمى بالثوابت الفلسطينية غير المحددة، وغير متناسبة مع الأحداث
أو الآلام والأحزان التي لا تكاد تغادر قلوب العرب من فلسطينيين ولبنانيين وعراقيين وسودانيين وصوماليين؛ لكن
رئيس السلطة السيد محمود عباس يصر دائما على استفزاز المشاعر وتحدي التطلعات والآمال وذلك بالقيام ببعض الأعمال
أو التصريح بأقوال التي أراها وآخرون خارجة عن احترام أبعاد وطنية عامة غير فصائلية.
كانت القبل المتبادلة بينه وبين كوندو رايس، أمينة الدولة الأمريكية، آخر أعماله الاستفزازية والمثيرة للأعصاب.
في هذه الفترة التي تحتدم فيه المعارك في لبنان ويسقط المئات من إخواننا اللبنانيين، وتهدم فيه البيوت وتدمر المنشآت،
وفي الوقت الذي يسقط فيه الشهداء قوافلا في غزة يجد عباس أن للقبل متسعا ومكانا. لقد كان منظرا بشعا يصيبك
بالدوار والتقيؤ وأنت ترى صاحبة الجمال تقبل صاحب السيادة رئيس دولة فلسطين الذي يرى أبناء شعبه يقتّلون
ويقطعون بلا رحمة ولا شفقة وبلا أدنى اعتبار لأي قيم إنسانية.
تخيلت أن فرانكشاتين (مصاص الدماء) وقد أعطى أنيابه استراحة يتقدم بنشوة نحو الحبيب ليعبر عن رغبته بمشاركته
في حفلة مص الدماء أو سفكها وزهق النفوس والترنم على أشلاء الأطفال. رايس القاتلة رسمت الابتسامة على شفتيها
حيثما حلت من بيروت إلى رام الله وكأنها في موكب احتفالي يستحق كل مظاهر الفرح والابتهاج.
والغريب أنه لم تظهر على وجه السيد عباس علامات الاستغراب أو التشنج أو الرغبة في الاستفراغ. لقد بدا مرتاحا وكأن|
القبل أمتعته.رايس أتت إلينا تحمل في حقائبها القنابل الذكية لكي تمعن إسرائيل في قتل أهل لبنان وفي تدمير
بناهم التحتية. أتت لتشجع إسرائيل على الاستمرار في حربها على لبنان، ولتؤكد لها أنه من الضروري ضرب كل عربي
يقول لا أو يحاول أن يتطاول على أوامر السيد الأكبر. هذا ليس سرا والسيد عباس يعرف ذلك، وبالرغم من ذلك،
لم يجد سببا لرفض القُبل. طبعا، يعرف الناس أن هذه القبل ليست جنسية ورايس لا تقبل أن تكون أنثى أمام عباس
أو أي حاكم عربي آخر. والقُبل هذه لا تعبر عن حب ومودة لأن السادة لا يحبون العبيد، إنما هي قبل تعبر عن تقدير
لما يقوم به الزعيم العربي الأصيل من خدمات.
كان بوسع السيد عباس أن يتراجع إلى الخلف أو أن يرفض القبل بوضوح وبدون دبلوماسية، لكن يبدو أننا لا نتراجع إلا أمام
المواقف الوطنية، وأمام النساء تدفعنا الشهوة إلى الأحضان. هل فكر السيد عباس كيف سيكون وقع رفضه على
أهلنا في غزة وفي لبنان؟ لكن الذي يختار الطريق السياسي الأمريكي لا يفكر أصلا بهذا التساؤل.
سيقول المدافعون إن الدبلوماسية تتطلب عدم النكوص أو الرفض، وإن ما قام به السيد الرئيس يصب في المصلحة الوطنية
الفلسطينية. سيقولون بأن مفتاح دخول الأموال إلى الضفة وغزة موجود في جيب الولايات المتحدة، ولا بد أن "تبوس
الكلب من فمه حتى تأخذ حاجتك منه"، وبأن الظروف قاسية وصعبة ولا بد من تليين القلوب عساها تعطف على هذا الشعب. والجواب أننا قد عانينا طويلا من التربية
التذللية التي جرت علينا المهانة واغتصاب الحقوق والملاحقة والقتل. لا مكان للمتذلل في هذا الكون، والذي يظن أنه يصل
مبتغاه بأساليب الدجل والنفاق يبقى واهما وعالة على الآخرين. لقد تخلينا عن كل شيء يوم تخلينا عن كرامتنا، وكان علينا
أن ننحني يوم عطلنا سواعدنا وقررنا أن نضع لقمة خبزنا بأيدي أعدائنا.
هناك منا من يحترف التبرير، ولا يرى في العقل وسيلة جيدة لحل المشاكل التي نعاني منها. هؤلاء قادونا إلى الهاوية
وأساؤوا لتاريخنا وانتقصوا من حقوقنا وطوعونا أدوات أمنية تخدم الأعداء، وهم لا ينفكون عن الدفاع عن كل
مقارباتهم الخاطئة التي لم تخدم سوى مصالحهم الخاصة. ولا غرابة أن يجدوا مبررات لقبل في وقت تنساب فيه الدماء
الطاهرة في غزة وبيروت على أيدي المجرمين الأمريكيين والإسرائيليين.
لا أدري فيما إذا كانت رايس قد دمغت عباس. لم أنتبه فيما إذا كانت تضع أحمر الشفاه أم لا، وفيما إذا كان، إن وجد، من
النوع الثابت أم النوع الذي يطبع على الوجنات. سأنتبه المرة القادمة التي آمل ألا تأتي.
|