قراءة من خارج النص في فك الارتباط
أ.د يوسف موسى
رزقة
تتصف الدراسات
السياسية التي تعتمد النص والأرقام بالدقة الموضوعية غالباً ، غير أنه في
الوقت نفسه تأتي مجردة خالية من الروح والعاطفة، لاسيما عند الإغراق في
المنهج الرياضي الذي يعتمد التجريد العقلي ، لذا نقول : إن قراءة متكاملة
في ملف خطة فك الارتباط أحادي الجانب يقتضي منهجاً يزاوج بين الأرقام
ودقتها من ناحية وبين الروح ومقتضياتها من ناحية أخرى ، أو قل بين ما هو
داخل حدث الانسحاب وما هو خارجه .
لقد نظرنا إلى
( فك الارتباط ) في مقالات سابقة نظرة رياضية من داخل الحدث فقرأنا فيه
جوانب خفية مخيفة أسكنها شارون فيه بدهاء وهي في مجموعها تتجه نحو:( نفي
الشريك الفلسطيني، والهجوم على القدس والضفة الغربية، وعلى المقاومة
والانتفاضة ، إنه يسحب المستوطن والجندي من غزة ويبقي الاحتلال، إنه ينهي
مسئولية الاحتلال القانونية ويدمر المرجعيات الدولية والقرارات الشرعية ذات
الصلة ، وينتج مرجعية( شارونية ) بديلة تمنع العودة إلي حدود 1967م .
واليوم
الاثنين 16/8/2005م وقد بدأت الفضائيات تبث مناظر لعملية إخلاء المستوطنات
أجد نفسي في حاجة إلي قراءة أخرى خارج الحدث والأرقام ، أو لنقل قراءة خارج
النص الذي عنون له شارون بفك الارتباط على قاعدة : إنه إذا كان التعامل مع
النص مهماً ، فإن ما يقع خارج النص على أرض الواقع يعد مهماً أيضاً ، وقد
يملك قدرة على توجيه النص وتفسيره . ( وقد تفوق الإسرائيليون في توجيه
قراءة النصوص من خلال ما يستحدثون من وقائع على الأرض منذ اتفاق أوسلو وإلى
اليوم ، بل ربما منذ القرار 242 وحتى اليوم ) .
إن قراءة خارج
نص وثيقة فك الارتباط قد لا تروق لبعض الخبراء والباحثين ، وهم محقون
أحياناً ، غير أننا ( واقعياً – وفلسطينياً ) في حاجة إلى هذه القراءة ،
لأن النص كتبه طرف واحد هو شارون ، ولأننا في حاجة إلي أن نبارك آمالنا وأن
نحيا بأرواحنا ومشاعرنا ، تماماً كما نحيا بعقولنا وأفكارنا .
إن هذه
القراءة تبارك من يسمي فك الارتباط انسحاباً وإن كان هو دون ذلك ، وتبارك
فرحة الشعب بإخلاء المستوطنات وإن جاء الإخلاء من باب إدارة الأزمة لا من
باب إنهائها ؛ نبارك ( اللحظة الراهنة ) وإن كانت كراسة إدارة الأزمة
والإخلاء مليئة بالشروط الإسرائيلية المجحفة بالمستقبل الفلسطيني
والجغرافيا الفلسطينية ، لأن اللحظة الراهنة في عرف المحتفلين بالانسحاب هي
أقوى من الشروط ولو إلي حين .
إن ما يحدث
اليوم 16/8/2005م في غزة ليس عادياً ، إنه خطوة في نظر كثيرين باتجاه (
إزالة الاحتلال ، وتقرير المصير ، والسيادة ، والدولة ، والعودة ) وإن ما
يحدث قد تتضافرت في إنتاجه أسباب عديدة لسنا في حاجة إلى بيانها وتفصيلها
لأن ما يهمنا منها هنا أنها أنتجت نص الانسحاب رغم أنف شارون واليمين
الاستيطاني المتطرف .
إن قراءة
عميقة من خارج النص تقول إن الخروج الصهيوني من غزة – بغض النظر عن ماهيته
– هو خروج اضطراري فرضته المقاومة ، التي أفقدت المغتصبات مبررات ووجودها
ووظائفها ، وإنني حين أتذكر الاقتران الأمني والجغرافي الذي جمع منه شارون
بين (تل أبيب ومغتصبة نيتساريم) يوماً ـ أشعر أن ما يحدث اليوم من انسحاب
يمثل حالة من حالات انكفاء المشروع الصهيوني نحو المركز ، ( أعني نحو تل
أبيب ) ، قد أكون متفائلاً ولا أجد عيباً في ذلك حين تحقق الانتفاضة
والمقاومة إنجازاً لم يحققه أوسلو، ولا سنوات المفاوضات العبثية .
إن عودة يابسة
غزة إلى أهلها يمثل هزيمة للروح الاستيطانية التوراتية والصهيونية التي
تسكن المشروع الصهيوني منذ قيام الدولة ، وهو في نظرنا يجب أن يكون بداية
عمل جاد يهدف إلي امتلاك السيادة على الجو والبحر والمعابر ، ويهدف إلي
تحرير وضع قانوني يلائم عدالة الحق الفلسطيني . إن قراءة من خارج النص
والأرقام تقول إن ما يحدث في غزة يبشر بأحداث مماثلة – لا محالة – في الضفة
والقدس ، وإن غزة تقدم النموذج الذي ينبغي أن يحدث في القدس والضفة ، وإننا
لسنا في حاجة إلي الانتظار مدة طويلة ، عقداً من الزمن أو أكثر ، لأن لذة
التحرير ستختصر الزمن بإذن الله ، ولن تجدي تصريحات شارون بأنه لا انسحاب
بعد غزة أبد الآبدين ؟!
إن قراءة ما
هو خارج النص تقول إن فك الارتباط ، وإن كان أحادي الجانب ، ودون الانسحاب
قانوناً وواقعاً ، فإنه يمثل مفردة من سلسلة من المفردات التي تكون سياقاً
عاماً يوحي ببدايات انكسار المشروع اليهودي الصهيوني التوراتي الذي نشأ
هجومياً استيطانياً منذ عام 1948م وحتى الآن.
إن مفردات هذا
السياق التي تبشر بتراجع المشروع الصهيوني يمكن الإشارة إليها باختصار فيما
يعرف بانتهاء مقولة ( الوطن البديل ) ، ومقولة ( الترانسقير ) ، وفشل مقولة
( غياب الشعب الفلسطيني ) ، ثم ( الشريك الفلسطيني ) ، في الوقت الذي تحرر
فيه الشعب الفلسطيني من حالة العجز الوطني بعد أن قهرت الانتفاضة الخوف
والانتظار ، ونقلت الصراع إلي مناطق الضعف في المجتمع الصهيوني فذهب الأمن
وذهبت الرفاهية ولو جزئياً كما يفهم من المقالات التي تتحدث بتشاؤم عن
مستقبل الدولة العبرية ، ومن ثم حدثت هجرة مضادة تبحث عن الأمن والرفاهية ،
وقل عدد الراغبين بالقدوم إلي إسرائيل ، وما رحلة شارون الأخيرة إلي فرنسا
إلا محاولة لمعالجه فشل استقدام مهاجرين جدد ؟!
إن جدار الفصل
العنصري مثلاً الذي يلتهم الأرض الفلسطينية والحقوق الفلسطينية ، ويثير من
الآلام ما لا يمكن عدها وحصرها ، يبدو في قراءة من خارج النص مفردة من
مفردات حالة الانكسار والانكفاء التي يعاني منها المشروع الصهيوني اليوم
بعد أن اكتشف الشعب الفلسطيني قدراته الكامنة في انتفاضة الأقصى ، إذ به
انتقل المشروع الصهيوني من حالة الهجوم خارج القلعة، إلى حالة الاحتماء
بالقلعة والجدران، في الوقت الذي تَقدم فيه الفعل الفلسطيني في الانتفاضة
إلي دائرة الهجوم والمبادأة ، أو قل لقد عاد الفعل الصهيوني على الأرض إلى
مفهوم (الجيتو) العنصري الذي كان موضع نقد وسخرية من العالم .
نعم إن ما هو
داخل نص فك الارتباط معتم ، ولكن ما هو خارجه على أرض الواقع في غزة مفعم
بروح الضياء والأمل ، ومعلوم أن الأمل يولد العمل ، وأن الضياء ينير طريق
السالكين نحو القدس والضفة الغربية ، وأحسب أن اليوم التالي لانتهاء
الانسحاب سيبدأ فيه العد التنازلي للاستيطان في الضفة الغربية رغم أنف
الاحتلال ، وهذا يحتاج بعد التوكل على الله إصلاح الواقع الفلسطيني وبناء
حياة الفلسطينيين على أسس جديدة ، لا لأننا نخضع لمرحلة تجريب يراقبها
العالم ، بل لأننا نستحق حياة قائمة على الحب والشراكة تكافئ دماء الشهداء
وعذابات الجرحى والأسرى .ولأننا في حاجة وطنية إلى انتفاضة ثالثة
|