حول إشكالية منظمة التحرير والحل المطلوب
بقلم: أ. عماد صلاح الدين
مما لا شك فيه أن الشعب الفلسطيني يحتاج على وجه الدوام وإلى أن تتحقق
حقوقه الوطنية المشروعة إلى إطار قانوني وسياسي جامع له، بحيث يشمل
الفلسطينيين سواء من كان منهم في الداخل أو الخارج أو في الشتات على وجه
العموم.
وهذا الإطار أو الكيان القانوني والسياسي الجامع للشعب الفلسطيني في كافة
أماكن تواجده وبمختلف فئاته وأطيافه السياسية والحزبية والاجتماعية، هو
بمثابة الوطن المعنوي والروح والضمير والعقل المفكر والعامل لمصلحة الشعب
الفلسطيني وذلك على أسس من المفترض بل من المطلوب وطنياً وأخلاقياً
وقومياً أيضاً أن تكون قواعدها الديمقراطية والثوابت الفلسطينية المعروفة
والتي تتفق مع مصلحة الشعب الفلسطيني وطموحاته بالتحرر والاستقلال وإقامة
الدولة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين والنازحين على وجه التأكيد.
ومنذ أن أنشأت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 والتي تولى رئاستها في
تلك الفترة أحمد الشقيري ثم يحيى حمودة تعرضت إلى انتقادات لاذعة من قبل
حركة فتح وبالتحديد تلك الانتقادات والاعتراضات التي وجهت مباشرة إلى
رئيسها أحمد الشقيري إلى حد الطعن بشخصه وأقواله وأفعاله، والتشكيك بمدى
مصداقيته الوطنية، حتى إن حركة فتح وزعت مذكرات أو بيانات عام 1967 على
القمة العربية التي كانت تضم وزراء الخارجية العرب في الجزائر تطعن بأحمد
الشقيري والمنظمة التي يترأسها بادعاء أنها لا تعمل وفقاً للرؤية
والمصلحة الوطنية لشعب الفلسطيني، وأن الحل الأمثل للقضية الفلسطينية هو
انتهاج خط الكفاح المسلح كخيار وحيد وأوحد للشعب الفلسطيني.
استطاعت حركة فتح إثر هزيمة حزيران سنة 1967 وشعبيتها المتزايدة في تلك
الفترة لانتهاجها سبيل العمل العسكري والكفاح المسلح أن تتولى قيادة
منظمة التحرير الفلسطينية، ومنذ أن تولت حركة فتح قيادة المنظمة عملت على
تغيير البعد القومي للمنظمة ولميثاقها، فبدلاً من الميثاق القومي والأس
القومي للقضية الفلسطينية جعلت حركة فتح البعد الوطني والميثاق الوطني
مرتكزين أساسيين للقضية الفلسطينية، وإن أراد المرء فهماً لهذا التحول
والتغيير في ميثاق المنظمة وبناء على فهم طبيعة الصراع العربي-
الإسرائيلي للقضية الفلسطينية بارتباط عملية خلق وإيجاد الكيان الصهيوني
في فلسطين بتحقيق مصالح الاستعمار الكولونيالي الغربي في المنطقة العربية
برمتها، إذ إن فلسطين تعتبر نقطة الارتكاز الرئيسية وقلب التناقض الرئيسي
في تحقيق التجزئة للوطن العربي والأمة العربية، ففلسطين من الناحية
الجغرافية هي النقطة التي تربط المشرق العربي بالمغرب العربي، يجد أن سبب
هذا التغيير والتحويل والتبديل الكلي لميثاق المنظمة من بعده القومي إلى
البعد الوطني أن قيادة المنظمة بزعامة فتح كانت تريد الاستفراد
والاستئثار بالمنظمة، وبالتالي إقصاء أو على الأقل تهميش المنظمات
الفلسطينية الأخرى فيما يتعلق بدورها باتخاذ قرارات العمل والفعل على
الساحة الفلسطينية ومن هنا، وبسبب هذا التوجه والطموح الذي أرادته حركة
فتح باستئثار واستفراد قيادة منظمة التحرير وما ينبني على ذلك وينتج عنه
من استئثار واستفراد كذلك باتخاذ القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية
سواء ما كان منها مصيرياً ومهماً ومفصلياً أو ما كان منها غير ذلك، بدأت
مأساة تراجع القضية الفلسطينية وتغييب المنطلق الأساسي والدور الرئيسي
الذي قامت من أجله منظمة التحرير.
إن المنطلق الأساسي والدور الرئيسي لمنظمة التحرير باعتبارها حركة تحرر
وطني لجميع الفلسطينيين في الداخل والشتات يعني -ولا شك- أنها تقوم على
أساس من الثوابت الوطنية الفلسطينية في التحرر والاستقلال وبالتالي دحر
الاحتلال وبالانسجام والتوافق مع البعد العربي والإسلامي للقضية
الفلسطينية، إذ أن طرفي التناقض الرئيسي في الصراع هما الأمة العربية
ومصالحها الوطنية والقومية من جهة والاستعمار الغربي وعلى رأسه الولايات
المتحدة من جهة أخرى وأن قلبي ومحوري هذين التناقضين الرئيسيين هما الشعب
الفلسطيني ومصالحه وأهدافه الوطنية من جهة والكيان الصهيوني المزروع بقوة
المال والسلاح الغربي من جهة أخرى.
لكن حركة فتح ولكونها المسيطرة والمستأثرة بمنظمة التحرير لأسباب لا
تنطلق - في الأساس- من أسس ديمقراطية منذ سيطرتها على المنظمة وإنما
لأسباب أخرى أشرت إليها آنفاً قامت بنقل القضية الفلسطينية من تراجع إلى
آخر أسوأ منه وهكذا دواليك، وكل ذلك يرجع بسبب ذلك الاستفراد والاستئثار
الحركي الذي ما يلبث حتى يتحول وينقلب إلى استئثار واستفراد شخصي على
مستوى قيادة الحركة نفسها أو بالأحرى على مستوى القائد الرمز كما هو
الحال مع الراحل ياسر عرفات، وبالتالي ما ينتج عن ذلك من عملية شخصنة
وفردنة للمنظمة بقضها وقضيضها وما يؤدي إليه ذلك من مآسي تاريخية بحق
الشعب والقضية ليس يزيلها إلا المزيد من الدماء والتضحيات الجسام.
فبفعل ذلك الاستفراد والإقصاء والتهميش للآخرين أصاب القضية الفلسطينية
ما يسمى "بالتراجع التدريجي لأسسها وثوابتها" فمن البعد القومي للقضية
نقلتنا قيادة المنظمة إلى البعد الوطني باعتبار أن القضية الفلسطينية هي
قضية تخص الفلسطينيين بالمقام الأول مع التمسك بتحرير فلسطين من بحرها
إلى نهرها، ثم تتطور الموقف بالتراجع نحو ما كان يسمى ببرنامج النقاط
العشر لسنة 1974 ثم بداية الموافقة على مشروع السلام المفضي إلى حكم ذاتي
وإداري للفلسطينيين بطريقة غير مباشرة حينما زار الرئيس ياسر عرفات مصر
عام 1983 رغم المقاطعة العربية لمصر بسبب إقدامها على عقد اتفاق كامب
ديفيد مع "إسرائيل" سنة 1979، رغم قرارات المجلس الوطني الفلسطيني
المتعلقة بقطع العلاقات مع النظام المصري في تلك الفترة، ثم بعد ذلك
تتطور الموقف نحو التراجع حينما أعلن ياسر عرفات عن نبذه الإرهاب في
القاهرة 1985 إلا أن وافق على الشروط والمطالب الأمريكية في مؤتمر
الجزائر سنة 1988 وفي وثيقة إعلان الاستقلال، وهذه الشروط والمطالب
الأمريكية تمثلت بالاعتراف بـ"إسرائيل" وبالقرارين 242 338 ونبذ الإرهاب
إلى أن توج الأمر باتفاقات السلام المهينة والمذلة بحق الشعب الفلسطيني
وقضيته العادلة وما ترتب عليه من تعديل بنود الميثاق الوطني وكل ذلك كان
باسم منظمة التحرير الفلسطينية التي تم إضعافها لصالح مشروع الحكم الذاتي
المحدود والمقطع الأوصال بجغرافيته وديمغرافيته.
لقد اتفقت الفصائل الفلسطينية وتوافقت جميعاً في حوار القاهرة على ثلاثة
أمور رئيسية وهي التهدئة والانتخابات وإصلاح المنظمة وتفعيلها تمهيداً
لمشاركة ودخول جميع الفصائل تحت مظلتها باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد
للشعب الفلسطيني وقد أوكلت مهمة هذا الإصلاح والتفعيل إلى اللجنة
التنفيذية في المنظمة عبر إيجاد الآليات اللازمة لذلك وذلك تلافياً لأية
مشكلة يمكن أن تظهر نتيجة المشاركة في الانتخابات وما يترتب عليها من
قضية تشكيل الحكومة، فلماذا لم تباشر اللجنة التنفيذية بالمهمة التي
أوكلت إليها؟!! ولماذا يطالب الآن أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير
وعلى رأسهم حركة فتح بجعل المنظمة ضمن وضعها القائم الممثل الشرعي
والوحيد للشعب الفلسطيني بعدما جرى إضعافها وتهميشها وتحميلها بما لا
تحتمل من تنازلات وتراجعات لصالح الحصول على سلطة الحكم الذاتي المحدود
الذي لا يعبر عن أدنى حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة ؟!! أم أن المطالبة
تأتي الآن لأن حركة حماس فازت بالانتخابات وبالتالي فهي بصدد تشكيل
حكومتها وإعطاء شرعية الموافقة والثقة عليها؟!!. أم أن الأمر توريط لحماس
بالاعتراف بـ"إسرائيل" كما اعترف بها غيرها وذلك عبر الاعتراف بمنظمة
التحرير التي باسمها تم الاعتراف بـ"إسرائيل"؟!!
إن منظمة التحرير بوضعها القائم حالياً ومنذ سنوات لا يمكن لها أن تكون
الإطار السياسي والقانوني الجامع للشعب الفلسطيني وذلك للأسباب التالية:-
1- إن منظمة التحرير الفلسطينية ومنذ تسلم قيادتها من قبل حركة فتح سنة
1967 لم تكن قضية قيادتها هذه والسيطرة عليها ناتجة عن عملية ديمقراطية
بالمعنى الصحيح، ولكن جاءت هذه القيادة للمنظمة كنتيجة لدور حركة فتح في
تبنيها وقيامها بالكفاح المسلح باعتباره خياراً وحيداً واستراتيجياً
لتحرير الأرض الفلسطينية بحدودها التاريخية من البحر إلى النهر وجاءت هذه
القيادة لفتح- أيضاً- نتيجة لهزيمة العرب ومصر في حزيران سنة 1967 وما
تبع ذلك من قضية شك وعدم تعويل إلى حد ما على الأنظمة الرسمية في تحرير
فلسطين.
2- لم تظهر أصوات للاعتراض على منظمة التحرير الفلسطينية بكونها الممثل
الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني منذ تولي حركة فتح زمام القيادة لها مع
نهاية ستينيات القرن الماضي وحتى سبعينياته وثمانينياته، لكون أن قيادة
منظمة التحرير وعلى رأسها حركة فتح كانت لا زالت ولو بشكل نظري وشعاراتي
تتمسك بالثوابت الوطنية والأسس الفلسطينية الجامعة للشعب الفلسطيني في
الداخل والخارج والشتات وإن لم تأت هذه القيادة نتيجة لعملية ديمقراطية
حقيقية يتم فيها تمثيل الشعب الفلسطيني تمثيلاً متوازناً من ناحية
الاتجاهات والتوجهات السياسية والحزبية بحيث يكون لكل حزب أو فصيل تمثيله
الحقيقي في المنظمة بحسب حجمه وواقعه السياسي والحزبي في الشارع
الفلسطيني سواء في الداخل أو الخارج أو حتى في الشتات، وهذا الأمر أي
"عدم وجود الأساس الديمقراطي لفرز قيادة منظمة التحرير" أدى - ولا شك-
إلى إضعاف وتهميش فصائل ومنظمات فلسطينية أخرى وعلى رأسها اليسار
الفلسطيني.
3 – لكن قيادة المنظمة وعلى رأسها حركة فتح أضعفت الدور التمثيلي للشعب
الفلسطيني في كافة أماكن تواجده عبر سلسلة من الإجراءات وما تلاها من
اتفاقات أدت بالتالي إلى تقسيم الشعب الفلسطيني وتجزيئه ما بين فلسطينيي
الداخل وفلسطينيي الخارج، وحتى فلسطينيي الداخل لم يسلموا من ذلك حينما
جعلت شريحتين كبيرتين منهم ما بيم مؤيد ومعارض لتلك الاتفاقات التي عقدت
مع "إسرائيل"، فاتفاق "أوسلو" على سبيل المثال بل عملية السلام
الفلسطينية الإسرائيلية برمتها كانت مرجعيتها قرارات لا يمكن أن تكون
المرجع الحقيقي لوحدة الشعب الفلسطيني بكافة فئاته وشرائحه وتوجهاته
وأماكن تواجده، فمرجعية عملية السلام كانت القرارين 242، 338، وهذان
القراران كما هما معروفان غامضان إلى درجة كبيرة يتم التحدث فيهما عن دول
صاحبة سيادة وليس عن شعب فلسطيني له حقوق بالتحرر والاستقلال، أضف إلى
ذلك أن هذين القرارين وبالتحديد 242 لا يحدد من هو اللاجئ، فهل هو اللاجئ
اليهودي الذي كان موجوداً في الدول العربية حسب الزعم الإسرائيلي ومن
ورائه الأمريكي، أم أنه اللاجئ الفلسطيني، فالأمر بهذا بين أخذ ورد؟!!.
لذلك فإنني أرى أن منظمة التحرير بوصفها الحالي والقائم لا يمكن بأي حال
من الأحوال أن تكون ممثلة شرعية ووحيدة للشعب الفلسطيني نظراً لحجم
التنازلات والتراجعات التي ارتكبت واتخذت باسمها وتحت مظلة شرعيتها،
وبالتحديد التنازلات التي مست قضية اللاجئين الفلسطينيين، ولا أريد أن
أدخل هنا في توضيح وتفصيل تلك التنازلات التي مست قضية اللاجئين في
جوهرها عبر الاتفاقات التي عقدت مع "إسرائيل" باسم المنظمة والسلطة
بقيادة حركة فتح وما تمخض عن تلك الاتفاقات من برامج جرى محاولة تطبيقها
وتنفيذها على أرض الواقع من أجل العمل على حل قضية اللاجئين بالاستناد
إلى تأهيلهم وإعادة توطينهم في أماكن تواجدهم وليس أدل على ذلك من
"برنامج تنفيذ السلام" الذي كانت ترعاه أطراف دولية وإسرائيلية وفلسطينية
وشاركت فيه "الأونروا" نفسها في أواسط تسعينيات القرن الماضي.
4 – إن منظمة التحرير الفلسطينية بوضعها القائم تفتقد إلى الأسس
الديمقراطية وقاعدة الثوابت الوطنية التي تتفق وتنسجم ومصالح الشعب
الفلسطيني، فهياكل وأطر منظمة التحرير من مجلس وطني ومركزي ولجنة تنفيذية
لم يجر تجديدها وانتخابها منذ عشر سنوات، فأعضاء المجلس الوطني كما يعرف
الكثير كانت عملية تعيينهم تتم بشكل مزاجي وبما يتفق مع مصالح قيادة
منظمة التحرير وأقصد هنا على وجه التحديد قيادة حركة فتح والمجلس الوطني
هذا- أيضاً – المعروف بأنه لم يكن ليحترم القرارات والمقررات الصادرة
عنه، بل إنه كان يستخدم كدمغة ديمقراطية لإسباغ الشرعية على أخطاء
وتنازات وتراجعات القيادة الفلسطينية السابقة بخصوص القضية الفلسطينية
وثوابتها الوطنية. وليس أدل على ذلك تهافت أعضاء المجلس الوطني من كل حدب
وصوب على قطاع غزة عام 1996 لتعديل الميثاق الوطني وشطب الثوابت الوطنية
الفلسطينية وذلك بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلنتون ومباركته حينذاك.
إن الحالة التي وصلت إليها منظمة التحرير عبر أخطاء وتنازلات وتراجعات
قيادتها سواء على صعيد تمثيلها السياسي والقانوني لجميع الشعب الفلسطيني
أو الفساد والترهل الذي أصاب أطرها وهياكلها حتى إن أعضاء المجلس الوطني
أصبح عددهم الآن أكثر من 800 عضو، وهذا العدد إن شئنا القول يفوق عدد
أعضاء الكرملين السوفياتي في أوقات عزه وقبل تفككه، لتستدعي وعلى الفور
الشروع بإصلاح منظمة التحرير وتفعيلها وإعادة الدور الطبيعي لها بتمثيل
الشعب الفلسطيني كل الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده وذلك عبر إيجاد
آليات وطرائق ووسائل قانونية وديمقراطية وحقيقية لتمثيل الشعب الفلسطيني
تمثيلاً عادلاً ومتوازناً عبر فصائله وأحزابه ومستقليه كل بحسب حجمه
الحقيقي والواقعي بين جماهير الشعب الفلسطيني في الداخل أو في الخارج أو
في الشتات من الجاليات الفلسطينية واستبعاد نظام" الكوتا " الظالم الذي
لا يعطي كل ذي حق حقه الطبيعي في التمثيل.
وعند ذاك مما ذكر سابقاً وعبر هذا الإصلاح الحقيقي والتفعيل الجاد لدور
منظمة التحرير من الممكن القول وبملء الفيه إن منظمة التحرير هي الممثل
الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، أما قبل ذلك، وبدون ذلك مما ذكر سابقاً،
لا يمكن أن نطلب أو نقول لحماس ولغير حماس ممن هو غير ممثل حتى هذه
اللحظة في منظمة التحرير: أن يقولوا ويعترفوا بمنظمة التحرير بأنها
المرجعية والشرعية الوحيدة للشعب الفلسطيني.
* كاتب وباحث في الشؤون القانونية والسياسية/ مؤسسة التضامن الدولي لحقوق
الإنسان
|