من هو صانع القرار الفلسطيني؟
بقلم: جاسم بونوفل
صحيفة البيان الإماراتية 3/7/2006
في الوقت الذي يواصل فيه جيش الاحتلال الصهيوني ارتكاب جرائمه بحق
الشعب الفلسطيني، مستخدماً كل ما في ترسانته العسكرية من أسلحة بما
فيها الطائرات مستهدفاً تصفية هذا الشعب أينما وجد وأينما كان بكل
فئاته وشرائحه، أطفاله وشبابه، شيوخه ونسائه، لا فرق عنده بين مدنيين
مسالمين، ومقاومين يناضلون من أجل إزاحة الاحتلال عن ديارهم، ورافضين
لخطط السلام المزعومة ومتمسكين بالمقاومة كحق شرعي تقره القوانين
والمواثيق والشرعية الدولية، نجد على الطرف الآخر نقصد الجانب
الفلسطيني وبالتحديد السلطة الفلسطينية بجناحيها (مؤسسة الرئاسة ومؤسسة
الحكومة) غارقة في خلافاتها السياسية وصراعاتها الأيديولوجية، ومشغولة
في التطاحن والتنافس فيما بين أعضائها على المناصب والمصالح الضيقة،
ونسي هؤلاء جميعاً أن وطنهم لا يزال محتلاً، وأنهم يواجهون عدواً لا
يعرف لغة الحوار والسلام كما يدعي ويزعم، وحجته دائماً أنه مازال يبحث
عن شريك فلسطيني - طبعاً بمواصفاته هو لا بمواصفات الفلسطينيين -
ليشاركه في تدشين عملية السلام المزعومة وبما أنه حتى هذه اللحظة لم
يجد الشريك المناسب، وإلى أن يلقى هذا الشريك فإنه في حل من الجرائم
التي يرتكبها بحق الشعب الفلسطيني مادام أنه يقوم بهذه العمليات بحجة
الدفاع عن مواطنيه، وأن الشرعية الدولية تكفل له هذا الحق وعليه فهو
يتصرف وفقاً للقانون، وانسجاماً مع الغطاء الدولي الذي يحميه من أية
تساؤلات عما يفعل بالفلسطينيين، فمن جهة، فإن سيد البيت الأبيض لا
يعارض مثل هذه العمليات طالما تتم في إطار الدفاع عن النفس والحرب على
الإرهاب، كما أن الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى يقدر الظروف التي يمر
بها الكيان الصهيوني في مواجهته للصواريخ التي يطلقها المقاومون
الفلسطينيون على «الأراضي الإسرائيلية».
وفي هذا السياق فإن ما نقلته وسائل الأعلام مؤخراً للمجازر التي نفذها
الجيش الإسرائيلي وبأوامر من وزير الحرب الجديد عمير بيرتس وبدعم
وتأييد من رئيس الحكومة إيهود أولمرت إنما تأتي في إطار الدفاع عن
النفس، منطق قريب وعجيب ومعكوس وهو أن يتحول الضحية إلى جلاد والجلاد
يتحول إلى ضحية، لكن الأعجب منه هو المنطق الفلسطيني الذي يتحدث بعض
رموزه أمام القنوات الفضائية التي تفرد لهم المساحات الكبيرة من الوقت
ليتحدثوا عن عمليات المقاومة وكأنها هي السبب في الاعتداءات المتكررة
على الأراضي الفلسطينية ونسي هؤلاء أو تناسوا أن ما يقوم به الجيش
الإسرائيلي إنما ليس وليد اللحظة وهو يعكس إستراتيجية إسرائيلية ثابتة
لا تتغير بتغير الحكومات كما يحدث في بلاد العرب! بدليل أن كل الحكومات
الصهيونية المتعاقبة على حكم "إسرائيل" سواء كان في كرسي الرئاسة حزب
الليكود أو حزب العمل أو حزب كاديما الذي يتزعم الحكومة الحالية، فإن
السياسة واحدة لم تتغير فشعار العدوان تجاه الشعب الفلسطيني هو الشعار
الذي وضعه آباء الصهيونية منذ مؤتمرهم الأول ويلتزم به حكام "إسرائيل"
منذ نشأة الكيان الإسرائيلي وحتى الآن، وهو الذي على أساسه يتصرف
القادة الإسرائيليون، فإذا شعر بعض الفلسطينيين والعرب بأن هناك
تغييراً قد طرأً لدى البعض من القادة الإسرائيليين، وأنه يمكن توظيف
هذا التغيير في الحصول على بعض المكتسبات للشعب الفلسطيني، فهم واهمون
ومخطئون في ظنونهم، لأن ما يحدث على الأرض ليس تحولاً وإنما هو تكتيكاً
ينبع من القراءة الدقيقة لهذا القائد أو الزعيم الإسرائيلي للأوضاع
المحلية والإقليمية والدولية فهو يتصرف وفقاً لهذه القراءة ويحاول أن
يستفيد منها قدر الإمكان وهو ما يفعله الآن، فلقد استفاد القادة
الصهاينة من المتغيرات الدولية، فالحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة
على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وقيامها بغزو كل من
أفغانستان والعراق، سمحت للقادة الإسرائيليين بتوظيف هذا المتغير- أي
الحرب على الإرهاب - في صالحهم فزادوا من عدوانهم واجتياحاتهم للمدن
والقرى الفلسطينية واغتيالاتهم للفلسطينيين في وضح النهار وعلى مسمع
ومشهد المجتمع الدولي الذي لم يحرك ساكناً حتى هذه اللحظة بحجة أن
هؤلاء ( إرهابيين)، كما استفاد الصهاينة من وهن العرب وصمتهم الدائم عن
المجازر التي يرتكبونها، والأنكى من ذلك انهم استفادوا من انشغال
الفلسطينيين - أصحاب الأرض - في خلافاتهم وتطاحنهم ومشاحناتهم وتنافسهم
على مناصب السلطة التي لا تقدم ولا تؤخر، ولا تحقق أية مكاسب للقضية
الفلسطينية، اللهم إلا للمنتفعين من ورائها.
إذاً ونحن أمام هذا المشهد الفلسطيني المبكي المحزن والذي هو على
النقيض تماماً من المشهد الإسرائيلي نطرح السؤال التالي وهو: كيف يمكن
مواجهة هذه الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الشعب الفلسطيني؟ وهذا
السؤال يقودنا إلى طرح سؤال آخر من هو صانع القرار الفلسطيني؟
للجواب عن هذا السؤال نجد أنفسنا اليوم أمام ثلاثة اتجاهات يمكن أن
تحدد مستقبل الشأن السياسي الفلسطيني وتقرر مصيره و هي:
الأول: الاتجاه الفتحاوي الذي يزعم كونه يستحوذ على أغلبية الشعب
الفلسطيني في صفوفه وأنه أكثر التصاقاً بالشعب، وخير من يعبر عن همومه
-رغم أن الانتخابات الأخيرة قد كشفت عدم صحة هذه المزاعم- وهو الاتجاه
الذي يسيطر على مؤسسة الرئاسة فالسياسيون المنتمون إلى هذا الاتجاه،
مهوسون إلى حد كبير بعملية السلام مع الكيان الصهيوني وبمسائل ذات صلة
مثلاً: بالشرعية الدولية، والشرعية العربية، والعلاقة مع الولايات
المتحدة، والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي، والحكومات العربية المساندة
لاتجاهاتهم، وسيبقى هؤلاء مسيطرين على مؤسسة الرئاسة، مستمدين ذلك من
تأييد من بعض فئات الشعب الفلسطيني لهم ليس لإيمانهم بأفكارهم بقدر ما
هو الالتقاء معهم في بعض المصالح، ومن بعض القوى الدولية كالولايات
المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومن بعض أنظمة الحكم العربية التي تتوافق
مصالحها مع مصالحهم فهؤلاء وبحكم تجربتهم الطويلة في السيطرة على
الشؤون الفلسطينية من خلال منظمة التحرير الفلسطينية، وتسلمهم مقاليد
السلطة الفلسطينية نتيجة توقيعهم على اتفاق أسلو الذي بموجبه دخلوا
الأراضي الفلسطينية المحتلة، سيظلون هم المسيطرين على الساحة
الفلسطينية حتى ولو فقدوا الأغلبية البرلمانية في المجلس التشريعي
والذي ترتب عليه فقدانهم لرئاسة الحكومة التي ذهبت إلى حركة حماس بعد
فوزها في الانتخابات التشريعية، فهم يرون أن ما حدث هو بمثابة خسارة
الجولة الأولى من المعركة وليس المعركة كلها، ولذلك نجد أن بعض رموز
هذا الاتجاه يعمل على إعادة ترتيب الأوراق استعداداً للجولة القادمة
بوسائل شرعية كمؤتمرات الحوار الوطني والاستفتاءات أو غير شرعية
كالاتصال بجهات أجنبية يمكن أن تساعدهم في تحقيق أهدافهم، وإذا ما صحت
هذه الأنباء فإن القضية الفلسطينية تنتظرها عواقب وخيمة وكارثية، إضافة
إلى أن هاجس الخوف بدأ يلبسنا بسبب التهديدات الأخيرة التي أطلقها قادة
الكيان الصهيوني بشأن الاغتيالات للناشطين الفلسطينيين والتي لن تستثني
هذه المرة قادة حماس وعلى رأسهم إسماعيل هنية وهو ما يجعلنا أن نميل
إلى تصديق ما نقلته بعض الصحف بشأن المخطط الأميركي فضلاً عن التصريحات
التي يدلى بها بعض أقطاب فتح والتي تصب في مجرى هذا المخطط.
هذه الأقطاب التي لا تفكر إلا في مصالحها، ومن مصلحتها ألا تكون السلطة
بيد غيرهم من الفصائل الفلسطينية المنافسة لهم، أما الشعب الفلسطيني
الذين يتشدقون أمام القنوات الفضائية وعبر التصريحات الصحفية أنهم
يدافعون عنه فهو يأتي بالنسبة لهم في آخر الأولويات.
الثاني: الاتجاه الإسلامي، ومما نلاحظه في هذا الاتجاه أنه موزع بين
تيارين كبيرين هما: التيار الإخواني (الحمساوي) والتيار الجهادي أما
التيار الأول وتمثله «حركة حماس» وهو الأكثر حضوراً والأقوى في الساحة
الفلسطينية يتميز بقوة تنظيمه وانتشاره وتغلغله في المدن والقرى
الفلسطينية، وهو التيار الذي قبل بالدخول في العملية السياسية مع تمسكه
بخيار المقاومة على عكس التيار الثاني (الجهادي) وتمثله حركة الجهاد
الإسلامي الذي يشترك معه في الانتماء إلى الاتجاه الإسلامي، لكنه رفض
منذ البداية الانخراط في العملية السياسة وظل متمسكاً بخيار المقاومة
المسلحة، في حين أبدى التيار الإخواني مرونة كبيرة في تعامله مع
الأطياف السياسية الأخرى، كما وأن احتمال وجود هذا التيار في هذه
العملية لا يزال قائماً، وذلك بسبب أن أغلب رموزه من المعتدلين الذين
يحظون بتأييد كبير من قبل الطبقتين الوسطى والدنيا في المجتمع
الفلسطيني ومن المؤشرات الدالة على استمراره هو موافقته على الدخول في
الحوار الوطني بالرغم من أن موقفه أقوى من مؤسسة الرئاسة التي تقودها
فتح خاصة بعد حصوله الأغلبية البرلمانية في المجلس التشريعي التي تريحه
وتمكنه من الإمساك بزمام المبادرة في أي صيغة توافقية تناقش مستقبل
الشأن الفلسطيني مثل: الحوار الوطني أو القبول بحكومة وحدة وطنية كما
أبدى تعاونه مع مؤسسة الرئاسة التي يسيطر عليها الفتحاويون بالرغم من
إدراكه بأن رموز بعض هذه المؤسسة تعمل على إقصائه من مؤسسة الحكومة.
ورغم كل المعوقات التي تواجه هذا التيار كالحصار الذي تمارسه الولايات
المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض الأطراف العربية والفلسطينية، إلا أن
هذا لن يثنيه عن البقاء في السلطة بالرغم من المحاولات التي تبذلها بعض
الأطراف في حركة فتح، وهوعازم على عدم ترك الساحة السياسية الفلسطينية
لحركة فتح تصول وتجول لتقرر وحدها مصير الفلسطينيين ولذلك فإنه سيظل
وسيبقى الرقم الصعب أمام هذه الحركة في المعادلة الفلسطينية.
ثالثاً: الفصائل الفلسطينية الأخرى بأطيافها المختلفة: وقد لعبت هذه
الفصائل دوراً كبيراً في النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي -
ولا تزال - ولكن يبقى دورها محدوداً في الفترة الأخيرة مقارنة بالحركات
الإسلامية، إذ بدأ دورها ينحسر في الكفاح المسلح، وإن كانت لا تزال
تؤمن بخيار المقاومة كأحد الخيارات التي ينبغي على الفصائل التمسك به
مع العمل في الوقت ذاته على استخدام الخيار السياسي كأحد الوسائل الذي
يمكن من خلاله استرجاع الحق الفلسطيني، وهي تلتقي كثيراً في وجهات
نظرها مع الحركات الإسلامية خاصة في تبنيها لخيار المقاومة ضد
الاحتلال، كما أنها تشترك مع حركة فتح في اللجنة التنفيذية لمنظمة
التحرير الفلسطينية وتلتقي معها في بعض الأفكار التي تتعلق بمستقبل
القضية الفلسطينية، ولذلك نراها تشترك في الحوار الفلسطيني- الفلسطيني
- وتعمل مع الفريقين اللذين يتقاسمان السلطة الوطنية الفلسطينية (مؤسسة
الرئاسة ومؤسسة الحكومة).
من هنا نقول: إن أي تحرك في اتجاه صياغة رؤى مستقبل الخريطة السياسية
للدولة الفلسطينية لا ينطلق من هذا الواقع، فإن مصيره الفشل، بمعنى أن
أي تحرك يسير باتجاه الانفراد بالقرار الفلسطيني - كما تعمل بعض
الأطراف في مؤسسة الرئاسة - والتي تحاول فرض أجندتها على جميع القوى
السياسية في الساحة الفلسطينية، وتعتبر نفسها هي الوصي على الشعب
الفلسطيني، فإن نتائج مثل هذا التصرف قد يفضي إلى نتائج خطيرة وعواقب
كارثية على الشعب الفلسطيني، وعلى القضية الفلسطينية، والسؤال المطروح
هو: هل ترفع بعض الأطراف الفلسطينية وصايتها عن الشعب الفلسطيني؟.
* كاتب بحريني
|