سمات " الحقبة العرفاتية " ومستقبل العمل الفلسطيني

د.عماد لطفي ملحس *

            بوفاة ياسرعرفات ، تطوى صفحة اخرى من تاريخ القضية الفلسطينية ، بعد اربعين عاما يمكن أن يطلق عليها دون مبالغة اسم " الحقبة العرفاتية".

فقد دمغ عرفات هذه المرحلة بطابعه الشخصي والسياسي ، وهيمن طوالها على مقاليد القضية ، وتحكم في كثير من مفاصلها الرئيسة .. لم يكن يتمتع بامكانيات فكرية وتنظيمية مرموقة ، لكنه امتلك شخصية قيادية فطرية اتسمت بنرجسية فردانية عالية ، فهو الزعيم الأوحد الذي لا خليفة له ، وهو الأول في جميع المناصب والمواقع ولا ثاني له .. وهو البراغماتي المتلّون الذي تعامل مع السياسة على انها مناورات وتكتيكات ولعب على حبال التناقضات ، وعلى أنها فن الممكن ، وهو صاحب نظرية " اللعم " التي تعني الغموض والضبابية ، والمراوحة بين النعم واللا

ساعدته المعطيات السياسية في منتصف الستينيات من القرن الماضي والمعاناة الفلسطينية الهائلة ، واليأس من امكانية تحرك الانظمة العربية والهيئات الدولية لإعادة الحق الفلسطيني المسلوب ، في استقطاب قطاعات واسعة من الجماهير الفلسطينية والعربية للعمل المسلّح من اجل تحرير فلسطين ، وجاءت هزيمة حزيران 1967المأساوية لتعزز من خط الكفاح المسلح ، الذي طُرح منذ البداية على انه خط فلسطيني الهوية عربي العمق والانتماء .. لكن السنوات اللاحقة اوضحت انحراف عرفات وأتباعه عن هذا الخط ، فتحول الكفاح المسلح الى مجرد اداة تكتيكية للوصول الى طاولة المفاوضات مع العدو الصهيوني، حيث شهد عقد السبعينيات من القرن الماضي لقاءات ومشاريع ومبادرات بين عرفات ومجموعته من جهة وبين رموز بارزة من حزب الليكود الصهيوني وما أسمـــــــي ب " اليسار الاسرائيلي " من جهة ثانية ، تنشّطت ببرنامج النقاط العشر الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني الثالث عشر ، والذي أكّد على الحل السياسي المرحلي ، المتمثل بإقامة دولة فلسطينية وبحق العودة والسيادة على مدينة القدس .  كما شهد هذا العقد وصول عرفات الى الامم المتحدة حاملا غصن الزيتون ، مبدياً استعداده للمساومة على القضية الفلسطينية ، وخُـتم باتفاقية كامب ديفيد التي مهدت الطريق أمام نهج المساومة والتسوية الفلسطيني .

            وطوال تلك الحقبة ، عملت قيادة عرفات بوعي كامل ، وبالتعاون مع معظم الأنظمة العربية ، على الفصل بين" القضيتين" الفلسطينية والعربية ، وبخاصة بعداعتراف غالبية الهيئات العربية والدولية بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني ، بذريعة المحافظة على " القرار الفلسطيني المستقل " ، وانطلاقاً من ان " أهل مكة ادرى بشعابها " ، فأزاحت الأنظمة عن كاهلها عبء القضية الفلسطينية الثقيل ، وحالت دون انخراط الجماهير العربية في الكفاح المسلح ، في حين مارست قيادة عرفات القمع والابعاد وحتى القتل ضد معارضيها، تماما كما فعلت الانظمة العربية تجاه القوى الوطنية التي طالبت بالعمل المسلّح أو مارسته ضد العدو . ومع ذلك ، لم يمنع تعاون عرفات مع هذه الأنظمة من أن يصــــــــيح " يا وحدنا " ، عندما كان يستشعر عزلة او مأزقاً ، لتغطية تراجعاته ، ولتعميق الشعور بتخلي العــــرب ( انظمة وأمة لا فرق ) عن التزاماتها ، ولدفع جماهير الشعب الفلسطيني نحو اليأس من الكفاح المسّلح وسلوك طريق التسوية مع العدو.

             وقد اوغل عرفات في السير في هذا النهج ، فاوقف العمليات الفدائية من جنوب لبنان في العام 1978 ، وخاض معارك ضارية ضد المقاتلين الذين رفضوا الالتزام بوقف اطلاق النار كما رفضوا تواجد القوات الدولــــــــــية فيــــما عـــرف ب " منطقة الحزام الأمني " ، وساند السادات في مؤامرة " كمب ديفيد " ،  ثم اعلن بعد الخروج من بيروت عام 1982 عن قبول منظمة التحرير بجميع قرارات الامم المتحدة المتعلقة بالقضية الفلسطينية ، بما في ذلك القرار 242 سيء الذكر، وكان اول من وصم المقاومة الفلسطينية بالارهاب ، حين اعتبر العمليات الفدائية ضد العدو الصهيوني خارج الارض المحتلة بانها ارهابية ، واستمر في ذلك حتى وهو على فراش المرض في باريس يدين العمليات الفدائية والاستشهادية ضد العدو، للتقرب من العدو الأمريكي- الصهيوني الذي أدار له الظهر، ولم يعد يعتبره شريكاً في مسيرة " سلام الشجعان " ، التي نال جائزة نوبل بسبب انخراطه فيها.

 وحين انطلقت الانتفاضة الاولى في العام 1987 ، بمبادرة عفوية من الجماهير الفلسطينية في الأرض المحتلة،  سعى عرفات وأفراد قيادته الى ابقائها ضمن نطاق سلمي ، وحــــالوا دون " عسكرتها" بكل السبل، إدراكاً منهم بان تطوير رماية الحجر الى رماية القنبلة سيفسد عليهم خطتهم في الوصول الى مائدة المفاوضات ، وسيجعلهم غير قادرين على لجم الانتفاضة اذا ما تحولت الى مقاومة منظمة مستمرة ،  تماما مثل موقفهم الحالي من الانتفاضة الثانية ، انتفاضة الأقصى المباركة، التي شبّت عن الطوق ، وأصبحت تشكّل لهم هاجساً ينبغي التخلص منه . 

            اما فترة ما بين الانتفاضتين ، وهي فترة مؤتمر مدريد 1991 ، وتوقيع اتفاق اوسلو 1993 ، وبروز السلطة الفلسطينية ممثلة لدولة وهمية ، فقد جاءت لتؤكد تخلي عرفات وقيادته عن الميثاق الوطني الفلسطيني ، والمباديء التي قامت على اساسها منظمة التحرير ، ولتثبت تحوله من مجرد الاستعداد للتفاهم والمساومة مع العدو الصهيوني ، الى الانخراط الفعلي في اسقاط الحق التاريخي الثابت للشعب الفلسطيني في كامل وطنه . فقد اعترفت هذه القيادة بالكيان الصهيوني مقابل اعترافه بمنظمة التحرير ، وانتقلت الى الداخل لتشكل سلطة عمادها الاتباع والمحاسيب المنبوذون من جماهير الشعب الفلسطيني . أما الدولة وحق تقرير المصير والسيادة على القدس ، فقد وافقت هذه القيادة على أن تؤجّل الى المفاوضات النهائية التي قدّر " بيغن " بعد مؤتمر مدريد أنها قد تستغرق عشرات السنوات ، يكون كل شيء خلالها قد تغيّر ، وهو ما نشهده الآن بعد مرور اكثر من احد عشر عاماً على اتفاق اوسلو المشؤوم .

            ولا نغالي اذا قلنا ، ان ما حققه العدو الصهيوني منذ ما بعد اتفاقية اوسلو وحتى الان ، من انجازات تتعلق بتطبيع علاقاته السياسية والدبلوماسية والعسكرية مع معظم دول العالم ، وتشويه صورة المقاومة الفلسطينية وربطها بالارهاب ، واحداث تغيير عميق في ديموغرافية فلسطين ، بحيث بات من المستحيل اقامة دولة فلسطينية على هذه الاجزاء المتناثرة من الارض ، هذه الانجازات التي لم يكن يحلم بتحقيقها بمثل هذه السرعة ، لم تكن بفعل التغيرات الدولية العميقة التي انهت الاتحاد السوفياتي ومكنت الولايات المتحدة من ان تصبح القوة الاولى في العالم فحسب ، بل ان خط التسوية الفلسطيني وعلى رأسه عرفات يتحمل مسؤولية كبيرة في تمكينه من ذلك ، كما يتحمل مسؤولية الحالة التي آلت اليها القضية الفلسطينية .

وحتى نكون منصفين ، فإن منظمات المقاومة اجمالاً ، قد أسهمت بدرجات متفاوتة في أبقاء عرفات وخطه السياسي على رأس العمل الفلسطيني طوال العقود الأربعة المنصرمة ، ولم تستفد من اللحظات التاريخية التي كان يمكن أن تؤدي في حالة اقتناصها إلى حدوث التغييرات الايجابية المطلوبة في الساحة الفلسطينية .. حيث إن الاستعداد للتفريط والتنازل عن ثوابت القضية ، كما الفساد والإفساد ، واحتقار العمل التنظيمي والجماعي والمؤسسي ، وتمكين أصحاب المصالح الشخصية والانتهازيين والمحاسيب من تبوأ أعلى المواقع ،  ليست ظواهر ما بعد قيام السلطة فحسب ، بل إنها نمت وتفاقمت طوال العقود الماضية ، ووصلت ذروتها مع قيام ما أسـمي " بالسلطة " . 

            هذه بعض سمات " الحقبة العرفاتية " ، أما ما بعدها ، فرهن بنتائج الصراعات متعددة الأشكال التي من المتوقع حدوثها داخل الجسم الفلسطيني ، والتي بدأتها زوجة " الرئيس " وهو يعاني سكرات الموت ، عن طريق الزوبعة التي أثارتها بهدف الاستئثار بالإرث المالي المختلط ، وهو ما يهمها أساساً ، اعتقاداً منها بأن الشعب والقضية والمال ملكية خاصة لزوجها !

            ومثلما استخدمت فزاعة نشوب " حرب اهلية " فلسطينية ، طوال العقود الماضية لمنع تجذّر المقاومة وتطويرها ، ولإبقاء الجميع تحت جناح قيادة عرفات وخطها التسووي ، فإن هذه الفزاعة تطرح اليوم بغياب عرفات  بحديّة أكبر ، مترافقة مع الدعوة إلى " الوحدة الوطنية " ، و " تشكيل قيادة موحدة "  . ولا أخال وطنياً مخلصاً لا يتمنى قيام الوحدة الوطنية الحقيقية أو تشكيل قيادة موحدة جماعية فاعلة، لكن السؤال الكبير يبقى مطروحاً وبحدية أكبر مما سبق أيضاً : وحدة من ؟ ومن أجل أية أهداف ؟ ووفق أي برنامج سياسي ؟

            أن على قوى المقاومة المسلّحة أساساً ، أن تجيب على هذه الأسئلة بموضوعية ووضوح ، على ضوء تقويم الحقبة الماضية من العمل الفلسطيني السياسي والمسلّح ،  كما أن عليها ان لا تخضع للابتزاز الذي تمارسه قوى التسوية الفلسطينية .. فالوضع الفلسطيني لم يعد يحتمل عرفات آخر ، وان كان يصعب استنساخه أو تكراره ، ولا يحتمل مساومات وتنازلات وتفريط إضافي . لقد آن أوان تنظيف البيت الفلسطيني من كل ما علق به من آثام وأوهام وانحرافات ، ولا بدّ من تحمّل المسؤولية التاريخية لتصويب المسار ، واستمرار المقاومة ، وصون القضية ودماء الشهداء ..

 ( نشر هذا المقال في جريدة " الغد" الأردنية اليومية بتاريخ 22/11/2004 ) 

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع