الجريمة بالصوت والصورة

د.إبراهيم حمّامي:13/10/2005 

الجرائم لا تسقط بالتقادم، والمجرم يبقى طريد العدالة إلى أن ينال جزاؤه، والوحدة الوطنية لا تعني توزير المجرمين، والوقوف بوجه الفتن لا يكون بالسكوت عن الجرائم قديمها وجديدها، أو حماية المجرم وأعوانه، والتستر عليهم، وبالتالي الدعوة لإحقاق الحق ليست بأي حال من الأحوال دعوة للفتنة والاقتتال كما يحلو للبعض تسميتها، هذه هي البداية ومن هنا أنطلق.

شريط مرئي جديد يتداوله أهالي قطاع غزة، قٌدِّر لي أن أشاهد قرابة 25 دقيقة منه بعد أن نشره موقع فلسطين الحرة على شبكة الإنترنت، يوثّق بالصوت والصورة والدليل الدامغ الجريمة النكراء التي ارتكبت يوم 18/11/1994 عقب صلاة الجمعة أمام مسجد فلسطين بغزة، والتي سقط فيها أكثر من 200 فلسطيني بين شهيد وجريح على يد قوات القمع الأوسلوية، والتي أطلقت الرصاص بشكل عشوائي تستحي منه حتى أعتى جيوش الإحتلال، ورغم مرور الوقت على هذه الجريمة، إلا أن رؤية ما جرى لايمكن وصفه، فمنه تقشعر الأبدان ويشيب لهوله الولدان، فهو جريمة مدبرة ومعد لها أيّما إعداد، وبتخطيط مسبق، يبرر ما تلاها من اعتقالات وتعذيب وقتل وقمع وتعاون أمني.

الصور أبلغ من كل تعبير، تسلل المجرمون كالخفافيش من وراء المصلين الركع السجود، بقلوب حاقدة سوداء تماماً كزيهم الأسود، ووجوهم السوداء، ليأخذوا مواقعهم ويتربصوا بالمصلين استعداداً للمجزرة الرهيبة، وليبدأ اطلاق النار دون تمييز، وليستمر ويستمر ويستمر!

ما هي إلا دقائق وتصل سيارات الإسعاف، وتحت وابل الرصاص يبدأ الناس العزّل بنقل الجرحى والمصابين، أما سود القلوب والوجوه فيستمرون بإطلاق النار غير عابئين بالنداءات أو بصفارات سيارات الإسعاف، ليسقط المزيد من العزّل، نعم كانوا عزّلا، وكذبت كل الروايات الرسمية التي قالت غير ذلك، ولا يحتاج المرء لخبرة في المجال العسكري ليعرف من يطلق النار، وبأن مصدره واحد وفي اتجاه واحد، وأن من سقطوا كانوا من جانب واحد، وأمام كل العدسات يسقط العزّل.

لم يكن هناك تحريض أو تحرّش كما ادعى المنافقون، وأقلام السوء والضلالة من كتبة السلطان، بل على العكس تماماً كانت الأصوات تنادي: "خلص يا شباب، ما بيصير، مش معقول" إلى أن تمادى القتلة فبدأت الجماهير بالتكبير والهتاف: "الله أكبر، لا إله إلا الله، عملاء، جواسيس، خونة"، ورغم الدماء والمصاب الجلل لم تُسمع كلمة نابية واحدة تخدش الحياء، لتعطي دليلاً جديداً على الفرق بين المجرم والضحية، هذا المجرم الذي أمر جنوده رداً على شاب في مقتبل العمر وصفه بالعميل قائلاً: " في وجهه جيبها في وجهه" ويقصد الرصاصة، أي بطولة تلك، وأي أخلاق فاضلة يحملها، عليه من الله ما يستحق.

ارتعشت، وادمعت، وغضبت، أيعقل أن يكون هؤلاء من ابناء جلدتنا، هل يمكن أن نلتمس لهم العذر لأنهم "عبد مأمور"؟، أي عبد هذا الذي يقتل ابناء وطنه وشعبه باستلذاذ وبشكل سادي واضح؟

تساءلت لماذا الآن، وما فائدة هكذا شريط يثير المشاعر وسط دعوات التهدئة والمصالحة والوحدة الوطنية، لكن هل يمكن أن ننسى ما جرى ونحن ما زلنا نعيشه كل يوم؟ أليس من أصدر الأوامر في هذا اليوم المشؤوم هو نفسه من يصدر البيانات ويهدد بإغراق غزة بالدماء حتى الركب من منصبه الوزاري، أليس الوزير الآخر هو من قاد فرقة الموت ضمن جهاز الأمن الوقائي الذي عذب وقتل الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني؟ أليست السلطة هي هي لم تتغير فيها الوجوه والرموز؟ بل وحتى الممارسات؟ ألم نقرأ جميعاً تفاصيل إعتقال وتعذيب كل من معاذ أنور البرعاوي (20 عاما) من سكان حي النصر بغزة وصديقه أحمد كمال حمادة (21 عاما) من سكان حي الشيخ رضوان على يد أجهزة القمع الأوسلوية بدايات هذا الشهر؟ ألم  توجه لهما تهمة التجسس لصالح حركة "حماس"، ونتفوا شعرهم وهددوا بقتلهم واغتصاب أمهاتهم ومنعوهم من الصلاة وسبوا الذات الإلهية وأخبروهما أن حملة اعتقالات عام 96 عادت من جديد؟ ألم نسمع اليوم حادثة إطلاق النار على عائلة الغصين من قبل الأجهزة "الأمنية"؟

إذاً الأمر لا يتعلق بجريمة قديمة عفا عليها الزمن، بل عن مسلسل مستمر لسلطة يمتليء سجلها بالجرائم والسوابق، ووزرائها متهمون قبل غيرهم، أما دعوات التهدئة، والمصلحة الوطنية العليا، وحرمة الدم الفلسطيني، وغيرها من الشعارات التي تستخدم للإستهلاك المحلي، فلا يمكن أن تكون من طرف واحد، بل أن المطالب بتطبيقها هي زمرة أوسلو التي لا تألوا جهداً في استباحة حرمة المواطن ودمه، ولا تتحقق إلا بمحاسبة ومعاقبة المجرمين القتلة قبل الحديث عن الإصلاح، لأن الوحدة الوطنية لا تعني:

·        توزير المتهمين وحمايتهم

·        تكرار جرائم الماضي تحت مسميات جديدة

·        الإستمرار في سياسة التضليل والكذب إما لتغطية الجرائم أو تبرئة الإحتلال وتوريط الغير

·        الكيل بمكيالين، فإن كانت الجريمة من صنع الأجهزة الأمنية فلا حس ولا خبر، وإن كانت من جرائم العدو فالبيانات جاهزة بإدانة شعبنا

·        تضخيم الأخطاء غير المقصودة، والتستر على الجرائم سابقة الإصرار والترصد

·        استجلاب رؤوس الفتنة لبث الفرقة والحقد والضغينة

·        تبني سياسات التحريض والإثارة

·        التنسيق الأمني مع الإحتلال والإذعان لأوامره

·        طلب الدعم الخارجي والتسلح لمواجهة فصائل المقاومة

·        التستر على ملفات الفساد، بل وعلى ملف مرض وموت رئيس السلطة عرفات

مرة أخرى هذه ليست دعوة للفتنة أو نبش الماضي، لكنها دعوة لإحقاق الحق، في ظل الجرائم "الرسمية" اليومية، ولهذا ما أشبه اليوم بالبارحة، وما أشبه الجرائم قديمها وجديدها، ماضيها وحاضرها، وبعد هذا كله يسألني البعض، ألا تشعر بالملل والتعب من تكرار ما تقول؟ لماذا التحامل على السلطة؟ لماذا لا نعطيها فرصة لإثبات الذات؟ والجواب بسيط: هل نحن على استعداد لإعطاء الفاسدين والمفسدين، والقتلة والمجرمين فرصة جديدة لممارسة ما سبق وأن مارسوه، وسط أدلة دامغة بأنهم لم يتغيروا أو يتبدلوا، بل زادوا غطرسة وفساد وحقد على شعبنا.

الحق أحق بأن يُتّبع، ومهما طال الزمان فلابد أن يقف هؤلاء يوماً أمام محكمة الشعب، ووقتها لن يرحمهم أحد.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع