هل يسقط عميان المصالح خيار المقاومة؟
عوني فرسخ- 14/6/2006
فيما يتصاعد العدوان الصهيوني، وتتضح ابعاد التواطؤ الدولي والاقليمي، تتفاقم حدة التناقضات فيما بين قيادات فتح وحماس. فالصدامات المسلحة تتواصل، والجدل محتدم حول "وثيقة الأسرى" وقرار عرضها للاستفتاء، و"حوار الطرشان" يتوالى بين الأخوة الاعداء، بينما النخب التي طالما نددت بتسلط فتح وفسادها باتت ترى في الرئيس محمود عباس "البطل" المنقذ لمكاسبها المادية ومراكزها السياسية ونفوذها الاجتماعي من عواقب الخيار الديمقراطي الذي أوصل حماس لمقاعد السلطة، وما يبدو من فشل محاولات إدخالها طوعا أو كرها بيت الطاعة الأمريكي- الصهيوني. فهل ينجح عراب اوسلو والملتفون حوله، بالدعم الدولي والاقليمي، في اسقاط خيار المقاومة؟
وفي الاجابة ألاحظ بداية أن ما هو جار في الضفة والقطاع المحتلين عانت مثله كل حركات التحرر الوطني في العصر الحديث، خاصة عندما يواجه العدو المحتل أزمة حادة، إذ يسعى لتصدير أزمته للشعب المحتلة أرضه، بتفجير الصراعات اللامجدية بين نخبه. وإسرائيل اليوم تعيش مأزقا داخليا وتواجه تراجعا في تأييدها لدى الرأي العام الأوروبي والأمريكي، وكذلك هي حال الادارة الامريكية. ولقد وجد طرفا التحالف فرصتهما الذهبية في القلق الذي بعثه نجاح حماس الانتخابي في أوساط النخب العربية عامة، والفلسطينية منها خاصة، المرتبطة مصالحها بواشنطن وتل أبيب.
وللاهمية الاستراتيجية للمشروع الصهيوني في تأمين مصالح قوى الاستغلال الدولية فانه منذ بدايات الصراع اعتمدت استراتيجية استغلال طموحات النخب العربية في إذكاء النزاعات فيما بينها. ففي سنة 1920، وعلى خلفية رئاسة بلدية القدس، نجح الجنرال سبيرز الحاكم العسكري البريطاني في شق صف النخب المقدسية، مؤسسا بذلك لنزاعات توالت فيما بين "المجلسيين" و"المعارضين" طوال عهد الانتداب. ولمواجهة المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول شكل الجنرال كلايتون سنة 1923، بالتعاون مع ممثل الوكالة اليهودية فردريك كيش، "الحزب الوطني العربي" من بعض الأعيان وكبار الملاك، كما شكلا "الحزب الزراعي" من بعض متعلمي القرى. وأمام تصاعد ثورة 1936/1939 اخرج عشرون مجرما من السجون ليشكلوا عصابة تولت ترويع المسيحيين في قضائي بيت لحم ورام الله، وخاض الثوار معركة ضدهم في ضواحي قرية الخضر جرح فيها عبد القادر الحسيني. وفي 12/12/1938 أعلن فخري النشاشيبي قيام "فصائل السلام" التي خاضت الثورة المضادة تحت إشراف ضباط انجليز وصهاينة. وفي 27/3/1939 قاد فريد ارشيد الانجليز إلى قرية "صانور" حيث كان قائد الثورة عبدالرحيم الحاج محمد "أبو كمال" فيما أدت القوة البريطانية التحية العسكرية لجثمان القائد البطل الذي أبى الاستسلام وقاتل حتى استشهد.
كما اعتمدت منذ بداية الاحتلال البريطاني لفلسطين سياسية تكليف الفئات العربية الحاكمة، المرتبطة مصلحيا بالقوى الاستعمارية، بتقديم مبادرات الالتفاف على الحراك الوطني الفلسطيني. وقد كانت بدايتها المذكرة التي كتبها لورنس، الجاسوس البريطاني، ووقعها الأمير فيصل بن الحسين وحاييم وايزمان في 13/1/1919. وتوالت بعدها "مبادرات" الملوك والرؤساء العرب، التي حين تقرأ يتضح أن ليس بين طارحيها من أسسها على رؤية استراتيجية للصراع، أو قراءة موضوعية لتاريخه الممتد، أو استنادا لوعود جادة وموثقة. ودائما كان التدخل الرسمي العربي يسوق بذريعة الانتصار للأشقاء الفلسطينيين وسعيا لتخفيف معاناتهم، وتطلعا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولأن القوة الدولية الموجهة لتلك المبادرات ليست في وارد اتخاذ ما يؤثر سلبا في المشروع الصهيوني الذي ترعاه، كان الحصاد مرا في جميع الحالات. الأمر الذي عمق في الذاكرة الجمعية الشعبية العربية الشك بدوافع وغايات ونتائج المبادرات الرسمية العربية.
وليس جديدا التنكر الدولي لحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير وممارسة حياة ديمقراطية سليمة. ويذكر أن بلفور وجه لرئيس الوزراء البريطاني مذكرة يعقب فيها على العرائض العربية المطالبة بحق تقرير المصير، تضمنت قوله: "إن نقطة الضعف في مركزنا بالطبع هي إننا فيما يتعلق بفلسطين، نمتنع عامدين، ونحن على صواب في ذلك، عن قبول مبدأ تقرير المصير. ذلك لأنه إذا استشير السكان المحليين فإنهم دون شك سيصوتون ضد اليهود. أما مبرر سياستنا هذه أننا نعتبر فلسطين قضية استثنائية بشكل مطلق، وأن مشكلة اليهود خارج فلسطين ذات أهمية عالمية" (وثيقة الخارجية البريطانية و.خ 371 - 4179 في 19/3/1939 ).
وحين تكون الارض محتلة، وحقوق مواطنيها مهدرة، تكون المقاومة هي المجسدة لحيوية الشعب والمحددة لسلامة مواقف نخبه السياسية والفكرية، ويغدو الملتزمون بالمقاومة خيارا استراتيجيا هم الذين يخلدون في ذاكرة شعوبهم كمشاعل في ليل الاحتلال. وباخضاع كل من "وثيقة الاسرى" ودعوة الرئيس عباس للاستفتاء عليها لهذا المعيار، فانه في ضوء التوتر الذي تسبب به الجدل المحتدم حول الوثيقة والاستفتاء، واثره السلبي على الوحدة الوطنية، الدرع الواقية لحركة المقاومة تاريخيا، تتضح خطورة التوظيف السياسي للوثيقة، حتى وإن كانت خالية من كل تحفظ عليها، فكيف الحال وهي تنطوي على تناقضات فيما يتعلق بالمقاومة، وحق العودة، والاعتراف باسرائيل؟!!
والمرجح تفاقم حدة الخلاف، وفشل محاولات رأب الصدع، وتصاعد العدوان الصهيوني، وتعاظم الضغوط الدولية والإقليمة، إلا أنه في حكم المؤكد استحالة ان تؤدي المواقف الملتبسة لعميان المصالح الى اسقاط خيار المقاومة. وذلك لأن ما يواجهه شعب فلسطين انما هو استعمار استيطاني عنصري مفجر مثالي للمقاومة، خاصة وعبؤه الأثقل يقع على الغالبية المحرومة ذات القدرة الفذة على العطاء وتحمل المعاناة. وتاريخ الصراع يشهد بأن الفلاحين وفقراء المدن كانوا القوة التي تحملت عبء المقاومة طوال زمن الانتداب، وأن مخيمات اللجوء هي من تحملت العبء بعد النكبة. وليس عند اسرائيل و"المجتمع الدولي" ونخب اوسلو ومرتزقة التمويل الخارجي، ما يقدمونه للغالبية الصامدة سوى وعود سرابية نتاجها المزيد من المعاناة، وبالتالي الكثير من محفزات تواصل وتطوير الاداء المقام. وتاريخ الصراع الممتد حافل بالشواهد على أنه كلما تصور عميان المصالح انتكاس ارادة المقاومة فوجئوا بتفجر مقاومة اشد عزما وأكثر تطورا.
|