صوت الفلسطيني وصورته.. من أوروبا
2005/05/20
عدلي
صادق
في حلقة من برنامج من أوروبا بثتها الجزيرة من العاصمة النمساوية فيينا،
كانت هناك إضاءة، من خلال تقرير مطوّل، أعده لبيب فهمي، علي المؤتمر الشعبي
الثالث، لفلسطينيي أوروبا، إذ حضر ممثلون عن الجاليات الفلسطينية، من جميع
بلدان القارة، وتضامن معهم أوروبيون، رفعوا شعار الحق الطبيعي في العودة
الي الديار، وهو الحق الأصيل، الذي ينتقل من الأبناء الي الأحفاد، ولن
يستطيع اسقاطه، إرهابيون معتوهون، من أمثال شارون وجوقته. يفتتح لبيب
تقريره بمفارقة فلسطينية، عن طبيب هاجر الي السويد منذ 62 عاماً، وضعته
موسوعة غينيس في موضع شيخ أطباء الدنيا. فهو مفيد عبد الهادي، الذي مارس
الطب في بلاده، سنة واحدة، ثم تحوّل الي طبابة السويديين، أبناء جلدة
شهيدهم الدولي في فلسطين، الكونت برنادوت، فاستمر في المهنة، لمدة 62 سنة
حتي وافته المنية، في مطلع القرن الجديد. ويركز التقرير، علي تمّيز
الفلسطينيين في مهاجرهم الأوروبية، التي وفدوا اليها لأسباب عدة: كارثة
الوطن، المضايقات، ثم الحروب، في مواضع اللجوء الأولي، التضييق الاقتصادي،
الاستبداد العربي الرسمي، حيال المناضلين من أجل قضية عادلة، وغير ذلك من
العوامل، الذي اكتفت بواحد أو اثنين منها، جاليات العرب الأخري، لكي تتواجد
في القارة الأوروبية!
كان لافتاً، في طبيعة تركيبة الجاليات الفلسطينية، سرعة انخراط أبنائها، في
الحياة السياسية والاقتصادية، لبلدان المهجر. ذلك ـ ربما ـ لسبب نفسي، أو
لفطنة سياسية، رأت بأن الحكاية طويلة، طالما أن العرب ما زالوا في حال
الفرقة والضعف والتخلف. فقد جعل هذا العامل، الفلسطينيين، يقتحمون مجالات
حيوية بسرعة نسبية، قياساً علي غيرهم من العرب، فانضموا الي الأحزاب،
وخاضوا الانتخابات العامة والبلدية، وفاز بعضهم بمقاعد. ومع توالي السنين،
وطغيان الثقافة الغربية واللغات الأوروبية، علي الصغار، ومن ثم تقدم الصغار
في السن، وتأسيسهم لأسر جديدة، يكون الفلسطينيون قد أنتجوا نوعاً مهجّناً
من الإنسان الأوروبي المسكون بروح فلسطينية، والمناصر لقضيته، والمتمسك
بحقوق شعبه، وفق معايير الحضارة والعدالة وحقوق الإنسان، التي نهل منها، في
المجتمعات الأوروبية وأنساقها التعليمية والثقافية!
فهذا ناصر أبو خضر، النائب الفلسطيني الأصل، في البرلمان الدانماركي، يؤكد،
في التقرير، علي أن اندماجه في الحياة السياسية الدانماركية، لا يعني أنه
قد نسي أصله، فهو يفاخر بفلسطينيته، وهكذا حال أساتذة جامعيين، تركوا بصمات
لا تمحي، في أذهان طلابهم. وأظهر التقرير، تمسك الأطفال من الزيجات
المختلطة، بفلسطينيتهم المعذبة، وجاء لبيب فهمي، بطفل وطفلة، من ألمانيا،
قالا إنهما يحبان فلسطين، وهي أحلي من ألمانيا نفسها، وأنهما يطمحان الي
العودة الي البلاد!
هكذا فإن الجيل الفلسطيني الثالث، في أوروبا، يحمل الوطن في قلبه، ولا
يتخلي عن قناعة أبيه، وقناعات أمه ـ حتي ولو كانت أوروبية ـ بأن قضيته
نبيلة وعادلة، وتستحق المجاهرة بكل مفرداتها، في سائر حياته الأوروبية.
ولعل هذا هو الذي جعل الأوروبيين، الذين جربوا احتلال الجيران، خلال حروب
القرون الوسطي، والقرن العشرين، فما بالنا باحتلال الغرباء الصهيونيين،
واقتلاعم للناس من بيوتهم ومن وطنهم، يميلون أكثر فأكثر، الي التعاطف مع
القضية الفلسطينية. وقد ظهر هذا الميل، من خلال استطلاعات رأي، كانت ترتفع
لصالح الفلسطينيين، كلما تعمق الوعي بالموضوع الفلسطيني!
الطبيب الفلسطيني الأصل، في النمسا، منذر رجب، كانت له في تقرير الجزيرة
أوسع فقرات التعريف، بأهداف مؤتمرات الجاليات الفلسطينية في أوروبا، بدءاً
من تشخيص وضعية الجاليات، الي رسم أبعاد مشروعي الوعي الجمعي الفلسطيني
الراسخ في الشتات، الي إشكالات التكيف مع الأوضاع الثقافية والقانونية في
بلدان القارة، الي ضرورة التأكيد علي حق العودة، الي رفع الالتباس بين
فرضية السفر الي الوطن، بجواز السفر الأوروبي، بدافع الحنين، وفرضية
التطبيع التي هي أمر مغاير تماماً. وقد أسهم موسي الرفاعي، مدير مركز
العدالة الفلسطيني في السويد، في التعريف، بأحوال الفلسطينيين وأهدافهم.
لكن فضائية الجزيرة قد سبقت غيرها، في تغطية هذا الحدث الفلسطيني المهم!
فقد كان التحرك خلال السنوات الأخيرة، للجاليات الفلسطينية، يتلمس جوانب
المشكلة التي تمثلها معوقات الحفاظ علي الهوية الوطنية الأولي، بالنسبة
للأجيال التي ولدت في وسط اجتماعي وثقافي مختلف. فالشباب القائمون علي
تنسيق المؤتمرات، لا يريدون الاكتفاء بالعناوين العريضة، لمسألة الانتماء،
ويطمحون الي تكريس نسق للوعي الفلسطيني في المهجر، لا تفارقه مدركات القضية
وحيثياتها.
بالطبع، كان هناك، في مؤتمر فيينا، أخونا الصديق سعد النونو، رئيس جمعية
الجذور الفلسطينية في سويسرا. وسعد، من الناشطين الذين لا تلين عريكتهم، في
هذا المضمار. كانت له حكاية مع السلطة الفلسطينية ومع منظمة التحرير
الفلسطينية، عندما تحرك، من الواقع الحي والنابض، للجاليات، في اتجاه
الواقع الهزيل والمحنط والميت سريرياً، للمنظمة، والواقع البيروقراطي
الفاسد، للسلطة الفلسطينية. أرسل لهم سعد، عدة رسائل، باسم تنسيقية
الجاليات، يطلب التساند والتكامل وتداخل الفعاليات والخطط، من أجل الحقوق
الوطنية، ومن أجل التعريف أكثر، بالقضية الفلسطينية، إلا أن أحداً لم يكلف
نفسه عناء الرد. فهنا، من غزة، أرسل الي أخي د. سعد النونو، يشكو من
الحلقان الرسمي الفلسطيني علي الزيرو، لتنسيقية الجاليات. ولاحظ الرجل، أن
جماعتنا مشغولون بتحسس مؤخراتهم ومواضع أقدامهم وامتيازاتهم وبالإشكاليات
المحلية لإمساكهم بمقاليد الأمور، ولا يتمثلون المشهد الفلسطيني الفسيح،
بقدر ما هي الدنيا فسيحة. وعندما أرسل لي يشكو، كتبت لأبو مازن، الذي أعرف
شخصياً، بأنه أحادي ومتخصص في العملية السلمية دون غيرها، وليست لديه
قابليات وحساسيات سياسية أخري، تكون قادرة علي الإمساك بمكونات المشهد
الفلسطيني. وبعد يومين، اتصلت بي أخت من طاقم مكتب الرئيس أبو مازن، بدا أن
الأمر قد تحول اليها، وبشرتني بقرب تطيير رسالة جوابية لسعد النونو. وبدوري
بشرت سعداً، لكن الرسالة لم تطر، فظل د. سعد علي غضبه المبرر. لكن رب
العالمين، بتدابيره الرحمانية، خلق لسعد فرجاً، عندما حدث اللقاء السعيد،
بأبو اللطف، رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، علي أرضية
الخلاف بين رئيس السلطة ورئيس فتح . وكان طبيعياً، أن يكون أبو اللطف أقرب
الي الجاليات من أبو مازن، لأن الإثنين، يعارضان أحدهما الآخر، من منطلق
الفضاء الذي يتوافر لكل منهما: الوجدان الفلسطيني المنتشر، في العالم،
بالنسبة للأول، والسلطة برسوخ مراسيها، بالنسبة للثاني. ولولا هذا الخلاف،
لما كان سعد أو الجاليات أو فيينا، سيحظون بأي من القائدين، عندما
يتوافقان، وذلك في ظل غياب خطط العمل الفلسطيني، ومنهجياته الفاعلة، وقدرته
علي احتواء مكونات عناصر القضية، ومكونات أهلها شعباً وجاليات!
عبد الله الحوراني، وهو عضو سابق، لسنوات مديدة، في تنفيذية منظمة التحرير،
كان حاضراً في التقرير عن مؤتمر الجاليات الفلسطينية في أوروبا. وبالطبع،
كان الرجل جاهزاً لقول كل شيء، إذ لا مكان له، لا في السلطة، ولا في
المنظمة. أما صدام حسين، الذي كان الحوراني يأنس به، وكتب له قبل يومين،
أولي رسائل الحب (هكذا كان عنوانها) فقد بات حبيساً.
وكان طبيعياً أن يزفر أبو منيف بخليط من عناد حقيقي ومتأصل، إزاء حق
العودة، مع شكاية شخصية، من جراء إبعاده عن نسيج الاتجاه التسووي، الذي كان
مشاركاً في إرهاصاته، أيام علاقاته الحميمة مع أبو مازن، انقطع حبلها، ولم
يسعفه الوصال لاحقاً. وربما يكون حال عبد الله الحوراني، أحد تدابير الرحيم
الرحمن، لكي يكسب الوعي الجمعي الفلسطيني، في الوطن وفي الشتات، رجلاً
مسيّساً حتي النخاع، ومن المخضرمين في العمل القومي، ومن المثقفين الذين
يُشد اليهم الرحال.
كان حاضراً كذلك، منير شفيق، السياسي والمفكر الفلسطيني، الذي تحكي سيرته،
قصة انفعال متأجج، بالمعتقدات والاتجاهات (كان مسيحياً قومياً، ثم
ماركسياً، ثم ماركسياً ماوياً، ثم مسلماً خمينياً، ثم مسلماً سُنياً، ثم
مسلماً نخبوياً هادئاً). فقد اجتهد منير شفيق أبو فادي في تلخيص صيغة علي
شكل دعابة، لتوحيد الجهود الفلسطينية، من أجل القضية الوطنية، فقال ما
معناه، إن الشيوعي والإخواني، أحسا بمشكلة الاستمرار معاً، وتوقعا العودة
الي التناقض والتخابط، لكنهما وجدا الحل، لضمان التعاون بين حركتين
متناقضتين فكرياً، وكان الحل يتمثل في شعار يرمز الي توحيد جهد الحركتين:
يا عمّال العالم، صلّوا علي النبي!
كاتب من فلسطين
|