هل تتحول الفصائل الفلسطينية إلى أحزاب؟  

بقلم: رجب أبو سرية*

لا أحد يعلم بالضبط ماذا سيكون عليه حال قطاع غزة، بعد فك الارتباط الإسرائيلي معه، منذ نحو شهر، لا على الصعيد الداخلي، وما ستؤول إليه العلاقة بين السلطة والمعارضة، وان كانت ستنفجر وتندلع بالتالي حرب أهلية مدمرة, ولا على الصعيد الخارجي، وان كان القطاع سيتحول إلى سجن كبير، أم إلى "دولة" مستقلة، أم إلى شيء بين هذا وذاك، هذا فضلا عن كيف ستكون علاقته _ ليس السياسية الخارجية وحسب _ بل مع كل من الضفة الغربية، والفلسطينيين في الخارج.

مع هذا يبقى ما حدث في غزة فريدا من نوعه، ذلك انه لأول مرة في التاريخ الفلسطيني، تنشا منطقه جغرافية ذات سكان فلسطينيين خالصين، دون أن تكون تحت السيادة السياسية والقانونية لدولة أخرى، دولة احتلال كانت أو إدارة خارجية، تديرها عن بعد ودون إكراه، أو دون مطامع من أي نوع.

وبقدر ما يبدو القطاع حائرا، تبدو القوى السياسية فيه كذلك، فمثل هذا الوضع لم يكن عام 1994، حين أعاد الجيش الإسرائيلي انتشاره في غزة وأريحا، لكنه لم يقم لا بإخلاء مستوطنيه ولا بإخراج كل جنوده، وللحيرة السياسية ما يبررها، وهي تتوزع على غير صعيد وعلى اكثر من مستوى. لعل ما يهمنا هنا في هذا المقام، بالذات و هو الإجابة على السؤال، غير المطروح على بساط البحث على نطاق واسع ومفاده: هل يمكن للفصائل الفلسطينية أن تتحول إلى أحزاب؟ أم لا؟ وهل هناك ما يمنع من البحث في هذا السؤال؟ ثم أليس طرح مثل هذا السؤال ينطوي على وجاهة ما، خاصة وانه يمكن، على الأقل، اعتباره جزءا من مراجعة سياسية واجبة على الجميع.

وبالعودة إلى ارث وتراث السياسة الفلسطينية المعاصرة، نقول بان الواقع الفلسطيني شهد بعد عام 48، وحيث أن بعض الأرض الفلسطينية لم تحتل من قبل الإسرائيليين (قطاع غزة والضفة الغربية) قد شهد تشكل وولادة أحزاب، تنوعت وتعددت على أطياف اللون السياسي، من إخوان مسلمين إلى قوميين عرب وبعثيين وناصريين إلى شيوعيين، خاصة في قطاع غزة. في حين لم تظهر الفصائل إلا بعد المبادرة الناصرية بإعلان م. ت. ف، أو بالتزامن معها، ثم أخذت شكلها بعد الاحتلال الإسرائيلي لكل من القطاع والضفة.

تشكلت الفصائل بهدف تحرير فلسطين، ثم بهدف إقامة الدولة الفلسطينية، بعد إجلاء الاحتلال عن أي شبر يتم تحريره (برنامج النقاط العشر)، ورغم أن الفصائل قد ظهرت بشكل أساسي في الخارج، حيث توجد جاليات فلسطينية (أو تجمعات) إلا أن وجودها ارتبط بكون (الأردن ثم لبنان) بلدي طوق، أي يمكن لهذه الفصائل المرور عبرها إلى فلسطين المحتلة لمقاتلة الإسرائيليين.

وكان الطابع الرئيسي لهذه الفصائل عسكريا، وكانت مهمتها الأساسية هي تنفيذ العمليات العسكرية ضد الإسرائيليين داخل فلسطين المحتلة ولأسباب واعتبارات عديدة، لم تقم بالاهتمام بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين الفلسطينيين، ذلك أن مهمتها هي تحرير فلسطين، لذلك فان تلك الفصائل تجاوزت تمثيل شرائح أو طبقات محددة. وكان جل الاختلافات فيما بينها ينحصر في كيفية التعامل مع الحلول والمواقف السياسية المرتبطة بالقضية الفلسطينية.

هذا الإرث "الفصائلي" حملته النخبة الفلسطينية العائدة إلى بعض ارض الوطن، بعد أوسلو، والتي شرعت في زرع بذور الدولة، وكان الارتباك عليها واضحا، حين تحول المناضلون السابقون إلى بيروقراطيين فاسدين، والى إداريين فاشلين، لا يحسنون إدارة سلطة ذاتية، كما يجب، بل وكما يمكن أن يكون.

ولم تخرج فصائل المعارضة من دائرة هذا الإرث، فحين ووجهت من الشريحة المجتمعية المحيطة بها وبضرورة أن تبحث في إمكانية أن تتحول من فصائل إلى أحزاب سياسية، تحدد برامج سياسية ذات محتوى اجتماعي - ديموقراطي، أجابت بان السمة الغالبة هي حركة التحرر الوطني، وهكذا تركت الشعب فريسة لسلطة ناشئة مكونها الرئيسي، قادة عسكريون سابقون، سرعان ما غاصوا في وحل العجز والفشل الإداري.

وحتى أن الجماعة السياسية التي كانت أشبه بحركة اجتماعية تعنى بمشاكل وقضايا المواطنين اليومية، سرعان ما تحولت بدورها إلى حركة مقاومة، قادتها الأحداث اللاحقة وبرامجها البديلة إلى أن تصير بدورها فصيلا عسكريا مقاتلا أو مقاوما، لا فرق في الجوهر هنا و فيما كان اندلاع المواجهة مع الإسرائيليين قبل نحو خمس سنوات، يريح الجميع من عناء الإجابة على هذا السؤال الإشكالي، ليذهب بالمجتمع الفلسطيني في الداخل (خاصة في قطاع غزة) إلى العسكرة، بهدف إنجاز مهمة التحرير عبر المقاومة المسلحة.

يعود السؤال الآن إذا، بمستواه المخفف، حول مآل هذا السلاح المتراكم في القطاع بعد أن خرج منه الاحتلال، وفي الحقيقة فان الإجابة عليه تتجاوز الاعتبارات السياسية الراهنة والتي تحدد مستقبل ومصير العلاقة السياسية الداخلية بين عموم الفصائل والقوى السياسية القائمة في الواقع الفلسطيني.

على المستوى القانوني، ورغم أن أول مجلس تشريعي فلسطيني تشكل بعد اتفاقات أوسلو، قد اقر قانون الأحزاب السياسية، إلا أن السلطة التنفيذية لم تقرب الفصائل القائمة، باعتبار أنها حقيقة واقعية، وان أكبرها هو الحزب الحاكم نفسه، وباعتبار انه من الصعب على أحد أن يقول بفصل سياسي بين القطاع والضفة الغربية التي مازالت محتلة، حيث تتطلب حالتها الاستمرار بالمقاومة، والإبقاء على الصيغة الفصائلية، هذا إذا ما كنا نفكر بطريقة نسقيه، أي أن الشكل الوحيد أو الرئيسي لمقاومة الاحتلال، هو عبر ممارسة العنف المسلح، وان الأحزاب السياسية لا يمكنها أن تنتزع الاستقلال الوطني.

لكن ما يزيد الأمر صعوبة، لا تغني عن البحث في الأمر، بل على العكس، توجبه، وتحول الفصائل إلى أحزاب سيعيد الاعتبار إلى أن يكون الشعب والمواطنون هم مرجع العملية السياسية، والحكم على الاختلافات التي لن تقف عند حدود الافتراق على الموقف السياسي وحسب، فالأحزاب معنية بتقديم برامج محددة وواضحة تقول للناس ما عليها أن تفعله في كل ما يتعلق بشؤونها الحياتية.

كذلك تخضع الأحزاب لسيادة القانون والمحاسبة والمراجعة والتدقيق في مصادر تمويلها، وفي قانونية أفعالها، ومؤسساتها على كل المستويات والأصعدة، فبما تواجه بعض الفصائل في حال تحولت إلى أحزاب، معضلة كونها تستند إلى أساس طائفي.

متى يمكن السير على هذا الطريق؟ لا أحد بالطبع يمكنه أن يتنبأ الآن بذلك، لكن ما لابد من قوله، أن مجتمعا على طريق الانعتاق من الاحتلال الخارجي، لابد له أن يمتلك كل مقومات التحول الذاتي حتى يتحرر من ذاته، وان مجتمعا مدنيا يتفاعل داخليا دون إكراه، هو الأقدر على السير بعيدا على طريق التحقق الذاتي.

* كاتب فلسطيني يقيم في قطاع غزة.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع