قراءة في مضامين ومحددات البرنامج السياسي للحكومة المقبلة

الكاتب : مؤمن بسيسو
لعل قراءة موضوعية لبنود ومضامين البرنامج السياسي للحكومة المقبلة التي ستشكلها حركة "حماس"، والتي طُرحت مبادؤها ومحدداتها على الكتل البرلمانية المختلفة، تشير إلى درجة عالية من الوضوح والصراحة السياسية اللازمة لصيانة الحق الفلسطيني من جهة، فضلاً عن اجتياز التحديات الخارجية من جهة أخرى.

ولئن طاب للبعض أن يضع بعض البنود الواردة في البرنامج في سياق مفردات سياسة "الغموض البناء" التي أعلنت حركة "حماس" انتهاجها عقب فوزها المستحق في الانتخابات التشريعية الأخيرة، فإن التمعن الدقيق في محددات البرنامج تكشف قدراً وافراً من الواقعية السياسية الملتزمة والانفتاح السياسي الرصين، الممزوج بأرضية صلبة من الالتزام بالحقوق والثوابت الوطنية.

ثوابت وطنية

لا تكاد تجد أحداً على المستوى الفصائلي، الحيّ والمؤثر، يُنكر حق المقاومة، وأحقية الشعب الفلسطيني وقواه في الدفاع عن نفسه بكافة الأساليب وأشكال العمل المتاحة، أو يماري في مبدأ حق العودة للاجئين الفلسطينيين، أو يبدي استعداداً للتنازل عن جوهر هاتين القضيتين الهامتين، اللتين تشكلان جزءا من منظومة الثوابت الوطنية الأساسية التي لا تقبل التنازل أو التفريط، رغم الرؤية والاجتهادات الخاصة لقلة من السياسيين حيال ضرورة إنفاذ التدرج والمرحلية بشأن تفاصيل وتطبيقات حق العودة، ودعوتهم المتكررة لإخضاع وسائل المقاومة للتقييم المستمر، وتغليب الطابع الشعبي في سياق الرد على ممارسات الاحتلال وإرهابه الوحشي.


التهدئة.. الواقع والمحددات

تؤشر رؤية "حماس" إزاء قضية التهدئة إلى مراكمة للنضج والعقلانية السياسية، واطراد في فهم الواقع السياسي والميداني، المعقد والمتشابك، على امتداد جبهته: المحلية والإقليمية والدولية.
فإعمال فقه الأولويات والموازنات في التعاطي مع شئون الواقع الراهن، وآليات صنع الموقف والقرار، والمزاوجة بين السياسة ومقتضياتها والمقاومة ومتطلباتها، وإخضاع الأمور لمنطق الربح والخسارة الوطنية، تبقى سمة أساسية من السمات التي ميّزت حركة "حماس" في مراحلها الأخيرة، خلافاً لبعض التوجهات والمسارات على الساحة الداخلية التي تنأى بنفسها عن تفاعلات وهموم الوضع الداخلي، وتتبنى سياسات مطلقة دون ضوابط أو محددات ترهنها المصالح والمستجدات وضغوط اللحظة، وتحشر نفسها بين خيارين ترى في الجمع بينهما خطأ لا تحتمله رؤاها الخاصة ومواقفها المتفردة.

ورغم بعض التباينات في تفصيلات موقفي كلا من: "حماس" و"فتح" إزاء قضية التهدئة، لجهة إصرار "حماس" على ربطها بمحددات واشتراطات معروفة لا تقرها "فتح" بشكل كامل، فإن هذه القضية تشكل عنصر التقاء وتوافق وطني فلسطيني، وحاجة سياسية ملحة تستدعيها نوازع المصلحة الوطنية في شقها الداخلي، ومتطلبات تجلية وإنهاض الموقف الفلسطيني، عربياً ودولياً.

الاعتراف.. مشكلة خارجية

لا يحمل موقف "حماس" حيال قضية الاعتراف بدولة الاحتلال أي جديد، ولا يُتوقع له أن يحمل أي جديد مستقبلاً، فالمنطلقات والمرجعيات التي تحتكم إليها "حماس" في بلورة مواقفها وتوجهاتها وتوجيه قراراتها، لا تُبشر "البعض" بأي نوع من أنواع التحول الاستراتيجي، ولا تمهد لأي تغيير مستقبلي حيال موضوعة "الاعتراف" التي أخرجتها "حماس" عن كافة أجنداتها وملفاتها، الحالية والمستقبلية، ولا تفكر – محض تفكير- في أي بحث أو نظر بشأنها في ظل تواصل العدوان الإسرائيلي، والمخططات الإسرائيلية الأحادية، واستمرار تغييب الحقوق الفلسطينية.

ولا ريب فإن قضية "الاعتراف" قد خرجت من إطارها الوطني الفلسطيني إلى فضائها الدولي، فالملاحظ أن الاشتراطات الانفعالية التي وردت على ألسنة بعض قادة "فتح" عقب الانتخابات التشريعية، قد تبدلت هذه الأيام، وخلت من أي تمسك حيال هذه القضية، ليبدو شرط "الاعتراف" خارجياً بامتياز، في وقت بدت فيه الجبهة الدولية إزاء "حماس" أقل تماسكاً، وأكثر عرضة للتفكك والتراجع، وإخفاض سقف المواقف والاشتراطات.

القرارات الدولية.. صيغة مرحلية

قد تكون القرارات الدولية الخاصة بالقضية الفلسطينية إحدى أهم نقاط الخلاف والتدابر في برنامج حركة "حماس" من جهة، وتيارات الحركة الوطنية الفلسطينية من جهة أخرى.

فالحركة ترى في كثير منها هبوطاً عن الحق الفلسطيني في حده الأدنى، وتفريطاً في ثوابت وطنية تاريخية لا يمكن إسقاطها بجرة قلم، أو بمداد أملته الهيمنة الدولية في ظروف ومفاصل تاريخية معينة.

ومع ذلك، فإن "حماس" قد جعلت من هذه "العقدة" شيئاً هامشياً في ظل تبنيها لكل ما يحقق المصلحة في هذه القرارات كصيغة مرحلية، واستعدادها المسئول لدراسة أي مقترح دولي ذو بال بمرونة حقيقية وعقل مفتوح.

من هنا يمكن لنا أن نتوقع تجاوباً مقابلاً على الصعيد الدولي، ونزولاً عن الشجرة التي صعد الغرب إليها بملء إرادته عقب فوز "حماس"، يؤسس لأرضية من التفاهمات المستقبلية، وقبولاًَ بحقائق الواقع الفلسطيني، التي تقود لتجاوز مرحلة التآمر والتشكيك إلى مرحلة التفاهم والبحث المشترك.

المفاوضات.. أفق مسدود

من الواضح أن حركة "حماس" تطرح رؤية مغايرة لأسس وآليات المفاوضات السياسية، تعتمد الندية والالتزام بديلاً عن التهالك والاستمرار بأي ثمن.

وتستند "حماس" في مقاربتها هذه إلى تراث حافل من الفشل السياسي والإجرائي لمسيرة المفاوضات، ما يجعل أمر استنساخها جرياً وراء السراب، ويدفع باتجاه إعادة تقييم الآليات المتبعة، وإرساء قواعد عمل تفاوضي جديدة، أكثر وضوحاً والتزاماً، وأكثر التصاقاً بالشعب وحقوقه الوطنية.

الإشكالية الأكثر بروزاً أن البرنامج الأساسي لحركة "فتح" التي تقود السلطة الفلسطينية حتى هذه اللحظة، يعتمد المفاوضات خياراً وحيداً واستراتيجياً لتحصيل الحقوق الوطنية، رغم شذوذ بعض الهياكل والتشكيلات الميدانية عن هذا البرنامج، وانخراطها في صلب مشروع المقاومة، أسوة بالقوى والفصائل المقاومة الأخرى.

ومع ذلك، فإن "حماس" التي تدرك مآلات الأمور، وطبائع النهج الإسرائيلي العدواني الأحادي، القائم على سياسة نفي الشريك الفلسطيني مهما كان، لم تشأ أن تجعل القضية التفاوضية مثار جدل واصطدام دون طائل، رغم قناعتها بانتفاء الشريك الإسرائيلي تفاوضياً، وجعلت من الواقعية الملتزمة عنواناً لعلاج أي تطور على هذا الصعيد مستقبلاً.

فلا "فيتو" على التفاوض مع دولة الاحتلال، ولكن التفاوض المنفلت المتهالك بأي ثمن شيء، والتفاوض الملتزم بأسس الندية، والمحصن بالحقوق والثوابت، شيء آخر.

الاتفاقيات.. المصلحة أولا

ما يقال في شأن المفاوضات يقال – أيضا- في شأن الاتفاقيات السياسية التي أبرمت سابقاً، فموازين المصلحة الوطنية هي المحدد الأساس لمدى وعمق الالتزام بهذه الاتفاقيات، ولا يمكن تصور قيام "حماس" بانقلاب سياسي على الوضع القائم بين عشية وضحاها، أو إحداثها تغييرات سياسية بنيوية يمكن أن تساهم في شلّ وتعطيل مصالح الفلسطينيين التي ارتبطت أساساً بإجراءات عملية قسرية في سياق هذه الاتفاقيات.

لذا فإن مبدأ الحكمة والتدرج في التعامل مع هذه الاتفاقيات لدى "حماس" يعتبر إجراء مشروعاً بكل المقاييس، يُعبّر عن مرونة عالية وسعة في الأفق والتفكير، وقدرة على التكيف مع الظروف المستجدة، تمهيداً لاستلام زمام المبادرة مستقبلاً.

ولعل في اشتراطات "فتح" حيال إلزامية هذه الاتفاقيات كمدخل للتوافق مع "حماس" تناقضاً صارخاً، وإشكالية وطنية تستعصي على الفهم والتبرير، إذ أن هذه الاتفاقيات تحتوي في بنودها وسياقاتها العديد من المحاور الضارة بالمصلحة الوطنية، وعلى رأسها المحور الأمني، الذي لا تقره "فتح" هذه الأيام، ما يعني أن مطلب الالتزام الكامل كشرط للتوافق والائتلاف مطلب تعجيزي أكثر منه سياسي برامجي.

أخطر ما في الأمر أن البعض لم يفتأ هجوماً وتجريحاً ضد الأفكار والمبادئ التي تطرحها "حماس"، ويغالي في بسط شروطه ومطالبه، ويجعل من الالتزام ببرنامجه حتماً مقضياً كأساس للتوافق والالتقاء، دون أي رغبة في التوافق على برنامج مشترك حول تقاطعات سياسية محددة، أو صيغة توافقية تشكل أساساً جامعاً بين الفرقاء!!

وبكل صراحة، لا أدري لماذا يُراد أن ينخفض بنا السقف السياسي دوماً، دون ثمن مقابل، وبحجة الاشتراطات الدولية التي ترمي إلى تقزيم حقوقنا وتطلعاتنا الوطنية؟!
 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع