أم العبد لم تنتخب أحداً منهم

2005/01/13


رشاد أبوشاور
علي فضائية (الجزيرة)، تأمّلت الاحتفال بفوز (أبومازن)، ولم أفاجأ بفوزه فقد توقعته كما غيري توقعه من الفلسطينيين وغيرهم، لأسباب كثيرة منها استنكاف (حماس) و(الجهاد) عن تقديم مرشّح، وانسحاب مروان البرغوثي، ولا مبالاة قسم من شعبنا غير قليل، لعدم الثقة بخطاب (السلام) الذي عاد علينا جميعاً في الوطن والمنفي، قضية وشعباً، خراباً وموتاً.
مساء 9 كانون ثاني حمدت الله أن حادثاً عنيفاً لم يقع، كأن يحدث اشتباك بالسلاح بين أنصار المرشحين، وأن المقترعين أدلوا بأصواتهم (بسلاسة) علي طريقة انتقال السلطة بين قادة حركة فتح.
ولكن هذا لم يحل دون نوبة حزن أثقلت علي قلبي وعقلي، سبّبها اندفاع العشرات في (رام الله) المحتلة و(غزّة) المحتلة، وغيرهما من المدن، وهات يا إطلاق رصاص في الهواء باتجاه السماء، مع إن العدو علي الأرض وغير بعيد عن مطلقي الرصاص، وكل هذا للتعبير عن الفرح بانتصار (أبو مازن) مرشّح فتح الذي صرّح كثيراً في الأيام الأخيرة بأنه يرفض ويدين فوضي السلاح ولن يسمح باستمراره...
الاحتفال المرتجل كان فتحاوياً تماماً كما نقلته (الجزيرة)، والطيّب عبد الرحيم وصف (أبو مازن) بأنه خليفة ياسر عرفات (أبوعمّار)، و(أبو مازن) أهدي الانتصار لروح القائد ياسر عرفات، وهذه لفتة طيبّة تعيد المياه إلي مجاريها وإن بعد فوات الأوان، فنحن لا ننسي تحذير الرئيس الراحل من (كرزاي) فلسطيني، ومن ترويج من رأيناهم في المشهد يلتصقون بأبي مازن الذي بسبب حملتهم الضارية استقال أبومازن من رئاسة الوزارة واعتكف في بيته، ولقد سمعنا أنه استقال من قيادة حركة فتح.
لا أريد أن أتحدث عن التجاوزات، والمخالفات، فالذين في مناطق السلطة هم أقرب لما جري، والمرشحون قدّموا طعوناتهم، ورأينا بعضهم يحتّج أمام مراسلي الفضائيات...
أم العبد، الأم الفلسطينية السبعينية، التي تابعتها (جيفارا البديري) الشجاعة والذكيّة، مراسلة (الجزيرة)، وقدّمتها في ريبورتاج قصير مؤثّر يهز الروح ويقلقها، هي أم لستة شباب، واحد منهم استشهد في الانتفاضة الكبري (المغدورة) والتي قايضوها بأوهام (أوسلو).
ثلاثة في الأسر حاليّاً، واثنان ـ وهنا خفت صوت أم العبد ـ أحسب أنهما استشهدا في الانتفاضة الثانية انتفاضة الأقصي!
تضع أم العبد صور أبنائها الستة علي كرتونة وتشير إليهم وهي تتحدّث إلي (جيفارا) :
ـ لم أنتخب. ولماذا أنتخب؟ لقد انتخبت المرّة الماضية، فماذا جري؟ أبنائي في السجن أسري، لم أرهم منذ ثلاث سنوات...
تسألها جيفارا :
ـ ألم يزرك أحد، ألا يساعدك أحد، جهة ما؟
ـ لا، أبداً، لم يزرني أحد، لم أر أحداً، لا يساعدني أحد. حتي تصريح زيارة لرؤية أبنائي لم يساعدني أحد في الحصول عليه...
أم العبد تعيش وحدها، أم العبد التي يفترض أنها بطلة فلسطينية أسطورية لم يفطن بها أحد، وربّما لا يعرف أحد عنها من (المهمين) شيئاً.
أم العبد ليست من (سيدات) ال
ngoz، لا، إنها مجرّد أم فلسطينية أنجبت ست شباب، أعطوا أعمارهم لفلسطين، و..كسب غيرهم، وغير أمهم الكثير، مالاً وجاهاً، وشهرةً، وراحة بال، و بطاقات vip، وسيّارات حراسة، ومرافقين، وامتيازات لا تخطر علي بال، منها نغنغة الأبناء الذين لم يصب أحدهم بسوء، والذين يشتغلون في (البزنسة) وعقد الصفقات، وتكديس الأموال بشطارة !.
انتقلت الكاميرا إلي الطيّب عبد الرحيم وهو يغنّي من شدّة الانفعال والفرح ـ عضو لجنة مركزية في حركة فتح، ومن المقربين جداً من الرئيس الراحل ياسر عرفات ـ بعد أن قدّم (أبومازن) كخليفة وقائد للمسيرة:
أنا يا أخي
آمنت بالشعب المضيّع والمكبّل
وحملت رشاشي
لتحمل بعدي الأجيال منجل
أم العبد لم تنتخب، وهي تساءلت:
ـ ولماذا أنتخب؟ لقد منعوا الأسري من الانتخاب...
لا، ليست متشائمة أم العبد، ولكنها ككثيرين من أبناء شعبنا لا تثق بالوعود...
أم العبد صعدت الدرجات متثاقلة، دخلت إلي غرفتها حيث تعيش وحيدة إلاّ مع صور أبنائها، تكلّمت بحزن ومرارة، لم تبك، كانت تحكي مع جيفارا مشيحة عن الكاميرا بعكس القادة الفلسطينيين المولعين بعدسات الكاميرات، وشاشة التلفزيون، وميكروفونات الإذاعات والمراسلين.
شعرت كأنها تشيح عنّا جميعاً، هي التي لم تبد ندماً علي تضحيات أبنائها، والتي حالها من حال جماهيرنا الصلبة المضحيّة التي لم تجن سوي الخيبات من سلوكيات الوجاهات السياسية...
من رأي الفيلم القصير، أو الريبورتاج، الذي أعدّته جيفارا البديري، لن ينسي أم العبد إلاّ إذا لم تكن بينه وبينها قرابة قضية، وكفاح شعب، وتراث بطولي، وتضحيات، وإيمان...
أمّا جيفارا التي اختارت أن تترك الاحتفال بالنصر، ودوي الرصاص الفوضوي ـ من هم مسببو الفوضي يا تري؟! ـ فقد قدمّت عملاً إعلامياً سمعت كثيرين يتحدثون عنه، متأثرين بالمفارقة، ومن الإهمال، ومن تزييف البطولات، ومن الحديث عن الشعب المضحّي..بالكلام الرنّان الفارغ.
أم العبد لم تنتخب، لم تذهب إلي صندوق اقتراع لتضع فيه ورقة تحمل صوتها الممنوح لأحدهم...
من أراد أن تنتخبه أم العبد فليذهب إليها، فإن فاز بصوتها فقد فاز بأصوات الشهداء، والأسري، والشعب الذي ينجب لفلسطين، لا زعامات للكاميرات...
أنا شخصياً أعطي صوتي لأم العبد..وأشكر جيفارا التي منحتني فرصة للاقتراع الذي ينسجم مع الضمير والقيم، ويصّب لمصلحة فلسطين...

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع