عادل أبوهاشم
مدير تحرير صحيفة الحقائق
adel@alhaqaeq.net
10/14/2003
مأساة رفح ومخاتير
السلطة..!!
منذ فترة عقد ونصف من الزمن ونحن نعاني من صراخ
المتباكين على السلام العربي- الإسرائيلي، وبرز قادة امتهنوا القيادة،
ومخاتير
احترفوا الزعامة، وزعران استمرأوا الاستخفاف بشعبنا الفلسطيني.!
والجميع يصب في
قناة واحدة ألا وهي خدمة الاحتلال.!
وعلى رغم تفاؤل هؤلاء القادة والمخاتير
والزعران بمستنقع السلام، فقد كشف العدو الإسرائيلي عن حقيقة ما يضمر من
عدوان
يستهدف كل ما هو فلسطيني من البشر والحجر والهواء والماء، وآخر دليل على
ذلك ما
ارتكبته حكومة القتلة من مجزرة في مدينة رفح.!
ليست مصادفة أن يختار العدو فرصة
إنشغال "مخاتير السلطة" بالصراع حول تشكيل الوزارة الفلسطينية العتيدة،
وحول أحقية
تولي وزارة الداخلية لمحمد دحلان أم لنصر يوسف أم لحكم بلعاوي لارتكاب
مجزرته في
رفح، بل جاءت المجزرة بمثابة رسالة لكل هؤلاء بأن صراعهم العبثي على وزارات
السلطة
هو الذي أعطى المبرر للعدو الإسرائيلي بالقيام بالمجزرة في رفح، وأن نباحهم
المستمر
على الفضائيات حول الوزارة الموسعة أو الضيقة، وحول حكومة طوارئ أم حكومة
فوضى إنما
هو مؤشر على أن هؤلاء إنما يتولون أجهزة وهمية، ووزارات وهمية، في سلطة
وهمية..!!
لقد كشفت مأساة رفح، والصراع حول تشكيل الوزارة الفلسطينية، حقيقة
المأساة التي عاشها الفلسطينيون على مدار ست سنوات منذ قيام السلطة إلى
إنطلاق
انتفاضة الأقصى من حالة الفساد والإنهيار التام في مؤسسات السلطة، وفي
حقيقة
الأشخاص الذين تولوا مقادير هذا الشعب المجاهد، حيث لم يدركوا أن هناك فرق
بين
الثورة والدولة، فالثورة أجهزتها وسلطاتها ورموزها شيء، والسلطة الوطنية
على الأرض
والشعب شيء آخر تمامـًا.
وهي هنا تعني اقامة المؤسسات الوطنية ذات العلاقة
بإدارة شئون البلاد والعباد والتي تديرها الكوادر الفلسطينية المبدعة
والمختصة
بعيدًا عن اعتبارات الإنتماء السياسي والفئوي، وبالتالي التعامل مع كافة
طبقات
وشرائح وفئات الشعب الفلسطيني بروح ديمقراطية عالية، وبأعلى درجات الأداء
المؤسسي،
سلطة وطنية تليق بهذا الشعب، ومؤسسات وطنية مبنية على أسس موضوعية وعلمية
وإبداعية...
لقد انعكست أثار عملية التسوية على جميع مجالات الحياة الفلسطينية
المختلفة، وظهرت أكثر وضوحـًا على حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"،
فقد قطعت
اتفاقية أوسلو وما تبعها من اتفاقيات الخيط الرفيع الذي يربط بين أعضاء
حركة فتح،
بإعتبارها المشارك الأساسي- بل الوحيد- في عملية التسوية، فقد دفعت هذه
الاتفاقية
بالكثيرين من أبناء حركة فتح ممن لم يكن لهم تاريخ نضالي سواء من الناحية
العسكرية
أو السياسية إلى القفز على السطح للانقضاض على كعكة أوسلو وهي التي يمثلها
في هذه
الحالة أجهزة السلطة الفلسطينية..!!
وأصبحنا نرى أشخاصـًا- لم نسمع بأسمائهم في
مسيرة الثورة- يتباهون ويفاخرون ببطولات غير موجودة لديهم ولا يعلمون عنها
هم
أنفسهم شيئـًا..!! كل شخص ينسب إلى نفسه أعمالا وبطولات وعمليات عسكرية لم
يقم بها
ولم يحلم في يوم من الأيام القيام بها، وأخذت تتشكل الكتل المتجانسة
مصلحيـًا أو
منطقيـًا، وحتى عائليـًا وجماعيـًا "نسبة إلى جماعة أبو فلان وأبو علان"،
وجميعهم
لا يربطهم إلا رابط مصلحي يقوم على الفوز بنصيب الأسد من كعكة أوسلو..!!
وقد
ساهمت عوامل عديدة على بروز المنتفعين واحتلالهم مناصب ليسوا أهلا لها في
أجهزة
السلطة الفلسطينية أبرزها أن المناضلين الحقيقيين لا يزالون يقبعون في
السجون
والزنازين الإسرائيلية، وارتباط بعض هؤلاء المنتفعين ببعض القيادات
الفلسطينية داخل
السلطة، حيث تمكن هؤلاء من خلال ارتباطهم من الحصول على الدعم المالي
اللازم في وقت
يعاني فيه الجميع من أزمة مالية واقتصادية خانقة، وقد تمكنوا من شراء ذمم
كثيرة،
فيما كثيرون من أصحاب الضمائر تركوا هؤلاء يعملون ما يحلو لهم بحجة أن
أمرهم سينكشف
عاجلا أو آجلا، ولكنهم اكتشفوا في النهاية خطأ ما اعتقدوا به.
وسبب آخر يتوجب
علينا ذكره فإن انسحاب القوات الإسرائيلية من غزة وأريحا ودخول القوات
الفلسطينية
هذه المناطق بأسلحتهم الخفيفة وبزاتهم العسكرية قد جعل الكثيرين من البسطاء
يشربون
"حليب
السباع" وأخذوا يتسابقون للحصول على مقعد في حفلة السلطة الفلسطينية، حيث
أصبح لقدرة الشخص على جمع قاعدة عريضة وأكبركم من الأصوات من عائلته أو
عشيرته أو
قبيلته ميزة كبرى للحصول على مقعد في أجهزة السلطة، كما ظهر للثروة دور
بارز في
التعيينات في السلطة في ظل الأزمة المالية التي تعيشها السلطة، والجميع
يذكر قصة
أعضاء (روابط القرى) العميلة وخصوصـًا في منطقة الخليل، حيث أعادوا
اتصالاتهم
بالقيادة الفلسطينية عبر أقاربهم في السلطة وذلك من خلال ضخ الأموال إلى
جيوبهم لكي
يتمكنوا من العيش في المستوى الذي تتطلبه مناصبهم في السلطة، وقال أحد
هؤلاء
العملاء" لقد جمعت عشرات الملايين من خلال تعاوني مع الاحتلال أفلا يجوز أن
أغسل
تلك العشرات من الملايين برزمة واحدة على أولئك الذين جاءوا جياعـًا
ويحملون رتبـًا
عسكرية عالية وبإمكانهم تبييض صفحاتنا السوداء"..!!
وللتاريخ والحقيقة فإن
أصوات الشرفاء داخل حركة فتح قد أصابها الكلل والملل من النداءات المتواصلة
للسلطة
لتقويم المسيرة الفلسطينية، والقضاء على ظاهرة انتشار الفساد والرشوة داخل
أجهزة
السلطة، والتخلص من المحسوبية والأغراض الشخصية في التعيين، حيث تقوم
السلطة
الفلسطينية بإستخدام الموظفين وتعيينهم بشكل مزاجي وبدون الأخذ بعين
الإعتبار
مؤهلاتهم وكفاءاتهم بالنسبة للوظائف التي يشغلونها، وكذلك قيام بعض
المحسوبين على
السلطة بتوزيع المحروقات والأسمنت والسجائر وبيعها للمستهلكين بأسعار
مرتفعة، وإذا
أراد مستثمر أن يقيم مشروعـًا في الداخل أخذت منه السلطة 10% من قيمة كلفة
المشروع
نظير موافقتها، واستمرار حالة الترهل الإداري والتضخم الوظيفي في مؤسسات
السلطة،
ووجود أزمة في مجال إدارة المؤسسات بسبب انعدام وجود الهياكل التنظيمية
وغياب الخطط
الإستراتيجية في معظم مؤسسات القطاعين العام والخاص مع تكريس "النظام
العائلي" في
ادارة مؤسسات السلطة، كما درج كبار المسئولين والموظفين في السلطة على
الإتجار
واحتكار السلع الأساسية مما أدى إلى بروز ظاهرة الرشوة والفساد، وبالتالي
عجز
السلطة عن اقامة المؤسسات المركزية وإدارة المؤسسات القائمة مسبقـًا إدارة
حسنة.
كما ظهرت فئة من موظفي السلطة والمسؤولين قامت باستغلال حاجة المواطن بدلا
من
مساعدته، حيث ظهرت خلال السنوات التي سبقت انتفاضة الأقصى فئة استفادت من
الحصار
الذي فرضته إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، فعمل أفرادها كوسطاء مع الجانب
الإسرائيلي لحصول المواطن الفلسطيني عل تصريح لزيارة إسرائيل، أو بطاقة
هوية
للعائدين، وتسوية أوضاع مطلوبين للأمن الإسرائيلي مقابل مبلغ مادي متفاوت
في حالة
مشابهة لسنوات الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة والضفة الغربية حيث ظهرت في
تلك
الفترة فئة من "المخاتير" الذين كانوا يتدخلون لدى الحكم العسكري
الإسرائيلي من أجل
حصول المواطن الفلسطيني على تصريح سفر مقابل مبلغ من المال، وغالبـًا ما
كان
"المخاتير"
يحملون مسدسات يتجولون بها لإشعار الجميع بالحماية الإسرائيلية.
وظهرت طبقة من "المخاتير" الجدد، وهم موظفون بدرجات مختلفة ورفيعة في أجهزة
الأمن ومؤسسات مدنية، وبعضهم بمرتبة وزير يحظون بدعم إسرائيل، ويستمدون
قوتهم من
قوتها لدرجة أنهم يتمردون على التعليمات والقرارات العليا ويستغلون مناصبهم
للإستفادة من المواطنين الذين دفعتهم الحاجة لطلب تصريح زيارة من إسرائيل
للعلاج
في المستشفيات الإسرائيلية، أو العمل في إسرائيل أو الحصول على بطاقات
الإقامة
وتقدم الخدمات لهم مقابل مبالغ مادية.
وقد أطلق الفلسطينيون على هذه الشبكة لقب
"أغنياء
الحصار" فجميع أعضائها من كبار أصحاب الملايين، فهم يفرضون على العامل
الفلسطيني دفع (250) دولار مقابل الحصول على تصريح للعمل في إسرائيل التي
تلغيه في
أي وقت تشاء وتطلب من العمال إعادة الحصول على تصاريح جديدة، بطاقة
العائدين تبدأ
من خمسة آلاف دولار، التصريح الذهبي للتجار لدخول إسرائيل تصل قيمته إلى 35
ألاف
دولار.
حتى الاعتقالات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية الفلسطينية لأعضاء حماس
والجهاد فإن الرواية التي يتداولها الفلسطينيون تؤكد بأن الأجهزة المسؤولة
عن
الاعتقال تستخدم هذه الإعتقالات للإبتزاز، أي مطالبة أهالي المعتقلين بدفع
مبالغ
مقابل الإفراج عنهم..!!
وصمت الفلسطينيون داخل مناطق السلطة والأراضي المحتلة
عن كل ما يقال عن عمل أجهزة السلطة، واعتبروا أن ما قيل وما يقال هو من باب
الإشاعات التي تطلقها آلة الإعلام الإسرائيلية لإجهاض (الوليد الفلسطيني)
ومشروع
بناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف "أليس هذا ما تردده الأجهزة
الإعلامية
الفلسطينية؟!".
وانتظر الفلسطينيون البشرى التي زفها إليهم موقعوا اتفاقات
أوسلو بقرب بزوغ "سنغافورة جديدة" من بين أكوام الصفيح وزحام البشر والجوع
والمرض
في قطاع غزة، فهم يعرفون أن قيم الاستقلال والسيادة والحرية لم تكن حاضرة
في
الاتفاقيات مع الإسرائيليين بقدر ما كانت الوعود المنثورة برخاء اقتصادي
ينهي أزمة
حادة تفاقمت في البداية العقد الأخير من القرن العشرين دافعة نحو مليوني
فلسطيني في
الضفة الغربية وقطاع غزة تحت حزام الفقر الناري.
وفي ساعات الانتظار الصعبة ظهر
إلى العلن تقرير "هيئة الرقابة الفلسطينية" لعام 1996م، التقرير يتحدث عن
الفساد
المالي في أجهزة السلطة الفلسطينية- وهو بالمناسبة أول وآخر تقرير لهيئة
الرقابة
الفلسطينية- ويؤكد التقرير عن هدر في المال العام بلغ 326 مليون دولار تشكل
نحو نصف
ميزانية السلطة الفلسطينية لعام 1996م، وأشار التقرير الرسمي إلى تجاوزات
خمسة من
أبرز مسئولي السلطة ووزراء في الحكومة الفلسطينية..!!
أحد أعضاء المجلس
التشريعي للسلطة الفلسطينية علق علي التقرير بقوله: "إنه لم يفاجأ
بالتجاوزات التي
تضُمنـُها، وأن ما ورد في التقرير ليس كل شيء وأن هناك أسرارًا مخفية لم
تعرف بعد،
ويسأل:
ماذا نتوقع من سلطة فيها تسيب إداري ومالي وأمني؟".
فهذا النوع لا
يفرز إلا فسادًا وأنواعـًا مختلفـًا من التسيب..!!
وطالبت الفصائل الفلسطينية
باستقالة ومحاكمة من قالت أنهم نهبوا مال الشعب ومصادرة الأرصدة والشركات
الخاصة
بهم وإحالة المتلاعبين بأموال وقوت الشعب إلي المحاكم بصورة فورية.
ولم تتم إلي
اليوم محاكمة أو إقالة أي من المتهمين الرئيسيين بالفساد، وحاولت السلطة
تبرير بعض
أشكال التجاوزات التي ذكرها التقرير، وتم تشكيل وزارة فلسطينية جديدة وبقي
الوزراء
المتهمون بالفساد فيها دون أي محاسبة أو سؤال..!! وبذلك انطوى التقرير
وانطوت معه
"هيئة
الرقابة الفلسطينية إلى الأبد".!
وبعد مرور أكثر من ستة أعوام على
التعهدات بتحويل مناطق السلطة إلى "سنغافورة جديدة" أصبحت هذه المناطق
"صومال
جديدة" ولكن ينقصها الاقتتال الداخلي، فالفلسطينيون يقبعون داخل سجن الحكم
الذاتي،
محاصرين بالجوع والفقر والقمع وتهديدات إسرائيلية بإعادة احتلالهم واتفاقات
قضت على
كل أمل لهم بالحركة خارج هذا السجن..!!
إلى أن جاءت انتفاضة الأقصى لتكون القشة
التي أنقذت الفاسدين والمفسدين ومخاتير السلطة.!
ولم "يستغل" مخاتير السلطة
الفرصة التي جاءتهم على طبق من دماء شعبهم بالعودة إلى هذا الشعب الذي كابد
وعانى
من استهتارهم بالدم والقيم والأخلاق الفلسطينية، بل استمرأوا قهر وإذلال
وتغييب هذا
الشعب في مهازل يندى لها جبين تاريخ شعبنا المشرق.!
ويبقى عزاؤنا وعزاء كل
فلسطيني وعربي بأن أرض فلسطين... أرض الشهداء الذين سقطوا جيلا بعد جيل منذ
بداية
القرن... أرض أطفال الانتفاضة الذين واجهوا الدبابات الإسرائيلية بصدورهم
العارية،
هذه الأرض التي تجسدت بالمرأة الفلسطينية التي تستقبل أبنائها الشهداء
بالزغاريد
معلنة اعتزازها وفخرها بأبنائها... هذه الأرض التي لن ترض أن تداس كرامة
أبنائها من
شرذمة قليلة استهانت بالدم والمقدسات الفلسطينية
|