القيادة
الفلسطينية، بين الامس واليوم!
خالد بركات
كاتب
وناشط عربي يقيم في كندا
http://www.kanaanonline.org/articles/00643.pdf
كان
الفلاح الفلسطيني الثائر عام 1936 يتعثر بجدران القيادة الفلسطينية
التقليدية وأوهام الحاج امين الحسيني، رحمه الله . وكان هذا الفلاح الفقير
يصعد، مع عزالدين القسام ورفاقه الى جبال وتلال الوطن، بعضهم باع إسوارة
زوجتة او بقرة يتيمة ورثها عن جده، ليشتري بندقية وحفنة من رصاص صدئ.
لا بأس، المهم انهم كانوا يقاتلون ويدفعون في معركتهم تلك كل ما
يملكون وأكثر، والاهم من كل ذلك، انهم كانوا يعرفون لماذا تقوم المعارك في
وطنهم، ولماذا يقاتل الشعب ويجوع. ولم يكترثوا كثيرا لمنطق الاستعمار
البريطاني الذي هزم دولة الاتراك المريضة. كل ذلك كان يحدث، في حين تنام
قيادة الحزب الشيوعي "في العسل"، تدرس رأس المال وكتاب الدولة والثورة ( مع
الاعتذار لماركس ولينين ) وتتحدث عن شراكة النضال الطبقي بين العامل
الفلسطيني و"أخيه" اليهودي!
ولم تفهم .
أيهما الغيبي والسريالي والطوباوي، بربكم؟ الشيخ القسام،
المجاهد، أم حزب الطبقة العاملة واصحاب المنهج الجدلي والتاريخي؟ وما معنى
القائد ان لم يكن موقعه بين الناس؟ ومع المقاتلين؟
بالمقابل، كان هناك فلسطيني اخر، يذهب في الاتجاه النقيض للثورة،
يسافر الى بلاط الملوك في عمان أو لندن. وهناك، يمكنه ان يفاخر بقدرته
اللغوية وتحصيله العلمي، وهناك ايضا، يمازح وزراء الاستعمار ويتعشى في
القصر الملكي، يتحدث عن شكسبير واليوت وفرجينيا وولف، ثم يلتمس الغفران من
صاحب الجلالة ويطلب العطف والرحمة. كان "القائد" يذهب مؤقتا، ليعود وتحت
ابطه "إتفاق" جديد ووعد جديد ووهم جديد، سيقود بدوره الى هزيمة محققة، ذلك
لان المسؤول الفلسطيني المتوارث والتقليدي، ظل مأخوذاً ب (الحل) لا بمصائر
البشر، كي لا نقول (بالنصر) لا سمح الله.
لا يزال المسؤول الفلسطيني، حتى الان، يتحدث كثيراً عن الحل
والتسوية والسلام العادل والاتفاقيات الكثيرة. يندم ، في جلساته الخاصة،
لانه أضاع كل تلك الفرص التاريخية ولانه فوّت عليه قطار الحل في العام 48
والحل في 67 والحل في كامب ديفيد الاولى والحل في اي مكان! وكأن العدو
كان يعرض حلولا أصلا، لا شروطا واملاءات! ثم عاد القائد وفرض حله السحري،
واتفاقه المشوه في واشنطن وأوسلو، وبعد سبع سنوات، وصلت بنا الحافلة
الفلسطينية بقيادته، الى عنق الزجاجة الصهيونية، وهي ليس مجرد زجاجة عادية،
إنها مثلومة ومهندسة وتحصد اليوم رقاب الاطفال، وأحفاد من صعدوا الى
الجبال ثم صاروا لاجئين.
منذ بدايات القرن الماضي، تقريبا، والشعب الفلسطيني يحمل عبئ
قيادة مهزومة وزعامة تقليدية وطفيلية، وهي طبقة مهيمنة ومسيطرة في المجتمع
الفلسطيني (الافندية والبكوات وجماعة سنْ واكرّط ). ظل دورهذه الطبقة
الرئيس، حى الان، نشر ثقافة الهزيمة وخصي كل فعل ديموقراطي في فلسطين
المحتلة، قبل ان يرى النور طبعا. وبعد النكبة، إمتد ذلك الدورالمشبوه
ليطال الوطن والشتات معا. ولا غرابة، فالاسماء ذاتها والعائلات ذاتها
والمنطق ذاته. لم تتغير ولم تتبدل. أما الاسماء الجديدة ، الوافدة على
المشهد السياسي الفلسطيني المعاصر، فانها تظل اسماء طارئة ودخيلة وطفيلية (
شريك مضارب بالثورة ) "عادت" هي الاخرى الى الوطن مع ابو الخيزران الذي صار
ثوريا الان ويمكنه ان يوقع اتفاق أوسلو، وهو أحد صناع المأساة الفلسطينية
بامتياز.
"تعود" الطبقة الجديدة بعد ان ورثت " مشروع" م ت ف، واعتبرته
فعلاً مشروعها ومقدسها الوحيد، ملكيتها الخاصة، وبعد ان كدست في جيوبها
ثروة تقدر بحوالي (40 بليون دولار) على مدار العقود الاربع الماضية، هي
حصتها من دم الشتات الفلسطيني، ومن فائض الدم الفلسطيني المشتق من نفط
العرب ورساميل الشحذة، ومن ال 5% هي من تعب العمال الفلسطينيين في دول
الخليج التي تبلعها عتمة الصندوق القومي الفلسطيني....رحمه الله هو الآخر
!
لا فرق بين الامس واليوم... لم نتغير كثيرا.
كل فعل
فلسطيني مقاوم ، جماعي وأصيل، قاوم الاستعمار البريطاني و"هجرة" الاستيطان.
كل زفرة فلسطينية نبيلة ضد المشروع الصهيوني وأدواته، كل هبة جماهيرية تحت
أي عنوان، (الارض، الاسرى، العودة، الاستقلال،القدس…الخ ) سجلها التاريخ
الرسمي أو لم يفعل، كل إنتفاضة شعبية في فلسطين المحتلة، كل ثورة مسلحة
وغير مسلحة، في الوطن أو في الشتات، كل ظاهرة نبيلة – ديموقراطية في
تاريخنا الغابر، كل فكر نقدي طليق، أراد للفلسطيني التحرر والتقدم، كل
مؤسسة فلسطينية سعت لنوع من الاستقلالية، كل ريشة فلسطينية نمرودة وصادقة
وأصيلة ترفض ثقافة العسس وتقديس الزعيم ورفعه الى مرتبة الانبياء، كل قلم
لا يتلعثم ولا يرتبك، كل إمراة فلسطينية رفضت ان تبيع كرامتها للسماسرة، كل
هؤلاء، وغيرهم الكثير الكثير، كان يصطدم دائما، دائما، بجدار فلسطيني، قبل
ان يصل الى أي جدار اخر. بالمقابل لم يجد العدو امامه جدرانا فولاذية تتمرس
خلفها قيادة الفلسطيني...لذلك يعتذر ابو مازن للجميع ويستأسد على الشعب
وعلى المقاومة.
إنه نفس المنطق المثلوم. ألا يستحي؟
إلاّ أنّ الشعب الفلسطيني ليس عاقراً ..
فقد
حرص العدو الصهيوني على تخليص نفسه وتخليص المؤسسة الفلسطينية الرسمية،
بالمرّة، من عبء "مصادر الازعاج والتطرف في المنظمات" وقام بتصفية جسدية
منظمة ومدروسة لكل الاصوات النبيلة داخل وخارج صفوف الثورة الفلسطينية
ومنظمة التحرير. لا نقول بوجود اتفاقا مكتوبا بين الكيان الصهيوني وقيادة
المنظمة، لكنها كانت مصلحة ضمنية ومشتركة، توافق صامت، تواطئ من نوع ما،
إلتقاء مصالح، لا ادري، سمه ما شئت، لكن الاول يفيد الثاني والعكس صحيح
ايضا. وقد قرأ قادة الكيان الصهيوني خطر الثقافة المقاومة وخطر الدعوة
لممارسة النقد الثوري في الساحة الفلسطينية، والاحتكام الى الجماهير، بل
ونقول بصراحة اكثر، خاف العدو من خطر الخطاب الوطني العلماني والتقدمي
تحديدا، لذلك، عمل على تصفية الادباء والمثقفين الثوريين ولم يمس شيخا
تقليديا واحدا. قام العدو بتصفيتهم، لا لشخوصهم الكاريزمية فحسب، بل
للمبادئ التي لم يتخلوا عنها. وليست الصدفة المحضة ان يكون هؤلاء القادة
الابطال هم الاكثر جرأة على نقد الواقع الفلسطيني والعربي الردئ، وهي أسماء
كثيرة تصعب الاحاطة بها في مقالة واحدة من غسان كنفاني الى ناجي العلي،
وكمال عدوان، وماجد ابو شرار، وصولا الى حنا مقبل، ومن لم يقضي بصاروخ
صهيوني أو حزمة من المتفجرات، ركلته القيادة الى خارج المؤسسة وتآمرت عليه
أو اشترته ان كان يقبل بمنطق البيع والشراء. بسام ابو شريف وياسر عبد ربه
نماذج هالكة.
ينبغي ان يتم إقصاء كل من يطالب بحماية مشروع الثورة من امراض "
الزعامة " التقليدية ونهج التفرد، ويجب أن يتم إقصاء كل من يدعو لصون القيم
الانسانية والديموقراطية في الثورة، كل من يدعو لثقافة المحاسبة والشفافية
والديموقراطية داخل التنظيم، وداخل المؤسسة الفلسطينية الرسمية، وكل من
يجهر بمواقف مشروعة تهدف الى إصلاح بنية المشروع الوطني الفلسطيني وتطوير م
ت ف ومؤسساتها. أصبح هؤلاء، تلقائيا، خصما وعدوا لدودا للقيادة الفلسطينية
ولطبقة الفساد في ان واحد.
وإلا ما
معنى الشراكة في دم ناجي العلي؟ ما معنى تدمير مراكز الابحاث والدراسات
الفلسطينية في بيروت وعمان ودمشق وقبرص؟ اسرائيل تقصفها من الخارج ونهج
القيادة يخرّ فيها من الداخل، ويطرد كل فكر حر وطليق .اليست هذه سياسة
شراكة وتعاون؟ قبل أوسلو، وقبل سلطة الحطام في غزة وأريحا، حيث يصير
التعاون علنيا، وقبل ان يتحول السيد محمود عباس من "منظر" الحركة الى
رئيسا لسلطة مخرومة؟
القيادة الفلسطينية التقليدية هي الذات الفلسطينية المعطوبة
والمخصية منذ ما قبل النكبة، ذات صغيرة، تلهث خلف مصالحها الضيقة وتحتضن
خليطاً من البشر والاشياء والرموز، يمكنك أن تعد معي: سماسرة ، تجار طحين
فاسد، باعة إسمنت لجدار العدو، مهربو مخدرات وأسلحة وفياغرا، بقايا إقطاع،
بوق للفساد، هياكل تعلك المنطق والتبن وتجتره يوميا ذوات تحتفي بالموت
وتحفل بالظلام .
لكن المسؤول الفلسطيني "الجديد"، إزداد صلفاً الان، وصار بامكانه
ان شاء، وصف المقاومة الفلسطينية بلعنة الارهاب. يتطاول على كل من يقرع
جدران الخزان ويدعو الناس لمحاسبة من أوصل قاربهم الى بطن الجوع والتيه.
وقد شاهد الفقراء، خاصة في الوطن، كيف ان المسؤول الفلسطيني لم يبني غير
كازينو للقمار ولم يرث في مدينة اريحا العريقة غير سجن، يمكنه ان يكون
مفيدا ضد من لا يقبل
(
الحل)، وهو السجن (الذي تؤجره السلطة بالمناسبة) لمن كان اجدادهم يعلقون
اجدادنا على أعواد المقاصل في سجن عكا. نعم، السلطة الفلسطينية وهي تقوم
بكل ذلك مخلصة لدورها المرسوم: يدٌ أمنية للعدو، ومشروع لا وطني لتخريب
المجتمع الفلسطيني وإفساده بالكامل. قيادة فلسطينية تتناتج منذ عقود،
تتناسخ، لكنها في جوهرها تظل صغيرة، وتظل طبقة قابلة للهزيمة دائما.
______
|