السقف السياسي للسلطة الفلسطينية .. استمراء التراجع والهبوط

بقلم: مؤمن بسيسو*

في رحاب عام جديد من انتفاضة الأقصى الممتدة، لم يكن يُتوقع بحال أن يشهد النهج السياسي للسلطة الفلسطينية طفرة نوعية، أو يحلق في فضاء من التطور والسلامة والثبات، في ضوء الترهل السياسي العام، والتجارب المرّة التي غزت حقل السياسة الفلسطينية منذ نهاية الستينيات وحتى اليوم.

فتراجع المواقف والسياسات كان، ولا يزال، سمتاً تاريخياً ملازماً للنهج العام الذي اضطلعت به الثورة الفلسطينية ممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية، منذ تأسيسها، وانتقل – توريثاً- إلى صنيعتها السلطة الفلسطينية التي باتت مصدر القرار الرسمي الفلسطيني عقب إبرام اتفاق أوسلو.

تاريخ ملبد بالتراجعات..
استمراراً لمسيرة التراجع المطرد في بنية ومضمون النهج السياسي الفلسطيني الثوري، شهدت الأعوام العجاف التالية لولادة وتكريس السلطة الفلسطينية، وصولاً إلى مرحلة انتفاضة الأقصى الراهنة، موجات تترى من الهبوط السياسي الفلسطيني الرسمي الذي جرف السياسة الفلسطينية السلطوية إلى منزلقات خطيرة، وأحالها إلى أشتات سياسية متكسرة، لا تركن إلى رؤية سديدة، أو تستند إلى ثابت وطني أصيل.

ففي اتفاقات أوسلو ذاتها كانت بداية التراجعات، حين استكانت السلطة لرؤى وتفسيرات حكومة الاحتلال للكثير من نصوص الاتفاق، ورضخت للتعديلات والتحويرات الإسرائيلية التي تم إدخالها على بعض النصوص أو التطبيقات الميدانية لها، وقبلت على نفسها إخفاء حقيقة الملاحق السرية للاتفاق عن أبناء شعبها، تلاها القبول باتفاق الخليل بالغ الإجحاف الذي لا زال فلسطينيو الخليل يتجرعون مراراته وعذاباته، لتستقر عجلة التراجع على أعتاب اتفاق "واي ريفر"، وما حمله من التزامات قاسية تكبل الفلسطينيين وتقيد حريتهم الإعلامية، وتجبرهم على تشديد قبضتهم الأمنية بحق قوى المقاومة الفاعلة وخصوصاً حركة حماس، قبل أن تتوج مسيرة التراجع بإبداء تنازلات جوهرية في مفاوضات كامب ديفيد الثانية، التي أُتبعت بمفاوضات طابا التي شهدت موافقة فلسطينية على مضامين كامب ديفيد – حسب تصريحات اثنين من أبرز المشاركين فيها وهما يوسي بيلين وياسر عبد ربه- مما لم يرق لرئيس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الحين إيهود باراك الذي سحب وفده التفاوضي بشكل مفاجئ، ينبئ عن نواياه السيئة المسبقة، المغلفة بالخداع والتضليل، حيال التسوية مع الفلسطينيين.

ومع اندلاع انتفاضة الأقصى أدركت السلطة الفلسطينية، ومعها النظام العربي الرسمي، أن تطور فعل وآليات الانتفاضة كفيل بسحب البساط من تحت أقدامها، من خلال صعود تيار المقاومة وانحسار جهود التسوية، فقامت الدعوة إلى قمة شرم الشيخ التي ساوت بين الجلاد والضحية، ودعت إلى وقف العنف بين الطرفين: الإسرائيلي والفلسطيني، والعودة إلى الأوضاع التي سبقت اندلاع الانتفاضة، إلا أنها لم تجد صدى في دوائر صنع القرار الإسرائيلي، لتتنادى مصر والأردن إلى مبادرة جديدة، أسموها المبادرة المصرية الأردنية، تعد استنساخاً - إلى حد كبير- لقرارات قمة شرم الشيخ، لتلقى مصير سابقتها، قبل أن يصدر تقرير ميتشل عن لجنة تقصي الحقائق الدولية المشكلة وفق قرارات قمة شرم الشيخ، والذي يركز على وقف العنف واعتماد الآليات اللازمة لإنهائه، مما لم يكن للسلطة الفلسطينية بشأنه أي اعتراض، بل كانت من أشد الداعين له والمتحمسين لتطبيقه.

ورغم الانخفاض المتكرر لسقف المطالب السياسية الفلسطينية إلا أن إسرائيل أبدت قدراً كبيراً من التشدد، ليستمر دوران عجلة المقاومة والانتفاضة، ويشهد العالم ظهور وثيقة تينت التي عالجت الشأن الأمني دون السياسي، وألزمت السلطة بقيود أمنية لمواجهة المقاومة وتصاعدها المطرد، وهو ما قبلته السلطة وأفشله الاحتلال، إلى أن أطلت خارطة الطريق برأسها، لتحمل معها نذر المزيد من التراجع السلطوي الذي كاد يلامس فتنة داخلية شددت بنود الخطة على تحقيقها عبر الإصرار على تفكيك بنى وهياكل المقاومة المسلحة، لقاء دولة فلسطينية وهمية، مما لم يرق – مع ذلك- لحكومة الاحتلال بحال، ليفاجأ الشعب الفلسطيني بوثيقة جنيف التي باركتها السلطة، وما حوته من تنازل عن الكثير من الثوابت والحقوق الوطنية الفلسطينية، إلى أن أعلن شارون مشروع انسحابه من قطاع غزة المستند إلى الانفصال الأحادي، وارتباك السلطة إزاءه بادئ الأمر، ومن ثم الاستعداد للتعامل معه في نهاية المطاف.

البواعث والأسباب ..
لا يمكن محاكمة وتقييم النهج السياسي المتدهور للسلطة في إطار هامشي تسطيحي، بل يجب وضعه في سياقاته الصحيحة، ورد حال التردي التي تعتريه إلى أسبابها الحقيقية المتمثلة في التالي:

أولا: الافتقار إلى رؤية استراتيجية وبرنامج سياسي شامل، واضح المعالم والمفاصل والأهداف، يرتكز على قاعدة الحقوق والثوابت الوطنية، والتعامل مع الأحداث والقضايا والمبادرات المختلفة بتكتيك مفتوح، قابل للأخذ والرد، والقسمة والمساومة، دون أي عراقيل أو محرمات.

فما تملكه السلطة وتتبناه، لا يتعدى خطاباً سياسياً مترنحاً لا يسير في فلك خطة واضحة أو رؤية متزنة تكفل تقويمه وإسناده والحفاظ عليه وإقالة عثراته، وتسوده ملامح الغموض والعشوائية والانفعالية في غالب الأحيان، مما وجد تجسيداته العملية في تراجع سياسي يتلوه آخر، وأضحت السلطة بلا أي نهج واضح أو سياسة مخططة مفهومة.

ثانيا: الخشية من فقدان المصالح والمناصب والامتيازات.

ولا يخفى على أحد أن اتفاق أوسلو قد استجلب مصالح واسعة ومنافع جمة وامتيازات وتسهيلات بلا حدود للطبقة الحاكمة، ذات الحظوة والمكانة والنفوذ، ملكت على الكثير منها عقولهم وتفكيرهم، وربطت على قلوبهم ونفوسهم، حتى أصبحوا جزءاً من واقع التسوية، وأكثر التصاقاً بأشكالها وتعبيراتها، ليرتبط مصيرهم بمصيرها، وتغدو الرغبة في تكريسها أو عدم الانحراف عن وجهتها على الأقل، أكبر همهم ومبلغ علمهم ومناط جهودهم وتحركاتهم.

وتبعاً لذلك، لم يكن خيار المقاومة أو حتى التلويح به وارداً ضمن حسابات السياسة الفلسطينية السلطوية، بل إن موقف السلطة كان يعيد نفسه وينتج ذاته كل حين، ففي الوقت الذي نفضت فيه إسرائيل يدها من "أوسلو"، وداسته بصواريخ طائراتها وجنازير دباباتها ونيران آلتها القمعية الإجرامية، فإن السلطة لم تفتأ – بمناسبة وغير مناسبة- تشديداً على السلام، وسلام الشجعان، والتزامها الكامل بما يترتب عليها من استحقاقات والتزامات.

ومع بروز أي مبادرة سياسية جديدة، كانت السلطة كثر تساوقاًأكثر تساوقاً معها، وأكثر استعداداً للتفاعل مع حيثياتها مهما بلغ غبنها أو حجم التراجع الكامن فيها.

ثالثا: السير برجل واحدة، والتحليق بجناح واحد، وجعل المفاوضات هي نقطة البداية والنهاية على السواء، وإهمال خيار وقوى المقاومة، بل ومحاربتها والتصدي لها في كثير من الأحيان.

وفي التقييم الإستراتيجي لسلوك وأداء السلطة السياسي، خطأ استراتيجي فادح، مفاده الركون إلى سلامة الوعود والنوايا، وبعثرة وتشتيت أوراق القوة الرابحة، وعدم فهم ودراسة الخصم جيداً، فلم يعهد – في التاريخ القديم والحديث- على أي قوة احتلال باغية أي اندحار أو تسليم بحقوق المُغتصَبين عبر مفاوضات مجردة بعيداً عن القوة، أو أسلوب سلمي بمعزل عن لغة المقاومة والتحدي والصمود.

وفي المحصلة، فإن السياسة الفلسطينية الرسمية لم يكن لها ما يسندها ويحمي قرارها واتجاهها، لتتوالى فصول التراجع تباعاً.

رابعا: الاستجابة للضغوطات الخارجية.

فالملاحظ أن السلطة الفلسطينية باتت مطية لكافة أشكال الضغوط، وحلبة لتنافس وتزاحم المبادرات والطروحات، وحقل تجارب لما تنضح به قريحة القوى الإقليمية والدولية، بحيث أكرمت وفادة الجميع، ولم ترد لأحد طلباً أو مبادرة، حتى أن الضغط الخارجي أصبح لازمة أساسية للسياسة الفلسطينية السلطوية، لا تكاد تخفت موجة من موجاته حتى تتصاعد أخرى، إلى درجة بلغت بالنهج السياسي للسلطة مبلغاً صعباً في نفوس الجماهير الفلسطينية الحانقة المتشككة.

ولم يكن الضغط المصري الأخير في إطار ترتيب أوضاع ما بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة إلا حلقة في سلسلة الضغوط المتعاقبة التي يتولاها الكثير من الدول والحكومات، بعيداً عن أي ضغط كان على دولة الاحتلال المتغطرسة.

خامسا: ضعف الكفاءات والخبرات.

فلا شك أن ضعف الخبرة التفاوضية والكفاءة المهنية وقفت حائلاً أمام التصدي لألاعيب ومخططات المفاوضين الإسرائيليين الذين يتمتعون بقدرات وكفاءات عالية، وخبرات واسعة، مما انعكس سلباً على نصوص الاتفاقات المختلفة – الأساسية والجزئية- التي وقعتها السلطة مع الإسرائيليين.

سمات الخطاب السياسي..
نتاجاً للنهج المتدهور للسلطة يوما بعد يوم، كان خطابها السياسي نسخة شبيهة زاخرة بالسلبيات والتراجعات.

ويمكن تجلية سمات الخطاب السياسي الفلسطيني منذ نشأة السلطة وحتى اليوم في النقاط التالية:

أولا- الارتجال: فأكثر المواقف التي تصدر عن رموز ومسئولي السلطة يتلبسها الارتجال، والمسارعة الفورية إلى الاجتهاد دون البحث والدراسة والتمحيص.

ثانيا- الضعف وعدم التماسك: فضعف الرأي والحجة والمنطق كان – ولا يزال- سيد التصريحات والمواقف الفلسطينية الرسمية في مواجهة مواقف إسرائيلية متماسكة، لا يعتورها خلل أو ارتباك.

ثالثا- الاعتماد على ردود الأفعال: فالموقف الفلسطيني السلطوي موقف انتظاري، لا يصنع الحدث أو يخطط للمستقبل، بل يعيش على الرد على المواقف والأحداث التي تصنعها السياسة الإسرائيلية والدولية.

رابعا- الأحادية والانغلاق الداخلي: فهو خطاب مرن ومنفتح خارجياً يستوعب مختلف الضغوط والتدخلات، بيد أنه أحادي الوجهة والنظرة، وذا طابع انغلاقي على الصعيد الفلسطيني الداخلي، لا يرى إلا رؤيته، ولا ينظّر إلا لفكره وهدفه وسياسته، بعيداً عن مزاعم الديمقراطية والانفتاح، أو الانسجام مع اتجاهات وطموحات الجماهير.

خامسا- التضارب والتناقض: وهي سمة ناجمة عن سيادة الارتجال والعشوائية، والرغبة في الظهور الإعلامي لشخصيات ومسئولي السلطة، دون أي تنسيق فيما بينهم، أو اعتماد مرجعية سياسية موحدة، توحد الموقف والخطاب، وتلزم جميع الناطقين والمتحدثين بموقف رسمي واحد.

ذلك كله، جعل من الخطاب الفلسطيني الرسمي خطاباً ضعيفاً بالياً، لا يعبر عن هموم الجماهير والوطن والقضية، أو يحظى بموقع احترام وسط أجندات وسياقات سياسية، إقليمية ودولية، لا تقيم وزناً إلا لخطاب سياسي قوي ومتماسك، لا يعرف التراجع والانكفاء.

السلطة وخطة شارون..
بدا واضحاً أن مرحلة انعدام الخيارات التي ترزح فيها السلطة نتاجاً لأخطائها الدائمة والمتكررة، لم تدع لها مجالاً سوى القبول بما هو مطروح إقليميا ودوليا، ولو كان ذلك بحجم خطورة وتحديات خطة شارون للانسحاب من قطاع غزة، التي تهبط بالسقف السياسي للسلطة الفلسطينية إلى مستوى غير مسبوق.

وكان لافتاً حال التخبط والتعقيد الذي واجهته السلطة، فقد اشتعلت استياءً لرغبة شارون في تنفيذ خطته دون تنسيق أو ترتيب معها، ودفعت بمصر إلى أتون التفاعل السياسي للخطة بغية الحفاظ على دورها وكينونتها بعيداً عن التهميش والإقصاء، إلا أن الدور المصري الذي أُريد له إنقاذ السلطة وإسنادها سياسياً، واجه صدوداً إسرائيلياً، وتقزيماً له إلى حدوده الأمنية البحتة، مما يعني مزيداً من الانتكاسات للسياسة الفلسطينية الرسمية.

لقد كان بإمكان السلطة أن تعيد تصحيح مسارها، وتحاول صياغة نهجها السياسي على أسس وقواعد جديدة، بعيداً عن تراكمات وأخطاء الماضي، بتركها شارون وشأنه ينسحب من قطاع غزة من طرف واحد، دون تقديم أية أثمان أو ضمانات أمنية، إلا أن الإصرار على الخطأ، وأحلام استعادة الهيمنة والمجد والسيطرة والقوة، لا زال عنواناً لكافة سلوكياتها وسياساتها، مع ما يستجلبه ذلك من إضرار بالحقوق الوطنية المشروعة، وتراجعات جديدة في المواقف والثوابت الفلسطينية.

ومع غموض الوضع الإسرائيلي الداخلي، وصعوبة التكهن بما ستؤول إليه خطة شارون، وخاصة في ظل التصعيد غير المسبوق الذي تمارسه في قطاع غزة هذه الأيام، لا زالت السلطة الفلسطينية تعيش على رصيف الانتظار، دون أن تحرك شيئا من المياه الآسنة الراكدة من تحتها، أو تبادر نحو اتخاذ إجراءات وخطوات تصلح انحراف وتقوّم اعوجاج نهجها السياسي، وما يترتب عليه من وقائع ميدانية، ومنظومة علاقاتها الداخلية بالقوى الفلسطينية والجماهير المتعطشة للإصلاح والتغيير.

باختصار، فإن المنظومة السياسية للسلطة أضحت شبه ميئوس منها، ولن تستقيم إلا بتوغل إصلاحي جذري، يجتث الخبث المتأصل في عمق المؤسسة السياسية، ويرسي أسساً مهنية وقواعد وطنية صحيحة، تعيد للسياسة الفلسطينية اعتبارها المفقود وهيبتها الضائعة.

*  كاتب صحفي فلسطيني - المدير التنفيذي للمركز العربي للبحوث والدراسات بغزة

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع