الحالة العرفاتية في نقطة الصفر والورثة أصيبوا بـ مرض الكاميرات !


توفيق رباحي
09/11/2004


لعلكم لاحظتم ان اغلب المسؤولين الفلسطينيين اصبحوا، بقدرة قادر، خبراء طب ومختصين بالضبط في العلة التي اصابت ياسر عرفات. ولعلكم لاحظتم ان الاخبار عن حالة عرفات الصحية كانت تصدر من كل مكان، رام الله، غزة، عمان، الا من المكان المؤهل، المستشفي المعالج. وكانت تصدر من كل الناس، الا المؤهلين لاصدارها، الاطباء المعالجين.


لكن ما يجب ان تعرفوه، هو ان المسؤولين الذين يتسابقون امام الكاميرات غير مسموح لهم برؤية عرفات ولا يرونه.
اتحدث هنا عن الحالة العرفاتية الي غاية الخميس الماضي، اي قبل ان تتسرب اشاعة موته عبر وسائل اعلام اسرائيلية ثم رئيس وزراء لوكسمبورغ والمعتوه جورج بوش الذي طلب له الرحمة قبل ان يموت رسميا (كان حريا به ان يقول كلاما اقل تفاهة واستهتارا، لكن ما العمل، هذا ما اختاره الامريكيون لنا وللعالم). وقبل ذلك نبأ الغيبوبة التي وقع فيها والتي زادت الغموض غموضا و الخبراء خبرة، فكدنا نستمع في نشرة اخبار واحدة منتصف ذلك النهار الي اربعة او خمسة اراء (عن صحة عرفات) من مسؤولين فلسطينيين لا يزيد اطلاعهم عن حالة قائدهم عن اطلاع اي مواطن في نواكشوط غربا او المنامة شرقا.


لا اعتقد ان الذين يتهمون بعض المسؤولين في السلطة الفلسطينية بأنهم يعانون من مرض اسمه فيروس الكاميرا والميكروفونات ، علي خطأ. لقد قالها هاني الحسن منتصف نهار الخميس لـ الجزيرة ردا علي سؤال حول تضارب اخبار عرفات وغموضها: بعض الناس (يقصد الفلسطينيين) يبحثون عن الشهرة والظهور في الفضائيات. المخولة الوحيدة للكلام هي الاخت ليلي شهيد . ثم اتضح لاحقا انه حتي المسكينة ليلي شهيد غير مخولة بشيء وغير مطلعة علي شيء، انما كانت اوفر حظا من الاخرين في الدخول الي المستشفي (لا نعرف ان كانت تري عرفات ام لا) ربما لانها تعيش في باريس وتتكلم اللغة وتعرف بعض امور التعامل مع الفرنسيين. مسكين هاني! ليلي شهيد وحدها؟ وهل يقدر ابو ردينة علي الصمت؟ ومن سيلجم جبريل الرجوب؟ وهل تريد احالة عريقات علي المتحف في ذروة عطائه الكلامي؟ والطيب عبد الرحيم؟ ومحمد دحلان؟ وياسر عبد ربه؟ وعباس زكي؟ وجميل الطريفي؟ وقدورة فارس؟ واعضاء المجلس التشريعي؟ وقيادات فتح التي لا حصر لها؟


هؤلاء يحتاج الواحد منهم الي فضائية متفرغة له طول الوقت، فلا تحرمهم من هذه الفرصة ارجوك!


هناك خلل ما في الموضوع كله. ما الذي يدفع رجلا ـ سنفترض انه عميد بالفعل ـ اسمه جبريل الرجوب الي الحديث في حالة عرفات من رام الله؟ وما الذي يدفع سيدة محترمة ـ سنفترض انها سفيرة بالفعل ـ اسمها ليلي شهيد الي شرح تفاصيل حالة عرفات. وما الذي يدفع رجلا ـ سنفترض انه رئيس حكومة بالفعل ـ اسمه احمد قريع الي الخوض في نفس الموضوع. ناقص فيها دحلان وتتحوّل الي سلطة من الاطباء ما بعدهم اطباء. (الرجوب ابلغ الجزيرة يوم السبت الموالي لنقل عرفات والمصادف 30 من الشهر الماضي ان عرفات اتصل بوزير المالية وامره بصرف رواتب الموظفين. لم يجد سيادة العميد الا هذا الخبر العظيم ليقنع به الناس ان عرفات في صحة جيدة وفي وعيه).


واضح ان لمرض عرفات وجهين، واحد سياسي واخر صحي انساني. لذا، يبدو مفهوما الي حد بعيد ـ ومطلوب ـ ان الامر يتعلق بدور سياسي يقوم به هؤلاء المسؤولون في ادارة الازمة والفراغ في غياب القائد الاوحد عرفات. ومفهوم ان واجب قوافل المسؤولين المتدافعين امام الكاميرات طمأنة الرأي العام المحلي وتوجيه ما هو مطلوب من الرسائل نحو الخارج، مثلما هو واجبهم ايضا ان يتعاملوا مع الحرب النفسية التي تقودها ضدهم المخابرات ووسائل الاعلام الاسرائيلية (والامريكية واخري) في باريس وتل ابيب والاراضي الفلسطينية، لكن ان يتزاحموا امام الكاميرات ويتناقضوا كل ذلك التناقض، فهذا مسيء لهم ولقضيتهم.


كان يمكن ان يعيّنوا ناطقا واحدا يتولي الجانب السياسي، ويتفقوا مع عرفات والمستشفي علي بيان طبي نهاية كل يوم او في بدايته، او كل 48 ساعة.
الطريف في الموضوع ان المسؤولين الكثيري الكلام بالذات لا يرون عرفات، بمن في ذلك كبار المستشارين و العقداء ـ الاقوياء منهم والرهيبون. كلهم يتخذون من فندق كونتيننتل الكبير بمنطقة كلامار مأواهم وقاعدتهم، بينما يترصدهم الصحافيون في بهو النزل محتلين ارائك فارهة مخصصة للزبائن. الوحيدة التي علي بيّنة واطلاع حقيقي بحالة الختيار هي زوجته سها، وهذه آثرت الصمت لاسباب مفهومة (وانا اتفق معها، فرغم الباب المغلق، انظروا ماذا حصل من كلام ومضاربات ومزايدات) قبل ان تنفجر في وجوه كبار القوم ليلة الاثنين.


هكذا، فجأة، تحوّلت المرأة المنبوذة، المغضوب عليها الغائبة منذ سنوات، الي الحاضرة الوحيدة ووضعت علي الرف مستشارين وقادة امنيين وسياسيين، بمن في ذلك دحلان الرهيب ، كنا نعتقدهم اقرب الي عرفات من حبل الوريد.


الانتخابات الامريكية نهار الثلاثاء دفعت الخبراء الي الوراء اكثر مما كانوا، لكن قدرة قادر انتظرت حتي انتهت الانتخابات واطمأن العالم علي ما ينتظره من كوارث مع الرئيس المعتوه المعاد انتخابه، واعادت موضوع عرفات الي الفضائيات من جديد يوم الخميس. كأنه امر مدبر بليل.
ماذا لو اُصيب عرفات بوعكته الصحية في زمن سبق الفضائيات؟ كم عدد الذين عرفوا انه كان ضحية حادث طائرة في ليبيا ـ علي سبيل المثال لا الحصر؟ هل كان علي رموز السلطة (غير الموجودة الا فساديا وامنيا) ان يتدافعوا بهذا الشكل؟ لماذا يشعر كل واحد انه أحق بعرفات من الاخرين، وانه الافضل لمخاطبة الكاميرات؟ لماذا لا يصمت من لا يعرف شيئا او لا يملك شيئا يقوله؟


هل اخطأت سها عرفات في هجومها علي المستورثين ؟ كأنها كانت تنتظر الفرصة لتنفجر في وجههم، وكأن صرخة ليلة الاثنين تخفي سنينا من الحنق والكبت.


تبا لهذه الفضائيات وكاميراتها، وتبا لمفعولها السحري علي الناس، وبالذات علي مسؤولي السلطة الفلسطينية (غير الموجودة).


مر اسبوع ولم يعرف احد اسم اصابة عرفات او درجة خطورتها، فعاش العالم علي الاشاعات وتفنيدها. اسبوع واكثر وما زلنا في نقطة الصفر، نعتقد اننا نعرف كل شيء بفضل الفضائيات، والحقيقة اننا لا نعرف شيئا.


رغم كل هذا، يجب ان نعترف ان حالة عرفات وتصرف المسؤولين الفلسطينيين في هذه الظروف ـ علي ما يستحق من انتقاد ـ يقف علي النقيض تماما من تصرفات مسؤولين عرب الفناها الي عهد قريب. الزمن الغابر الذي كان فيه مرض الحكام العرب سرا اشبه بالعار الذي يجب ان يظل طي الكتمان. فهم كاملون، عظيمون، لا يمرضون حتي يموتوا، ولا يصاب اولادهم بمكروه. (طلب زميل وصديق مقابلة لصحيفة اجنبية مع رئيس وزراء جزائري متقاعد فرد الثاني بأن والدته علي فراش الموت وانه يحتاج الي بعض الوقت لترتيب موعد. جاءني هذا الزميل مسرعا وساخرا: هل تصدّق، والدة رئيس الوزراء فلان في المستشفي علي فراش الموت، وقد ابلغني هو شخصيا بهذا! معقول.. كنت اعتقد هؤلاء الناس مختلفون عنا، بل تخيلتهم من فصيلة لم يلد ولم يولد ).
كاتب من اسرة القدس العربي
toufik@alquds.co.uk

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع