باكستان تدمر مبررات وجودها

بروفيسور عبد الستار قاسم

لا ينطلق هذا المقال من خطوات سياسية تتخذها باكستان بين الحين والآخر وإنما من منطلقات عقائدية شكلت مبرر وجود باكستان كدولة مستقلة. من الناحية السياسية، لا يستطيع المراقب أن يحرم الدول من حرية الحركة والمناورة في الزمان والمكان، وأن يضعها فقط ضمن قوالب متحجرة؛ لكنه يستطيع أن يحاكمها فكريا إذا كانت المبادئ والأسس العقائدية هي الضحية. تتحرك الدول التي تحترم نفسها صعودا وهبوطا وفق ما تتيح لها قناعاتها والمبادئ التي يجسدها دستورها، أما الدول التي تزيغ عن ذاتها فلا تقيم وزنا لما تقول أنها تؤمن به وتنطلق منه في مختلف سياساتها.

من الناحية السياسية، يجد المراقب صعوبة في محاسبة باكستان على توجهها نحو الكيان الصهيوني وعزمها على إقامة علاقات معها بشكل أو بآخر.السبب في ذلك هو أن أصحاب القضية الفلسطينية المباشرين يصافحون إسرائيل ويقيمون معها العلاقات ومن ضمنها العلاقات الأمنية ويرون في الرافضين لإسرائيل متطرفين معتوهين. تعترف القيادة الفلسطينية بإسرائيل وتصر على التنسيق الأمني معها وتعتقل فلسطينيين لحساب إسرائيل؛ الأردن ومصر وموريتانيا تقيم علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل التي يرفرف علمها في أجواء عمان والقاهرة ونواكشوط. تقيم دول عربية أخرى مثل المغرب وقطر علاقات علنية مع إسرائيل، في حين يقيم عدد آخر علاقات سرية. وأكثر من ذلك هو أن فصائل المقاومة الفلسطينية مثل حماس والجهاد تقيم مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل بوساطة السلطة الفلسطينية ومصر. الأمر لا يتوقف عند باكستان.

لكن المشكلة هي أن باكستان قامت كدولة من منطلق ديني إسلامي ومن المفروض أن تكون دولة إسلامية تتمسك بالتعاليم والمبادئ الإسلامية وتدافع عنها. إنها الدولة الإسلامية الوحيدة التي وجدت لأسباب دينية، ولم يستند وجودها لا على أسباب سياسية أو عرقية أو اقتصادية أو اجتماعية، وهي بالتالي الدولة الوحيدة من بين كل الدول الإسلامية التي يجب أن تعكس الإسلام بأبعاده الاجتماعية والسياسية والثقافية، الخ.

التنازل عن أرض المسلمين حرام ولا يجوز شرعا، وكذلك بالنسبة للمقدسات. الجهاد فريضة، وعلى المسلم أن يعد العدة من أجل الدفاع عن المسلمين والأوطان والمقدسات، وعن المظلومين والمضطهدين بالأرض. إسرائيل انتزعت فلسطين التي هي أرض وقف إسلامي، وهي تحتل المقدسات الإسلامية وتهدد وجودها. من الناحية الشرعية، باكستان مسؤولة عن تحرير المقدسات وتحرير كل أرض إسلامية محتلة وتقديم كافة أنواع الدعم للمسلمين. أما إذا رأت نفسها غير قادرة على ذلك، فإن الفاحشة ليست هي البديل.

من الناحية السياسية، ليس مطلوبا من باكستان أن تكون ملكية أكثر من الملك، أما من الناحية الشرعية فهي الملك. لا يحق لباكستان من الناحية الشرعية أن تتنازل عن فلسطين حتى لو تنازل عنها أهل فلسطين. من هو أكثر تمسكا بالأرض: مالكها أم الذي يقدسها؟ مالكها قد يبيعها، أما الذي يقدسها يفتديها بنفسه وجهده ووقته وماله. كان من المفروض، شرعا، أن تقف باكستان في وجه القيادة الفلسطينية والحكومات العربية التي مدت يدها لإسرائيل.

انفصلت باكستان بشقيها الغربي والشرقي الذي يعرف الآن ببنغلاديش عن الهند لكي تكون دولة إسلامية للمسلمين، وقد كلفها هذا الانفصال المتاعب والحروب والأحزان. لكن المتتبع للسياسة الباكستانية لا يرى في باكستان تميزا إسلاميا. فمثلا، لم تحسن الحكومة الباكستانية التي كانت تتمركز في الشطر الغربي صنعا في السياسة الداخلية مما شكل عاملا هاما في انفصال بلاد البنغال عن بلاد البنجاب. لم تلتزم الحكومة بأسس العدالة الإسلامية وحدث فساد داخلي عززته الهند التي ساءها انفصال باكستان وعملت باستمرار على الانتقام. هذا ناهيك عن عدم الالتزام بالكثير من القضايا الشرعية في الشؤون الداخلية.

في الآونة الأخيرة، لم تضع باكستان كوابح على الكثير من قراراتها السياسية المتعلقة بالشؤون الخارجية. أين هي الدولة الإسلامية أو الفرد المسلم الذي يتيح له الشرع الإسلامي الانقلاب المفاجئ على أصدقائه؟ دعمت باكستان طالبان وأرسلتها إلى سدة الحكم، وفجأة انقلبت اليد وتعاونت مع الولايات المتحدة. هنا لا أقول أن طالبان على حق أو على باطل، وإنما أشير إلى الانقلاب السريع الذي يخل بالعهود المكتوبة وغير المكتوبة. وقد فتحت باكستان أراضيها أمام قوات أو طائرات غير إسلامية لمحاربة مسلمين يقولون لا إله إلا الله. والآن تمد يدها لإسرائيل التي أسهب القرآن الكريم في وصف من ينتسبون إليها.

من المفروض أن مبادئ الدين الإسلامي أقوى من التحالفات السياسية ومن جبروت الدول، وأن الله أقوى من أمريكا، وقدرته تفوق قدراتها العسكرية والمالية والاقتصادية. الملاحظ أن باكستان لا تتخلف عن ركب الكثير من الدول التي تسير بالزفة الأمريكية المناهضة للإرهاب والداعمة لإسرائيل، والتي تتوقع أجرا لقاء ذلك.

إذا كانت باكستان تريد أن تكون دولة كغيرها من الدول، فلماذا انفصلت عن الهند. هناك مسلمون في الهند يعيشون أحيانا في حالة توتر بسبب الأوضاع الدينية، لكنها ليست بخطورة حالات الحروب التي نشبت بين الهند وباكستان. هذا فضلا عن النفقات العسكرية الضخمة التي تنفقها الدولتان على التسلح استعدادا ليوم اللقاء. أضعف الانفصال الدولتين، ولم تتمسك باكستان بالأسس العقائدية التي قامت وفقها؛ ويبقى من المهم إعادة النظر بأدائها إذا أرادت الدولة أن تكون أكثر انسجاما مع ذاتها وأن تبقي على مبررات وجودها حية.

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع