هل حلّ السلطة الفلسطينية خروج
من المأزق؟
*د.
أنيس فوزي قاسم
20/4/2006
كتب الأخ الدكتور فايز رشيد مقالاً جريئاً علي جزءين في القدس العربي
(31/3 و 1 ـ 2/4/2006) بعنوان من أجل الخروج من المأزق لا بدّ من حلّ
السلطة الفلسطينية . وقد طرحت فكرة حلّ السلطة مؤخراً علي استحياء في
أوساط قيادات حركة فتح، كما تناول الفكرة بعض الكتاب المهتمين بالشأن
الفلسطيني.
لا شك أن أكبر مصيبة حلّت بالفلسطينيين، أرضاً وشعباً وقضية، هي ما يسمي
باتفاقيات أوسلو. وإذا أجرينا مقاربة بين هذه الاتفاقيات وما سبقها من
وثائق تتعلق بالقضية الفلسطينية وجدنا الفروقات المجحفة التي لحقت
بالفلسطينيين. إن إعلان بلفور، علي سخافته، قد أورد بنداً مهماً وواضحاً
بالنسبة للفلسطينيين من أن قيام وطن قومي يهودي سوف لن يمس بحقوقهم
المدنية والدينية. وجاء صك الانتداب، وعلي سياقه الاستعماري، أفضل
للفلسطينيين من اتفاقيات أوسلو، ذلك أنه نصّ علي العهدة المقدسة الملقاة
علي عاتق سلطة الانتداب في تحقيق الاستقلال للأقطار الواقعة تحت
الانتداب، كما نصّ علي عدم جواز التمييز العنصري علي أساس الأصل أو الدين
مما يقوّض أسس المشروع الاستيطاني اليهودي. ثم جاءت توصية هيئة الأمم
المتحدة في العام 1947 بتقسيم فلسطين. وهي توصية، برغم عدم مشروعيتها بل
ووقاحتها، إلاّ أنها أقرّت حق الفلسطينيين في إقامة دولة في جزء من
فلسطين، وحددت معالم تلك الدولة في خرائط مفصلة ألحقت بالمشروع. وجاء
القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن في العام 1967 في سياق هزيمة عربية
كاسحة، إلاّ أنه لم يقفز علي مسائل أساسية مثل قضية اللاجئين وعدم جواز
اكتساب الأرض بالقوة. في كل هذه الوثائق الأساسية، التي ربما تكون أهم
المحطات في مسار القضية الفلسطينية، وبرغم سوءتها والظروف السيئة التي
صدرت فيها وغياب العنصر الفلسطيني المؤثر فيها، ظلّ للفلسطينيين فيها بعض
الحقوق المحددة والواضحة وإن كانت منقوصة.
أما اتفاقيات أوسلو، وهي التي فاوضها ووقعها ممثلون رسميون للشعب
الفلسطيني، وهي التي خلقت السلطة الفلسطينية، فقد هبطت بالفلسطينيين إلي
مجرد مقاول من الباطن للاحتلال الإسرائيلي . ذلك أن هذه الاتفاقيات نقلت
عبء الاحتلال من كاهل اسرائيل إلي كاهل السلطة الفلسطينية، وحررت اسرائيل
من القيود التي كانت تفرض عليها كسلطة احتلال، أي أن اسرائيل ـ في أسوأ
الفروض ـ أصبحت سلطة احتلال ولكن بموافقة الفلسطينيين. إلاّ أن تلك
الاتفاقيات لم تعط الفلسطينيين أياً من حقوقهم الأساسية سوي إنشاء سلطة
فلسطينية (ونصّت الاتفاقيات علي عدم جواز تسميتها بالسلطة الوطنية
الفلسطينية، ولا يجوز تسمية رئيسها بالرئيس). ولإيضاح ذلك يمكن الإشارة
إلي صلاحيات المحاكم الفلسطينية قبل وبعد هذه الاتفاقيات. لقد كانت
للمحاكم الفلسطينية قبل مرحلة أوسلو صلاحية النظر في قضايا مدنية يقيمها
فلسطينيون ضد إسرائيليين بما فيهم المستوطنون ـ هذا مع العلم أن الاحتلال
قد قلّص إلي حدٍ بعيد سلطات تلك المحاكم. أما بعد اتفاقيات أوسلو، فقد
منع علي المحاكم الفلسطينية النظر في أي دعوي تقام ضد إسرائيلي، أي أن
صلاحيات المحاكم الفلسطينية انحسرت في ظل السلطة الفلسطينية.
ثم اكتشفنا أن المفاوض الفلسطيني قد اتفق سرّاً مع المفاوض الإسرائيلي
علي عدم البحث في مسألة السيادة علي الأراضي المحتلة وعلي عدم وصف
إسرائيل بدولة احتلال. والشكر في كشف هذه الأسرار يعود للسيدة مادلين
أولبرايت، والتي كانت آنئذٍ المندوب الأمريكي الدائم لدي هيئة الأمم
المتحدة، وذلك أثناء مناقشة مجزرة الخليل (مجزرة غولدشتاين) في مجلس
الأمن في شباط (فبراير) 1994. وقائمة الخطايا تطول لتصبح أطول مما قاله
مالك في الخمر!!!
ويبدو أن نشر الفساد وتوطينه قد كانا ضروريين لتنفيذ اتفاقيات أوسلو. إذ
منذ أن جرت الانتخابات التشريعية في العام 1996، وبدأت تشكل ملامح السلطة
الجديدة، بدأت أعراض الفساد تطفو بسرعة الحصبة الألمانية علي جسم السلطة.
فاتفاقية باريس، وهي الملحق الاقتصادي لاتفاقيات أوسلو، ظلّت سرّاً إلي
أن تكشفت عن ترتيب الوكالات التجارية لرموز السلطة، وبدأ تركيز اتخاذ
القرارات في بؤرة الرئاسة حيث أن السلطة القضائية والتشريعية قد أصابها
الشلل، برغم المشاكسات التي كان يظهرها بعض أعضاء المجلس التشريعي، ثم
أصبح تحالف رابين ـ بيريس ومدرستهما المدافع الأكبر عن نفقات ومصروفات
السلطة أمام مؤتمرات الدول المانحة، وكان شمعون بيريس يخاطب هذه الدول
ويحضها علي عدم مطالبة السلطة بالشفافية والمحاسبة لأنها ليست دولة
مستقرّة بعد، وانتشرت الأجهزة الأمنية وازداد عددها بلا مبرر إلاّ لتغطية
عمليات الفساد وشراء الذمم. وتمّ ضرب وإهانة وتهديد العناصر الوطنية التي
طالبت بالمحاسبة والشفافية ولجم تصرفات بعض الأجهزة الأمنية. لقد أصبح
الفساد هو السمة الأبرز في تصرفات السلطة الوليدة، بينما أصبحت التصرفات
النظيفة هي الاستثناء.
من هذه التطورات السيئة والاحباطات المتتالية، أصبحت إسرائيل طليقة اليد
في رسم سياستها وفرض تفسيراتها وازدادت غطرسة بعد أن كشف الوسيط الأمريكي
بصراحة أنه ليس وسيطاً شريفاً ـ كما كان يعتقد البعض ـ واسقط في يد
القيادة الفلسطينية التي حاولت أن تتمسك بما تبقي لها من أرصدة تاريخية
إلاّ أن الوقت داهمها وانتهت في مبني المقاطعة محاصرة بلا حول ولا نصير.
أي أن السلطة استنفدت مخزونها وبددت رصيدها وأحرقت سفنها وأصبح لا بديل
لها إلاّ الرحيل.
ومن هنا، فإن دعوة الأخ الدكتور فايز رشيد إلي رحيل السلطة جاءت في
سياقها الطبيعي، وأن نجاح حركة حماس في الانتخابات الأخيرة كان سببه
الرئيسي ـ وليس الوحيد ـ هو فساد السلطة. إلاّ أنه يجب التحذير من أن
الدعوة إلي رحيل السلطة ليس سببه نجاح حماس، بل إلي الضرورة التاريخية
التي فرضت علي القضية الفلسطينية بسبب إرهاصات اتفاقيات أوسلو والأذي
الشديد الذي ألحقته بالفلسطينيين.
ومع أن هناك قلة من النخب الفلسطينية قد نادت برحيل السلطة منذ العام
1997 بسبب انحدار مستوي القيادة وفشلها في بناء مؤسسات وطنية وانزياح
الأسرار عن اتفاقيات أوسلو ومساوئ تطبيقاتها العملية، إلاّ أن المرحلة
الحالية أوصلت القضية الفلسطينية إلي طريق مسدود، ولم يعد للسلطة من حول
أو قوة تبرر به وجودها. حتي أن الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل
الدولية في تموز (يوليو) 2004 لم يعطِ السلطة الطاقة لتحريك هذا الجسم
المترهل الذي نخره الفساد.
وبرغم اتفاقي مع الأخ الدكتور فايز رشيد في النتيجة التي توصل إليها من
أن حلّ السلطة سوف يعيد الصراع إلي المربع الأول إلاّ أنه يساورني الشك
حول اقتراح حلّ السلطة الفلسطينية في هذا الوقت بالذات. وسبب شكوكي هو
الحماس الذي تناقش فيه بعض القيادات ضرورة حلّ السلطة وهم من الذين
يتحملون نشر الفساد وتبريره. وأخشي أن ما تقصده هذه القيادات هو الهروب
من المساءلة والمحاسبة والتصريح بـ من أين لك هذا؟ . وربما يكون حلّ
السلطة ـ في تقدير هذه القيادات ـ هو أسهل الطرق وأقصرها لدفن ملف
الفساد، وعفا الله عما مضي.
إن هذه المخاوف تزداد وتكبر بعد أن شاهدنا ممارسات البعض في وضع العصي في
عجلات الحكومة الجديدة. إن هذه الممارسات هي افتئات علي خيار الشعب
الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة، سواء رغبنا في ذلك الخيار أم عارضناه.
ويقتضي الواجب الوطني احترام هذا الخيار لوضع السابقة الحميدة في تداول
السلطة (علي رغم محدودية هذا التداول)، إلاّ أن الدلائل تشير إلي أن أحد
أهم أعداء الحكومة الجديدة هم طبقة الفساد الذين يخشون أن يتوطد الأمر
للحكومة وهي التي جاءت علي حصان محاربة الفساد.
ومع أن رحيل السلطة أصبح مطلباً يتنامي، إلاّ أنه يجب التريّث إلي أن تتم
محاسبة طبقة الفساد التي أوقعت الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وتحت
مديونية كبيرة تتجاوز البليوني دولار.
*
محام مقيم في الأردن |