توفيق الحاج

شاعر فلسطيني

tawfiq51@hotmail.com

  2/4/2005                                                  

النفاق .. سيد الأخلاق؟!

 

لم يكن اتفاق أوسلو كما يظن البعض مجرد تتويج لتحول مفاجئ في السلوك السياسي الرسمي الفلسطيني من التفاوض العلني في مؤتمر مدريد بمشاركة عربية وتغطية دولية إلى التفاوض السري بشكل منفرد وتحت غطاء أمريكي صرف في "أوسلو". وانما كانت له مؤشرات ومغازلات ممهدة وكما يقولون لا ولادة بدون حمل ولا حمل بدون جماع..!!

لقد كان هذا الاتفاق في حينه "تسو نامي" سياسية بكل معنى الكلمة، وقنبلة ارتجاجية اجتماعية أربكت الشارع الفلسطيني موافقيه قبل معارضيه، وجعلتنا بحق نفغر الأفواه دهشة رغم وجود بعض العلامات الموحية قبل ذلك الاتفاق بقليل ...

نعم كان زلزالاً سياسيا تجاوز الحد الأقصى حسب مقياس "ريختر" فكشف من فرط قوته ضعف الأسس الخرسانية لقيم الواجهة السياسيه عدا توابعها الآيلة للسقوط أصلاً والتي انهارت وتدهورت بفعل الضغوط الذاتية والبيئية المتمثلة في هوس الطموح والشهوة الفاقعة للظهور ولو على "كومة زبالة"..!!

في ظل الهزات المتلاحقة والتابعة لزلزال أوسلو وبعد عشر سنوات يبدو أن الخوف  من القادم شديد والتحسب له بالنفاق من ضعفاء النفوس أمر وارد خاصة وأننا نعيش الآن في "فلتة حكم" وشبه فراغ في السلطة بينما الاحتلال لا يزال أكثر تغولا في وجوهنا وأبشع تسمّرا في ظهورنا!!

***   ***

إنني لا أبالغ إن صحت محذراً من بوادر تناحر مؤلم وخطيرٍ في الشارع الفلسطيني على مستوى التوجهات والاجتهادات وحتى في العائلة الواحدة استعداداً لتصفية الحساب بالسلاح الذي أصبح يباع كما يباع (البصل) في سوق الخضار بل وأكثر من ذلك فقد جرت في شوارع غزة مؤخرا بعض الأمثلة العملية لهذه التصفية مع احترامي وإيماني بقميص الوحدة الوطنية الذي مزق ذات يوم بأيدي بعض الملوحين به .. والذاكرة لا تزال حية!!

***   ***

في ظل غياب القانون والجو المكهرب تجد النفوس الضعيفة في النفاق والتزلف وسيلتها للوصول أو الحماية وتكثر الصور المضحكة المبكية المخجلة.. تجدها في كل مكان في الشارع ... في المؤسسات ... في المدرسة ... في الجامعة ... في السوق ... في ... وفي... وفي ...

من هذه الصور مثلاً .. شخصية مرموقة تحولت في ليلة وضحاها الى 180 درجة من الدعوة للصدق والوضوح ورفض الحلول الأمريكية ومحاربة الفساد إلى التملق المكشوف والتزلج على جليد الكلمات ومحاربة الحُسّاد، وأصبحت لها نشرة يومية لأحوال الطقس السياسي المتقلبة. نعرف من خلالها إتجاه الريح  وسرعته.

صورة أخرى لفهلوي هيأ نفسه للمرحلة الجديدة بقدرته على السفسطة والمداهنة، فصار بابويا أكثر من البابا، بل وأعلن بعيون مفتوحة أنه يبيع مواهبه بالمزاد لمن يدفع أكثر "وعلى عينك يا تاجر"!!

صورة ثالثة لأُناسٍ على مستوى عالٍ من الثقافة قبلوا أن يكونوا مجرد تلاميذ مطيعين في "مافيا" أحد طلابهم الذي أصبح من أصحاب الشور والقول!!

***   ***

كثيرون هم المتملقون .. المطبلون .. المزمرون، ومن أراد رؤيتهم فليذهب إلى "المقرات" وسماسرة الواسطات . كثيرون هم المستعدون لبيع ذممهم بسعر " البندورة " من أجل فتفوتة صغيرة من كعكة السلطة . لكن كثيرون أيضاً بالمقابل  الذين يحترمون أنفسهم ويرفضون بيعها مهما كانت النتائج كما فعل صديق مبدع رفض الرقص على موقفه فحورب في لقمة عيشه.

ولا أدري لِمَ يخطر على بالي وبشدة ذلك الرجل الكبير جدا.. صاحب التاريخ الطويل العريض في شرح معلقات الالتزام الثوري!! الذي تحول فجاة إلى حمامة سلام  وديعة تغازل عيون الطرف الآخر وتفرض علينا نظرياتها الجديدة وأخلاقها الحميدة صباح مساء، ولا أدري لِمَ يصدمني موت الأحياء في ذلك العظيم!! الذي عشقنا دخانه المقاوم وخبأناه تحت الوسائد والبلاط كأي مادة ممنوعة .. لقد رضي "كحصان مروض" أن يجلس في مكتب مكيف كواجهة جذابة ملحقة بصحيفة من صحف دولةالقهر!! وشرب على تاريخ مجايليه الذين رحلوا بشرف بيرة "مكابي"!!

أنا لا أستغرب حدوث أمثال هذا السقوط في بحر العسل ولكن ما أستغربه حقاً هو تلك التبريرات التي يطلقها أولئك والتي تشف عما تحتها كما تشف ملابس الراقصة عن مفاتنها!!

انني أحترم جداً من يخالفني الرأي بقناعة وثباتٍ ووضوح وقد يكون صديقاً أعتز بصداقته لكن ما يغيظني فعلاً هو تلك الخاصية السائلية في بعض الأشخاص حيث ترى الواحد منهم يتشكل حسب الحدث فيبدو كحبة العدس أو كالماء لا طعم له ولا لون ولا رائحة .. كل ساعة في حال والأدهى من كل ذلك أنه يعرض بضاعته الجاهزة دوما  على كل مشترٍ ويوهم نفسه بأنه الأذكى بين الآخرين الذين قد يقع البعض منهم ضحية الديكور والهالة.

لقد شعرت بالأسى لمرأى صديق سيء الحظ استغله أحدهم ذات يوم وأوهمه بالذهاب إلى "المقاطعة" ليعرض مواهبه فإذا به لا يحظى حتى بحزمة (بقدونس) وانقلب على نفسه محبطاً .. مريضاً .. بعد أن منّى نفسه بالصيت والنفوذ وبعد أن عرف أنه "مضروب على قفاه"!!

***   ***

لا شك أني سمعت عن أناس ما شوقني للتعرف إليهم ولكن التجربة والمعاشرة كشفتا المخبوء ولم أملك عندئذٍ إلا الحزن وترديد القول المأثور "أن تسمع بالمعيذيُ خير من أن تراه"، وبالمقابل سمعت عن أناس آخرين ما ينفر. ولكني اكتشفت بنفس التجربة أنهم على قدر كبير من الالتزام والمصداقية …  من هنا علمتني الحياة ألا أحكم على إنسان بلونه أو منظره أو فذلكته أو نسبه، وإنما الحكم الأول والأخير لعمله ولصدقه مع نفسه والناس.

***   ***

أعود وأقول أن الظروف غير العادية والمربكة قد ساهمت في خلق صورٍ وهالات كاذبة قادرة على "الفهلوة" بينما هي في الحقيقة فارغة من كل شيء، وفي هذه الظروف نفسها قد يظلم أصحاب الكفاءة والموهبة والموقف لأنهم ليسوا ظلا لاحد ويرفضون استغفال الناس أو لا يملكون القدرة العملية للتعبير عن أنفسهم.

ومهما يكن في نهاية الأمر فالإنسان الشريف يفضل الموت على أن يسود النفاق ليصبح سيد الأخلاق.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع