د. إلياس عاقلة
كاتب ومحلل سياسي - أمريكا
7/29/2004
صراع الفاسدين على
السلطة
أظهرت حوادث غزة الأخيرة – ما بين 18 تموز الى الآن-
مقدار عمق أزمة التنافس على قيادة قوات الأمن الفلسطينية بين قيادات منظمة
فتح،
فالمسيطر على قوات الأمن سيكون الزعيم العلني أو السري للسلطة الفلسطينية
القادمة
بعد موت ياسر عرفات القريب، إذ أصبحت أحد أقدام عرفات الآن في القبر. وبدأ
المتنافسون باستعمال العنف العلني حين اختطف اللواء غازي الجبالي مدير شرطة
غزة، ثم
اختطف بعده العقيد أبو العلا مسئول الارتباط العسكري جنوب غزة إضافة الى
أربعة
فرنسيين كانوا يعملون في مجال الإغاثة الإنسانية. وتزامنت عمليات الخطف مع
تقرير
المفوض الخاص لأمين الأمم المتحدة تيري لارسن الذي صرح أن عرفات يعارض
الإصلاحات في
السلطة. وتبع ذلك تقديم قريع استقالته متبوعة باستقالة كل من مدير
المخابرات اللواء
أمين الهندي ومدير الأمن رشيد أبو شباك احتجاجاً على عدم منحهم الصلاحيات
اللازمة
لمواجهة الانفلات الأمني.
وهدفت هذه الاستقالات الى وضع ضغط سياسي على عرفات
لتجبره على تقديم تنازلات تنفيذية في الملف الأمني لقريع. ولكن لم يكن
بحسبان قريع
أن يقوم المجلس التشريعي بالموافقة على توصيات لجنة التحقيق في حوادث غزة
وبحث
عرفات على قبول استقالة قريع وتعيين حكومة جديدة نزيهة خاصة بعد اتهام قريع
ببيع
الاسمنت للإسرائيليين. فأسرع الاتحاد الأوروبي، متمثلاً في تصريحات مفوضه
العام
للشؤون الخارجية خافيير سولانا، بوضع ضغوطات سياسية على عرفات لإبقاء قريع
في
منصبه، ولإعطائه صلاحيات أكبر من أجل محاربة الفساد المتفشي في السلطة.
واضطر عرفات
في النهاية الى رفض استقالة قريع، والى إعطائه صلاحيات أكبر من أجل القيام
بتغييرات
جذرية في الوزارات.
وعجلت هذه الأزمة من التغييرات في أجهزة الأمن التي
خطط لها عرفات منذ مدة، فقام بدمج أجهزة الأمن الثمانية في ثلاثة أجهزة،
وبتعيين
ابن عمه موسى عرفات مديراً للأمن العام في غزة خلفاً لعبد الرزاق المجايدة،
وقائداً
لقوات الأمن الوطني في محافظاتها، إضافة الى مهامه كمدير استخبارات عسكرية.
كما قام
عرفات أيضاً بتعيين اللواء صائب العاجز مديراً للشرطة بدل اللواء غازي
الجبالي.
وجاءت هذه التعيينات لتثبيت سيطرة عرفات على قطاع غزة في حالة الانسحاب
الإسرائيلي
منها. ولكن هذه التعيينات واجهت معارضة كبيرة في غزة وخاصة من كتائب شهداء
الأقصى،
وحدثت مواجهات مسلحة مما اضطر عرفات الى التراجع عن هذه التعيينات. ورغم
ذلك فلا
تزال المواجهات المسلحة تندلع بين الحين والآخر، خاصة بين الموالين لموسى
عرفات
وللجبالي وبين الموالين لمحمد دحلان.
حقيقة الفساد في السلطة
كان الفساد متفشياً في قيادات منظمة فتح قبل مجيئها
الى فلسطين. وقد ظهرت بوادر هذا الفساد بعد حرب الخليج الأولى سنة 1991.
فبعد أن
أعلن عرفات دعمه لغزو صدام حسين للكويت متأملاً أن يحصل على دعم مالي كبير
منه،
قاطعته دول الخليج وأوقفت مساعداتها المالية لمنظمة فتح. وعندما شُحت أموال
مكاتب
المنظمة قام بعض مديري هذه المكاتب باختلاس ما تبقى لهم من أموال، وبهجرة
المنظمة،
مما أجبر عرفات على التفاوض مع إسرائيل والانشقاق عن الوفد العربي المفاوض
وتقديم
التنازلات السياسية خلف الكواليس من أجل المحافظة على وجود المنظمة.
استورد الفساد الى الأراضي الفلسطينية مع دخول منظمة
التحرير إليها. ومن أجل السيطرة على الأوضاع وللحفاظ على مراكز القوة قام
عرفات
بتعيين "المرتزقة" الموالين له في المراكز الهامة في السلطة بغض النظر عن
إيمانهم
بقضية الشعب أو عن امتلاكهم للمؤهلات الضرورية لهذه المراكز. وللأسف كان
همهم
الوحيد جمع الأموال عن طريق الرشوات. واحتكر هؤلاء "الوافدين" الموارد
الاقتصادية
الوطنية مثل الموارد النفطية، والموارد الغذائية، والموارد الصناعية بمختلف
أنواعها، وموارد البناء وغيرها. وامتلأت جيوبهم بالأموال بعد أن دخلوا
البلاد وهي
فارغة. فاشتروا الأراضي وبنوا القصور وامتلكوا السيارات الفخمة.
ولاحتواء قيادة فلسطينيي الداخل قام عرفات بتعيينهم
في مراكز ثانوية في السلطة. لاحظ هؤلاء القياديين مسألة الفساد في السلطة،
ولكنهم
غضوا الطرف عنها في البداية لجهلهم بحقيقة التركيبة البنيوية للمنظمة، ومن
أجل
الحفاظ على اللحمة الوطنية والدعم الشعبي للسلطة خاصة أثناء مفاوضاتها مع
الإسرائيليين. واكتفوا بتقديم الشكاوى وبمعاتبة الرئيس عرفات على تغاضيه عن
المفسدين رغم محاولاتهم غير المباشرة للإصلاح. أما الذين طفح الكيل عندهم
وقاموا
بتوجيه نقدٍ شديد لقيادة عرفات مطالبين بتطبيق إصلاحاتٍ جذرية وبمعاقبة
المفسدين
فقد وجدوا أنفسهم خارج المراكز السياسية كما حدث لبعض أعضاء المجلس
التشريعي مثل
رفيق النتشة الرئيس السابق للمجلس التشريعي الذي حاول فتح ملفات الفساد
متهماً
عرفات بحماية الفساد والمفسدين، أو وقعوا ضحية عمليات عنف كما حدث مؤخراً
لوزير
الإعلام نبيل عمرو الذي أُطلق علية رصاص دمدم المتفجر من بندقية م-16
الأميركية
الصنع والتي يستعملها الجيش الإسرائيلي.
ويبدأ الفساد متجسداً في الدكتاتورية الفردية لشخصية
عرفات كرئيسٍ لحركة فتح، محافظاً على نظام داخليٍ خاص بها مستقل عن
القوانين العامة
وغير متقيد بقرارات السلطة التشريعية، وذلك عن طريق السيطرة على السلطة
التنفيذية
التي تقوم بتجميد قرارات المجلس التشريعي وقرارات محكمة العدل العليا وخاصة
تلك
التي تبت في قضايا الفساد. وتتحكم قيادة فتح بجميع الأجهزة الحكومية
وبإداراتها
وخاصة أجهزة الأمن التي حافظ عرفات عليها تحت إمرته بقيادات متنافسة لكي لا
تتحد
ضده. وتنفرد القيادة العليا في السلطة بالأمور المالية، فلا يعرف المجلس
التشريعي
حجم الدخل القومي للسلطة ولا كيفية صرف الأموال، ولذلك يستحيل ضبط
الميزانية
العامة. ويعرف الجميع عمليات سرقة أموال دعم أهالي الشهداء القادمة من دول
الخليج،
حيث قام بعض السفراء الفلسطينيين باستثمار هذه الأموال لمصالحهم الخاصة في
البنوك
العالمية وتحويل جزء بسيط منها فقط الى فلسطين.
ولتغطية فسادهم المالي الخاص تقوم القيادة العليا
بحماية الفاسدين الآخرين الموجودين في السلطة. وعرفات المثل الأعلى لهذه
القيادة
الفاسدة. فمن أجل تغطية إرسال حوالي 11 مليون دولار من أموال الشعب للسيدة
سها
عرفات في فرنسا قام عرفات بإغلاق ملفات الفساد التي طالب المجلس التشريعي
بفتحها
مثل ملف أموال دعم عائلات الشهداء، وملف بيع الاسمنت الفلسطيني والمصري
لإسرائيل من
أجل بناء مستعمرة "حار حوما" وبناء جدار الفصل العازل.
والفساد السياسي للسلطة الفلسطينية أعظم أنواع هذا
الفساد. فمنذ استلام السلطة الحكم قامت بالمتاجرة بالحقوق الوطنية عن طريق
تقديم
التنازلات السياسية المجانية لإسرائيل الواحد تلو الآخر الى أن لم يعد هناك
مجال
لمزيد من التنازل. ومنذ قيام انتفاضة الأقصى اتخذت السلطة موقفاً سلبياً
تجاه
الإرهاب الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، إذ تقوقعت قيادتها في مقرها في رام
الله الذي
ارتضه سجناً لها بدل أن تكون للشعب الفلسطيني مثلاً في رفض ومقاومة الإرهاب
الإسرائيلي بدل المذلة والخنوع التي هي فيه. واتخذت من هذا السجن عائقاً
للقيام
بواجباتها تجاه الشعب. وبدل أن تقوم السلطة بحماية الشعب فهي الآن تطلب من
الشعب
حمايتها، فيقدم الشعب يومياً دم أطفاله ثمن هذه الحماية، بينما يقوم
المفسدون
بإحباط هذا النضال حين يتعاونون مع العدو الإسرائيلي في محاربة المجاهدين
الأشراف
تحت ستار نشر الأمن عن طريق ضبط السلاح "غير الشرعي"، أو عن طريق إحباط
عمليات
المقاومة ضد الجيش الإسرائيلي، وحتى عن طريق خيانة المقاومين وتسليم بعضهم
لإسرائيل
للحصول على دعم سياسي، حيث أُعلن عن كشف 36 عملية وتم تسليم القائمين بها.
تنازع الفاسدين على السلطة
أصبح عرفات شخصية غير مرغوب فيها بعد أن انتهى دوره
السياسي بتقديم جميع التنازلات التي استطاع تقديمها وفقد قدرة السيطرة على
الشارع
الفلسطيني. وتحاول الآن كل من إسرائيل والإدارة الأميركية وحتى الاتحاد
الأوروبي
تخطيه وإيجاد بديل ليقدم المزيد من التنازلات. فيقومون بدعم وبتحريض بعض
الشخصيات
الفاسدة في القيادة الفلسطينية وبإغرائهم بخلافة عرفات. وهنا يتضح الشرخ في
قيادة
حركة فتح ويظهر تياران رئيسيان فيها: التيار الأول – الفاسدون الاصليون أو
النظام
القديم - الذي لا يزال تحت قيادة عرفات ويرغب في المحافظة على وضع القيادة
الحالي
كما هو، والتيار الثاني – الفاسدون الجدد - الذين يُسمون أنفسهم بتيار
الإصلاح
ويتزعمهم بعض القيادات "الشابة" في حركة فتح أبرزهم محمد دحلان وجماعة
الأمن
الوقائي. وأدى هذا الشرخ الى خلافات حادة في جهاز الشرطة الفلسطينية
وانقسامه الى
جزأين: الأول موالٍ لمحمد دحلان والثاني موالٍ لغازي الجبالي. وقد وصل
الخلاف
بينهما الى حد تبادل إطلاق الرصاص وإحراق أو احتلال مقرات شرطة تابعة للطرف
الآخر.
من الملاحظ أن القيادات العليا في حركة فتح هي التي
تقود هذا الصراع، بينما تقوم منظمات المقاومة الشعبية بمقاومة الاحتلال
وتطالب
بتفادي أي صراع داخلي عن طريق تكوين قيادة فلسطينية موحدة تمثل كل الفصائل
لتحافظ
على المصلحة العامة. هذا الصراع الذي نراه الآن ليس صراعاً من أجل إصلاحٍ
الفساد،
فدعاة الإصلاح هؤلاء هم أصلاً فاسدون، وإنما يأتي صراعهم هذا للتخلص من بعض
الشخصيات المنافسة وللسيطرة على بعض المراكز الاحتكارية للحصول على مغانم
مادية.
هذا الصراع محاولة لاستبدال الفاسدين القدامى بفاسدين جدد لا يهمهم إلا
مصلحتهم
الشخصية، فهم في واد والشعب الفلسطيني في واد آخر. ومن أجل هذه المصلحة
الشخصية فهم
على استعداد للتعاون مع إسرائيل والقضاء على المقاومة الفلسطينية وتجريدها
من
السلاح تحت شعار وقف حالة الفلتان الأمني وحماية المشروع الوطني. يعتقد
هؤلاء
الفاسدين، بسبب غياب الإرادة العربية السياسية، أن إسرائيل هي القوة
الوحيدة في
المنطقة التي ستدعمهم وتحافظ على مراكزهم إذا قاموا بخدمتها عن طريق
السيطرة على
الشارع الفلسطيني
|