لا... لقرارات "الشرعية" الدولية العوراء
د.عصام محمد علي عدوان
أستاذ القضية الفلسطينية – جامعة القدس المفتوحة
5/6/2006م
عقود عديدة مرت وشعبنا الفلسطيني يتجرع كأس الظلم التي أسقتها له هيئة الأمم الظالمة، التي نصّبت نفسها حاكماً بأمر الله، أو معبوداً من دون الله لا يجرؤ عبيدها على مخالفة أمرها، إنْ في السرِّ أو العَلَن، حتى غدت قراراتها المسماة بقرارات "الشرعية" الدولية، أكثر قداسة لديهم من الكتب السماوية. وإن البعض ما فتئ يعلن توبته على رؤوس الأشهاد من مواقفه الرافضة بالأمس لقرارات "الشرعية" الدولية، تقرُّباً إليها، أو طمعاً في جنتها، أو خوفاً وهرباً من نارها، وما مثَلُها إلا كمَثَل الأعور الدجال.
ففي 29/11/1947م أصدرت هيئة الأمم قراراها(181) المشئوم بتقسيم فلسطين، وقد رفضه العرب بداية، وحاربوا في عام 1948م ضده، وما لبثوا أن وقّعوا بروتوكول لوزان في 12/5/1949م معترفين بالتقسيم وموافقين على تدويل القدس، وهو ما رفضه الفلسطينيون وفصائلهم المقاوِمة إبان نشأتها، حيث أعلنت عدم اعترافها بهيئة الأمم، وبرفضها لقرارا التقسيم، وأدانت الرجعية العربية التي قبِلته. لكن هذه الفصائل التي تجمعها عباءة منظمة التحرير الفلسطينية، قد أعلنت توبتها من تلك المبادئ، وأشادت دولتها في المنفى في 15/11/1988م على أساس قرار التقسيم 181 الذي يعترف لليهود بدولة فوق أرض فلسطين مع تدويل القدس العربية. ومثل ذلك يُقال في قرار الأمم المتحدة (194) الصادر في 11/12/1948م والداعي إلى تدويل القدس العربية، ووضع كل الأماكن المقدسة في فلسطين تحت إشراف الحاكم الدولي لمدينة القدس، وعودة وتعويض اللاجئين. فقد رفضته الدول العربية والفلسطينيين بداية لعدم تلبيته عودة اللاجئين حالاً، فضلاً عن تدويله القدس، إلا أنهم جميعهم ما لبثوا أن نكصوا على أعقابهم، وأصبح القرار مطلبهم، بدءاً من بروتوكول لوزان، ومروراً بإعلان الاستقلال الفلسطيني في عام 1988م.
وفي 22/11/1967م صدر قرار مجلس الأمن الدولي (242)، فبادرته منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها بالهجوم، وأعلن عبد الناصر: "من حق منظمات المقاومة الفلسطينية أن ترفض هذا القرار... هذا القرار ليس كافياً بالنسبة للمصير الفلسطيني". بينما قبلته مصر والأردن آنذاك، ثم ما لبثت قيادة المنظمة أن شرعت في طقوس التوبة بإعادة النظر في القرار بطلب من أمريكا والاتحاد السوفييتي منذ عام 1975م، حتى أعلن ياسر عرفات قبوله لكل قرارات الأمم المتحدة أثناء حصار بيروت في 1982م، ثم أعلن قبوله بقرار 242 في اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في جنيف في ديسمبر 1988م، وكذلك قبوله بالقرار (338) الخاص بحرب أكتوبر 1973م والذي لا علاقة للفلسطينيين به البته.
إن أمر هذه القرارت ليدعو إلى العَجَب، فكلما مضى عليها الزمن، زاد بريقها في أعيُن الساسة، كقطع الآثار القديمة، التي يغلو ثمنها كلما كانت أقدم، بينما حالتها تزداد سوءاً وهشاشة، حتى لا يكاد ينتفع منها المرء إلا بالنظر إليها، وكفى الله القارئين شرَ القرارات.
إن الإفلاس السياسي هو سرُّ تشبُّث العرب ومنظمة التحرير الفلسطينية بهذه القرارات، إذ أن المنظمة وفصائلها مجتمعة قد رفضت هذه القرارات وهاجمتها إبان مرحلة الثورة وريعان الشباب، حتى إذا ما اشتعل رأسها شيباً، وانقطع نَفَس الثورة، لجأ أصحابها إلى شاطئ "الشرعية" الدولية يطلبون الراحة والعفو والغفران عما سَلَف في "طَيْش" الشباب، ونصّبوا أنفسهم حكماء يعظون الناس بضرورة القبول بقرارات "الشرعية" الدولية، ليس حرصاً على الناس من تكرار التجربة، بل حتى لا يظهر ضَعْفُهُم وخطيئتهم، كمثل إبليس مع آدم وحواء {فوََسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) الأعراف}.
إن كل عاقل، يحترم عقله، لا بد له أن يتفحص هذه القرارات قبل أن يؤيد أو يرفض، وإن المصلحة الوطنية، والأمانة العلمية، لتفرض على المختصين بيان أمرها، ومن هنا، سأعرض أهم الثغرات الواردة في أهم قرارات "الشرعية" الدولية:
فقرار التقسيم 181 هو مجرد توصية غير ملزمة، قائم على أساس دولة يهودية، وأخرى عربية. أي أن الاعتراف به يعني الإقرار بدولة يهودية على 56.47% من فلسطين. كما نصّ على تدويل القدس، وفي تفاصيل التدويل ما يفسح المجال أمام اليهود لإحكام سيطرتهم عليها في غضون عشر سنوات من تنفيذ التدويل. كما يمنح الحق للحاكم الدولي لمدينة القدس أن يتدخل في شئون الدولة العربية ومدى رعايتها لشئون الديانات الأخرى. وسيظل ذلك سيفاً مسلطاً عليها. وقد نصّ القرار على اتحاد اقتصادي في كل فلسطين يمنح اليهود فرصة التحكم بالمشاريع الكبرى والمفصلية في كل فلسطين بما فيها القدس الدولية.
وأما قرار 194 (الشهير بقرار عودة اللاجئين) : فهو غير ملزم لعدم استناده إلى الفقرة السابعة من ميثاق هيئة الأمم. وقد نصّ على تدويل القدس وفقاً لما ورد في قرار 181. وهو لا يتيح فرصة الانتقاء من القرار ما نريد (عودة اللاجئين) ونرفض ما لا نريد (تدويل القدس)، وإنما يؤخذ جملة واحدة، أو يجب استخراج قرار جديد يختص بعودة اللاجئين.
وقد نصّت الفقرة 11 منه على: "تقرر وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم؛ وعن كل مفقود أو مصاب بضرر، عندما يكون من الواجب وفقا لمبادئ القانون الدولي، أن يعوض عن ذلك الفقدان أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسئولة". وهذا يعني:
1. أنه لا تحديد لموعد العودة ولا مكانها.
2. سوف تثير دولة الاحتلال شرط (العيش بسلام بجانب جيرانهم) إذا تم التوصل لاتفاق بشأن العودة، لتقول أنها تريد ضمانة بأن العائدين سيعيشون بجانبها بسلام. وقد تطلب تعهداً خطياً شخصياً من كل عائد أنه يعترف بإسرائيل ويتعهد بعدم مقاومتها.
3. التعويض فقط عن الممتلكات المتضررة أو المفقودة وهو بحاجة إلى إثبات هذه الممتلكات. ومن المعلوم صعوبة تقديم وثائق تثبت هذه الأملاك في كثير من الأحيان!!
4. الجهة التي ستقوم بالتعويض مبهمة وغير واضحة، حيث أشار إليها القرار بالقوْل: (من قِبَل الحكومات أو السلطات المسئولة). وهذه فرصة لتتنصّل إسرائيل، وهيئة الأمم من المسئولية.
5. لم يذكر القرار كلمة (الفلسطينيين) وراء كلمة (اللاجئين)، وهو ما يجعل القرار مثيراً للضحك، حيث يتيح فرصة انطباقه على "اللاجئين" اليهود الذين خرجوا من الدول العربية بعد قيام إسرائيل.
وأما قرار الاعتراف بإسرائيل وسيادتها رقم 242:
فكافة بنوده تتحدث عن دول، ولا تندرج تحته منظمة أو حركة أو سلطة حكم ذاتي. ولم يتطرق البتة إلى فلسطين وقضيتها وشعبها. ولم يفرض على إسرائيل الانسحاب من كل الأراضي التي احتلتها في حرب 1967م، واكتفى بالقوْل: (من أراضي). وما دامت نكرة فهي مجال للتفاوض حولها لتحديدها. وطَلَب احترام حدود وسيادة واستقلال دول المنطقة. وهو يعني إسرائيل. أي أن من يعترف بالقرار 242 يعترف بالضرورة بإسرائيل وحقها السيادي على ما احتلته عام 1948م. كما تحدث عن تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين، فلم يقُل: (حلّ) وإنما (تسوية)، كما لم يقُل: (اللاجئين الفلسطينيين) بل أصرّت أمريكا وبريطانيا وفرنسا على إبقائها غير معرّفة رغم طلب السوفيات وضع كلمة (العرب) وراءها. ولذلك اعتبر موشي دايان في كلمته أمام هيئة الأمم عام 1969م أن الفقرة تعني تسوية مشكلة اللاجئين اليهود والعرب بقبول التبادل الحاصل على الأرض. ويدعو لإبقاء مناطق مجرّدة من السلاح بحجة الحفاظ على الأمن. وذلك على حساب أراضي العرب. لقد كانت كل بنود القرار تخدم إسرائيل ومصالحها، ولا علاقة له بفلسطين أو الفلسطينيين. ومع ذلك تنكّرت له.
إن قرارات لا يحترمها أصحابها، لا ينبغي لأحد أن يحترمها أو يتشبث بها، ولتذهب "الشرعية" الدولية وقراراتها وما بُني عليها إلى الجحيم.
|