الانتفاضة وأزمة الفلسطيني المتأمرك: أبو
مازن نموذجاً
د.
إبراهيم علوش
في معرض
امتداحه لما أسماه "صراحة" محمود عباس، أمين
سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية المكنّى بأبي مازن، حاول
السيد بلال
الحسن في مقالةٍ في صحيفة "الشرق الأوسط" يوم 1/12/2002 أن يمرر بشكل عرضي
الفكرة
القائلة بأن التيار الداعي لوقف كل المقاومة المسلحة في كامل فلسطين، والذي
عبر أبو
مازن عنه في سلسلة من المحاضرات والمقابلات أوضح تعبير، هو تيارٌ يمثل حسب
رأي بلال
الحسن اتجاهاً وطنياً فلسطينياً مشروعاً يحمله رجالٌ مناضلون. ولكن على
الرغم من كل
الجهود المبذولة فلسطينياً وعربياً لإعطاء طروحات أبي مازن حول وقف
المقاومة الآن
وفوراً أكبر مساحة إعلامية ممكنة، ولتقديمها كوجهة نظر عربية فلسطينية
مشروعة، فإن
أي مراقب موضوعي لا يمكنه أن يتجاهل أن وقف كل أشكال المقاومة في فلسطين هو
بالأساس
مطلب علنيٌ أمريكي وصهيوني، كما أنه المرحلة الأولى من "خريطة الطريق
للسلام"، وهو
اسم الخطة الأمريكية للقضاء على الانتفاضة ولتهدئة الجبهة الفلسطينية
استعداداً
لضرب العراق، حيث يفترض بالسلطة بموجب المرحلة الأولى من هذه الخطة أن تقضي
على كل
أشكال "الإرهاب" مقابل الانسحاب الصهيوني إلى حدود ما قبل الانتفاضة
الثانية!
وكان
محمود عباس/ أبو مازن قد ألقى سلسلة من المحاضرات
في الفعاليات الشعبية في الضفة الغربية وغزة دعا فيها إلى التخلي عن كل
أشكال
المقاومة المسلحة في الضفة والقطاع كما في الأراضي المحتلة عام 1948، سواء
كانت
أهدافها "مدنية" أو عسكرية. وقد نشر من هذه المحاضرات نص تلك التي ألقاها
أمام
رؤساء اللجان الشعبية في قطاع غزة في صحيفة "الحياة" يوم 26/11/2002 . وتبع
ذلك عدد
من المقابلات الصحفية مع أبي مازن بالاتجاه نفسه نذكر منها تلك التي نشرت
في
"الراية"
القطرية يوم 1/12/2002، وفي "الشرق الأوسط" يوم 8/12/2002، وقبلها في
"الأهرام"
يوم 1/12/2002.
ولكن نص
المحاضرة المنشورة في "الحياة" في 26/11/2002
يبقى الأكثر خطورة وإثارةً للجدال، لأنه النص الذي تفوح منه رائحة الفتنة
والدعوة
للاقتتال الفلسطيني- الفلسطيني، كبديل لمقاومة الاحتلال. ولا يمكن لوقف كل
أشكال
المقاومة المسلحة إلا أن يكون شعار التفكك والاقتتال الداخلي الفلسطيني،
فهذا هو
الدور الأمني المطلوب تنفيذُه من السلطة كي تثبت حسن نيتها للطرف
الأمريكي-الصهيوني: السعي لإنهاء المقاومة بالقوة.
ففي تلك
المحاضرة يتحدث أبو مازن عن الذين يقول أنهم
يسعون للحلول محل السلطة الفلسطينية، الذين يتهمهم أنهم يضعون مصالحهم
الشخصية
والحزبية أولاً، داعياً إلى استخدام القوة ضدهم عند الضرورة للجم الخارجين
عن ما
يتمنى أن يكون "الإجماع الفلسطيني"، بإصرارهم على ممارسة العمل العسكري في
الوقت
الذي يؤدي فيه إلى وصم الفلسطينيين ب"الإرهاب"، حسب رأيه، دون أن يكون له
أي جدوى..
ولن أناقش الجدوى من المقاومة المسلحة وتأثيراتها على التوازن الاجتماعي
والاقتصادي
وتدفق المستعمرين إلى الكيان، لأن غيري قد فعل ذلك بإسهاب. ولكني وددت أن
أنبه إلى
المذبحة التي يدعو لها أبو مازن باسم "التكتيك"، أو ما يعتبر أنها لعبته
الذكية
جداً من أجل جر شارون إلى طاولة المفاوضات لإسقاطه. كيف بالضبط؟ باستخدام
القوة عند
الضرورة ضد الفلسطينيين المؤمنين بالمقاومة المسلحة من أجل إسقاط شارون عن
طريق
التفاوض معه لنكشف للعالم أنه لا يملك مشروعاً للسلام.. فيا لها من لعبة لن
تجر
علينا إلا الدماء والفتنة!
لا شك
أن محاضرة أبي مازن تلك قد أثارت الكثير من ردود
الأفعال الإعلامية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر تفنيد عبد الباري
عطوان
التفصيلي لبعض ما جاء فيها في "القدس العربي والدولي" يوم 1/12/2002،
ومقالة عادل
أبو هاشم في صحيفة "الجزيرة" السعودية يوم 5/12/2002، ومقالة أسامة عليان
المنشورة
على الإنترنت يوم 4/12/2002، وقد تعامل الأخيران بكفاءة مع تصريحات أبي
مازن
كامتداد طبيعي لسجله السياسي الحافل بالمواقف الداعية منذ الستينات للتفاهم
مع
العدو الصهيوني وعدم التنسيق أو تعليق الآمال على العرب حتى في عملية
التسوية،
وسجله الحافل بالاتصالات مع العدو الصهيوني منذ عام 1974. بالمقابل، ظهر
عددٌ أقل
من المقالات المؤيدة للمحاضرة، منها مثلاً مقالة هدى الحسيني التي تروج
لأبي مازن
ومرشح حزب العمل الصهيوني ميتسناع، في "الشرق الأوسط" أيضاً، يوم 5/12/2002.
ولست في
معرض التفنيد التفصيلي لمحاضرة أبي مازن، أو
في معرض سرد ماضيه السياسي، على الرغم من أهمية هذين البعدين في نقد التيار
السياسي
الذي يمثله أبو مازن. فهو لا يمثل شخصه فحسب، بل حالة من الحالات الأكثر
وضوحاً في
ظاهرة الفلسطيني المتأمرك سياسياً. وهي ليست ظاهرة عربية فلسطينية أصيلة،
ناهيك عن
كونها ظاهرة تحملها رموزٌ مناضلة، وهي ظاهرة تشمل بعض من انتقدوا أبا مازن
من رموز
السلطة وأنصار التسوية بالمناسبة. هؤلاء يختلفون عن أبي مازن في الدرجة لا
في
النوع، كما تدل انتقاداتهم له. والفرق بينه وبينهم أنه سار في الخط الذي
تبنوه معه
إلى نهاياته المنطقية بصورة أسرع حيث وقف أمام تلك النهايات موقفاً أقل
تردداً وأقل
خجلاً. إذن، ما يهمنا من ظاهرة الفلسطيني المتأمرك هو عقليّته السياسية
التي تنتج
بالضرورة مواقف مثل مواقف أبي مازن، وعندما نغوص في هذه العقلية، سنجد أن
الآلية
التي تحكمها هي نفسها عند أبي مازن وعندهم. وفي رحم تلك الآلية يتكون هذا
الموقف
السياسي، ولو اختلفت مراحل النمو في الحالات المختلفة حسب درجات التغذية
التسووية.
نعم، لا
شك أن أبا مازن قد قرأ "خريطة الطريق"
الأمريكية وأن تصريحاته لا تنفصل عن ما جاء فيها. وكنت قد أشرت في مقالةٍ
سابقة أن
أهم ما في هذه الخريطة، بالإضافة إلى مشروعها للقضاء على الانتفاضة، هو
تغيير
البنية السياسية والأمنية للسلطة بشكل يؤدي إلى "تغيير نظام" عرفات وإضعاف
كل من
يخلفه. وقد أعلن الأمريكيون والصهاينة مراراً عن رغبتهم باستبدال عرفات
أكثر من مرة
إذا لم يفعل ما يطلب منه حرفياً. لذلك، ليس غريباً أن يسعى أبو مازن إلى
تزكية نفسه
عند الإدارتين الأمريكية والصهيونية كرئيس وزراء محتمل أو ربما كخليفة
لعرفات، مع
أنه ينكر هذا الأمر في مقابلاته الصحفية. ولكنه يطرح الإصلاح الإداري
والأمني
(توحيد
الأجهزة الأمنية) تماماً كما يريد الأمريكيون، ويتبنى إيقاف الانتفاضة
بالكامل وفوراً تماماً كما يريدون. فلو لم يكن يرغب برئاسة السلطة أو
وزارتها
فعلاً، ل"ضغط" عليه الأمريكيون فيها، والموضوع، كما يقول هو، ليس شخصياً في
النهاية، بل تحمل للمسؤولية...
النقطة
الأساسية هنا هي أن تصريحات أبو مازن قد تكون
قد تزامنت مع "خريطة الطريق" الأمريكية بشكل مقصود أو غير مقصود، وليس هذا
المهم.
وليس كل من يفكر كأبي مازن يطمح بأن يصبح رئيساً للوزراء أو للسلطة. المهم
هو
العقلية، أو لغة الحاسوب الذي كتب فيها هذا البرنامج. ونلاحظ هنا من خطاب
أبي مازن
نفسه ما يلي:
1.
أنه يعتبر أن لا جدوى من خوض المعارك مع "إسرائيل"،
فهي، حسب رأيه، "دولة تم بناؤها لتنتصر على العالم العربي مجتمعاً بلحظة
واحدة"
2.
متى سلمنا بهذه المقولة كحقيقة سياسية أزلية، على
الأقل في المدى المنظور، يصبح منطقياً أن نستنتج: أ – أن عسكرة الانتفاضة
ضربٌ من
العبث في أحسن الأحوال، ب - أن لا فائدة من الدول العربية أو الشارع العربي
بالنسبة
للفلسطينيين
3.
أن الحل يصبح قبول الأمر الواقع، وهو التفوق
"الإسرائيلي"،
ومحاولة الحصول على الحد الأقصى الممكن من خلال المفاوضات مع الطرف
الأمريكي – الصهيوني
4.
بناءً على ما سبق، فإن عدم فائدة الدول العربية
والشارع العربي في التأثير على الطرف الأمريكي – الصهيوني تجعل التقيد بأي
نوع من
التنسيق مع العرب، حتى في المفاوضات، عبئاً لا طائل منه
5.
بما أن مراكز القوى الأهم تقع في أمريكا و"إسرائيل"،
فإننا يجب أن ننظم عملنا السياسي، إذا أردناه أن يكون مؤثراً، على إيقاع
التوازنات
الداخلية في هاتين الساحتين، وليس على إيقاع الأهداف الوطنية أو القومية أو
الإسلامية، مهما بدت مشروعة أو عادلة
6.
من هنا، يصبح منطقياً أن ينتقد أبو مازن بشدة، وأن
يميل معه بلال الحسن في ذلك، مشاركة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام
1948 في
الانتفاضة، وأن يطلب عوضاً عن ذلك منهم أن يكتفوا بإرسال المواد التموينية
والمشاركة بالتظاهرات مع ما يسمى بحركات السلام "الإسرائيلية"، والأهم،
يطلب منهم
أن يشاركوا بكل ما يملكون من زخم في النظام الانتخابي "الاسرائيلي"
7.
بما أن القوة هي بيد الطرف الأمريكي – الصهيوني، فلا
بد من الخضوع له وتنفيذ ما يريد، مع محاولة الحصول على أكبر قدر ممكن من
المكاسب
خلال ذلك، أما "المقاومة" و"الصمود" وما شابه، فمجرد شعارات فارغة تضر أكثر
مما
تنفع، وتؤدي إلى وصمنا بال"إرهاب".
إن ما
سبق، بغض النظر عن الطريقة المحددة التي صيغ
بها، يمثل البنية الأساسية لعقلية الهزيمة والاستسلام في الساحة السياسية
(لا
قناعاتي بالتأكيد). والأساس في هذه البنية يبقى مبدأ التفوق الصهيوني –
الأمريكي
وضرورة العمل من تحت سقفه. ونلاحظ هنا أن الاستراتيجية المنطلقة من الخضوع
لمبدأ
التفوق الصهيوني وأزليته، وهي جوهر العقل التسووي، تنتج مبررات أوسلو كما
تنتج
الأسبابُ النتائجَ. فالخط السياسي لأبي مازن وأبي علاء اكثر انسجاماً
وتماسكاً
بكثير في منطقه الداخلي من الخط السياسي للتسوويين الذين يقبلون التسوية،
ولكن ليس
التسوية المنفردة، أو يقبلون التسوية، ولكن ليس بالشروط الأمريكية -
الصهيونية، أو
يقبلون التسوية، ولكن ليس دون دويلة فلسطينية "كاملة السيادة". فالتسوية،
أية
تسوية، لا تتم إلا بناءً على موازين القوى، وبالتالي، فإن الانطلاق من
مقدمة التفوق
الصهيوني من أجل تبرير القبول بالتسوية لا يمكن إلا أن يعني القبول
بالتسوية
بالشروط الأمريكية – الصهيونية، فليست هناك تسوية غيرها لمن يروم التسويات،
وكما
يقول أبو مازن: "نحن لم نوقع أوسلو والدبابات العربية تحاصر تل أبيب".
فالهزيمة
النفسية وتهتك الدفاعات الداخلية هما المقدمة الضرورية للانزلاق في هذه
الهاوية
السحيقة، ومتى بدأ الانزلاق، يصبح الفرق بين أبي مازن والذين ينتقدونه من
مؤيدي
التسوية في السلطة وخارجها فرقاً في الدرجة، لا في النوع، كما سبق ونوهت.
في
الرد، نقول:
1.
أن فهم الواقع وقوانين حركته بشكل دقيق يختلف تماماً
عن القبول بهذا الواقع والاستسلام له. فالطبيب يدرس السرطان لكي يستأصله،
والاقتصادي يدرس الكساد والتضخم ليزيلهما، والمجاهد يدرس الموقع الصهيوني
ليهاجمه،
والمؤمن يحاول أن يفهم حدود الباطل ليتجنبه. ففهم الواقع وقوانين حركته
بشكل علمي
لا يعني على الإطلاق القبول بهذا الواقع، بل يعني أن علينا أن نطلب العلم
ولو في
الصين من أجل فهم هذا الواقع وصولاً إلى تغييره رأساً على عقب.
2.
أن في الأمة إمكانات وموارد مادية وبشرية هائلة، وهو
ما لا يملك أن ينكره أحدٌ، حتى المستسلمين، ويمكن لجزءٍ منها لو عبئ ونظم
أن يقلب
موازين القوى، و"تلك الأيام نداولها بين الناس"، فلا ميزان قوى أبدي أزلي
3.
أن تجارب الشعوب والفئات الاجتماعية المستضعفة تدل
بوضوح على أن التغلب على القوى الاستعمارية أو الاجتماعية المستكبرة ممكنٌ
عند وجود
الاستعداد للتضحية، وها هي نماذج فيتنام والجزائر وجنوب لبنان تشهد على
ذلك، و"كم
من فئة قليلة غلبت فئة كثيرةً بإذن الله"
4.
أن الجسر الذي يمكن أن تنتقل عبره الشعوب من الهزيمة
إلى النصر هو الجهاد والنضال والعمل، "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله
والمؤمنون"، ولاحظ هنا أن العمل لا بد له أن يكون ذا نتائج مادية ملموسة
بالضرورة،
وإلا كيف سيراه المؤمنون أيضاً وهم مجرد بشر؟! ولاحظ واو الجماعة هنا أيضاً
في
"اعملوا"،
فالكلام موجهٌ إلى الجماعة لا إلى الفرد
5.
أن حجر الزاوية في العمل السياسي والعسكري يجب أن
يكون الإيمان بحتمية النصر، لأن عدالة قضيتنا لن تحوجنا يوماً أن ننقض حقنا
لكي
نكسب الأنصار في الرأي العام الدولي، ولأن إمكانياتنا العربية والإسلامية
الهائلة
غير المعبأة وغير المنظمة لما تنضب حتى نضطر لتقديم التنازلات على الأسس
والمبادئ
بذريعة كسب الرأي العام في معسكر الأعداء، ولأن الواقع، بكل سوئه وهزائمه،
ليس إلا
من صنع أيدينا وإحباطنا وجهلنا وتهاوننا في حقوقنا. "ولا تهنوا ولا تحزنوا
وانتم
الأعلون إن كنتم مؤمنين"، ولك أن تلاحظ في السياق المعاصر أن الإحباط
والهوان
السياسي شرطهما التخلي عن الإيمان بحتمية النصر، ومن ثم كل إيمان. ومرة
أخرى، تجد
الكلام في الآية الكريمة بصيغة واو الجماعة، عن الهوان عند الأمة، لا عند
الفرد
فحسب، والعلو والإيمان عند القوم، فالكلام هنا سياسي، لا يتعلق بالإحباط
الفردي، بل
يهدف إلى ترسيخ الإيمان بحتمية النصر
6.
أن الحلقة المفقودة في عملنا السياسي اليوم، ونقطة
الضعف المركزية في الواقع العربي، هي غياب واو الجماعة، أي غياب الإرادة
الجماعية
والموقف الجماعي وأطر العمل الجماعي الفعالة على المستويين الرسمي والشعبي،
وليس
غياب الطاقات أو الرغبات أو عدم القدرة على ممارسة التكتيك السياسي عندما
تقتضي
الحاجة
7.
أن غياب الأداة أو المرجعية القادرة على تعبئة طاقات
الأمة ككل في مواجهة التحديات والمخاطر لا يبرر التفريط والتهاون بحقوق
الوطن
والمستضعفين من قبل من يدعون أنهم يمارسون "التكتيك" من أجل تحقيق "الممكن
هنا
والآن"، بل أنه يطرح الحاجة إلى إيجاد خطوط دفاعية محلية ونقاط اشتباك
موضعية في
الواقع وفي الفكر، في السياسة وفي الإعلام وفي الميدان، يمكن لها: أ – أن
تخفف من
اندفاع العدو، ومن ذلك مثلاً كل أشكال مناهضة التطبيع مع العدو الصهيوني، ب
- أن
تتحطم عليها استراتيجية العدو، ومن ذلك مثلاً العمليات الاستشهادية في
الوطن المحتل
إن ما
سبق، بغض النظر عن الطريقة المحددة التي صيغ
بها، يمثل البنية الأساسية لعقلية المقاومة في الساحة السياسية، وكل القوى
التي
تفكر بالمقاومة، سواء كانت إسلامية أو وطنية أو قومية أو يسارية أو مستقلة.
والأساس
في هذه البنية يبقى مبدأ الإيمان بالقدرة على تغيير الواقع من خلال العمل
والنضال
والتضحية، وهو نقيض مبدأ الخضوع للتفوق الصهيوني – الأمريكي وضرورة العمل
من تحت
سقفه، وهو المبدأ الذي تنبثق من جبهته عقلية التسوية. وكما في حالة معسكر
التسوية،
فإن الذين يتبنون الفكر المقاوم قد يختلفون بالدرجة، بمقدار انسيابهم مع
المنطق
الداخلي لخط المقاومة، ولكنهم لا يختلفون بالنوع، لأنهم جميعاً ينطلقون من
مقدمة
رفض ظلم الأمر الواقع والإيمان بإمكانية تغييره بالمقاومة، والمقاومة
مستويات.
والخلاصة، إن من يبدأ من هذه المقدمة، لا يمكن إلا أن يصل إلى استحالة
إزالة
الاحتلال إلا بالعنف، فإن لم يؤيد هذا العنف بيده، أيده بلسانه، وذلك أضعف
الإيمان.
في
الواقع، إن عنف الاحتلال الوحشي في الأشهر الأولى
للانتفاضة التي لم تتخللها عمليات استشهادية، وإطلاقه النار على العزل دون
حساب مما
ترك مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعاقين، تحت أنظار "الشرعية الدولية"
وصمتها، كان
أحد العوامل الأساسية التي أدت لا إلى "عسكرة الانتفاضة" فحسب، بل إلى
انكشاف نهج
التسوية بالكامل في الشارعين الفلسطيني والعربي. وكان من نتائج تلك
"العسكرة" هزات
عنيفة في المجتمع الصهيوني لم تحدث مثلها كل الحروب السابقة. وكان من
المفترض أن
يؤدي ذلك إلى تعزيز نهج المقاومة بشكل لم يسبق له مثيل أيضاً بعد عقد
التسعينات
الرمادي الذي اختلط فيه الحابل بالنابل والوطنية بالخيانة. ولكن الحصار
المطبق الذي
فرضته الأنظمة العربية على الانتفاضة عسكرياً ومالياً وفي الشارع العربي،
والحصار
المعيشي الخانق والمطول الذي فرضه الاحتلال على المدن والبلدات الفلسطينية
في الضفة
وغزة، والحصار السياسي الذي فرضته السلطة على البرنامج السياسي للانتفاضة
في
تفاعلها مع المشاريع المطروحة للقضاء على الانتفاضة بهدف الحفاظ على وجودها
وآخرها
مشروع "خريطة الطريق للسلام"،
كل ذلك أدى إلى عودة الروح لرموز نهج أوسلو، وعلى
رأسهم أبو مازن، وإلى بروز نهج ثالث، ليس تسووياً، وليس مقاوماً، بل يقع في
منزلة
ما بين المنزلتين.
النهج
الثالث بالطبع هو ذاك الذي بدأ يتحدث عن الحاجة
إلى اقتصار العمل العسكري على الضفة وغزة، وإلى ضرورة تجنب "المدنيين" في
الأراضي
المحتلة عام 1948، والحاجة إلى مخاطبة الرأي العام "الإسرائيلي"، ومزج
العمل
العسكري بالمفاوضات. وقد أشارت مقالة في "الوطن" السعودية يوم 10/12/2002
لهذا
النهج وبعض أبرز أنصاره باعتباره نهجاً بديلاً لنهج أبي مازن وأوسلو،
والواقع أنه
المقدمة الزمنية والسياسية لعودة نهج أوسلو إلى السطح، فقد جعل مشروعية
العمل
العسكري في كامل فلسطين في موضع الشك، وخلخل الصفوف، وبذر الفرقة في الصف
الوطني
تحت حجج شتى بعضها سياسي وبعضها أيديولوجي، حتى ولو بقي الشعب الفلسطيني في
الأعم
الأغلب مع نهج المقاومة دون تحفظ. ومرة أخرى أقول أن أنصار النهج الثالث قد
يختلفون
عن بعضهم في هذا التفصيل أو ذاك، فبعضهم يريد أن يقصر العمل العسكري على
العسكريين
الصهاينة فقط في الضفة وغزة دون المستوطنين، وبعضهم يريد النهج الثالث لما
يعتقد
أنه اعتبارات "تكتيكية" فقط دون التشكيك بالعمل العسكري في كامل فلسطين من
حيث
المبدأ، بينما يرى آخرون أن عدم استهداف اليهود في الأراضي المحتلة عام
1948 ينبع
من اعتقادهم بمشروعية الوجود الصهيوني فيها ومن اعتراف منظماتهم بهذه
المشروعية.
ولكن الثابت في هذا النهج الثالث يكمن في أنه شكل تزعزعاً في جدار
الانتفاضة
السياسي، فكان بذلك الخلفية الضرورية لتجرؤ أبي مازن على الانتفاضة ودعوته
لبقائها
في إطار العصيان المدني، دون اللجوء للسلاح، لا في
الضفة وغزة، ولا في الأراضي
المحتلة عام 1948، لا ضد العسكريين، ولا ضد "المدنيين" في الكيان، وهو ما
ينسجم
تماماً مع ما يريده الطرف الأمريكي – الصهيوني.
طبعاً
أنا لا أطرح النهج الثالث كمؤامرة أو كاختراق
أمني، أو للتشكيك بوطنية أنصاره، ولو كانت لدي بعض علامات الاستفهام على
بعض رموزه،
بل أطرح أن الطرف الأمريكي – الصهيوني وممثليه في الساحة الفلسطينية
استفادوا
موضوعياً من اللغط حول العمليات الاستشهادية الذي أثاره أنصار النهج
الثالث. ولكن
الأهم هو أن نتساءل: من يمثل أنصار النهج الثالث في الساحة الفلسطينية؟ ومن
يمثل
نهج المقاومة؟ ومن يمثل أبو مازن وأبو علاء وأمثاله في الساحة الفلسطينية؟
ولماذا
قويت شوكتهم مؤخراً؟ وعن من يتحدث أبو مازن عندما يدعي أن الشارع الفلسطيني
بشكلٍ
عام يؤيد دعوته لوقف العمل العسكري بالكامل؟ وهل صحيحٌ ما أتت به "السفير"
اللبنانية يوم 29/11/2002 عن الاستفتاء الذي ادعى أن ثمة تحولٍ قد طرأ على
الشارع
الفلسطيني والذي ادعى أن أكثر من نصف الفلسطينيين باتوا يؤيدون وقف العمل
العسكري
بكافة أشكاله؟
أن من
يقرأ مثل هذه الاستفتاءات ويسمع أبو مازن
وأمثاله قد يتخيل أن جدار الصمود الفلسطيني قد بدأ ينهار أن لم يكن قد
انهار
بالفعل. ولعل هذا هو الانطباع الذي يريد أن يتركه أنصار التسوية فينا عندما
يكثرون
من الحديث عن معاناة الشعب الفلسطيني لكي يبرروا الحاجة إلى التخلي عن
الانتفاضة،
ولينصحوا أهلنا في الأراضي المحتلة عام 1948، عوضاً عن المشاركة
بالانتفاضة،
بالمشاركة بالانتخابات التشريعية "الإسرائيلية". ولكن الحقيقة أبعد ما تكون
عن ذلك،
فأنصار التسوية أقل قسم يعاني في الشعب الفلسطيني، فضلاً عن أن هذا الشعب
مازال يخط
بدمه وتضحياته كل يوم معجزات الصمود والمقاومة كما هو دأبه منذ قرن،
والمقاومة
المسلحة ما برحت بخير تقض مضاجع بني صهيون قضاً، ويدعمها الشعب الفلسطيني
دون حساب
ويطويها بجناحيه في ليالي الاحتلال، وحركة مقاطعة انتخابات الكنيست في
الأراضي
المحتلة عام 1948 كانت على أشدها في الانتخابات الماضية، وهناك مبادرة من
حركة
أبناء البلد مثلاً لتعزيز حركة المقاطعة في الانتخابات "الإسرائيلية"
المقبلة.
بيد أن
هذا لا يغير أن هناك بعض الشرائح الاجتماعية في
المجتمع الفلسطيني التي باتت تتأذى من الانتفاضة بقدر ما يتأذى منها
المحتلون
الصهاينة، فهؤلاء يتعاملون مع الانتفاضة كعائق أمام مزاولتهم للتجارة
المربحة
وللحياة المرفهة التي تعودوا عليها. والأهم أن مثل هذه الشرائح التي كانت
ترفل
بالعمولات والامتيازات في ظل سلطة أوسلو، باتت تشعر أن دورها السياسي
والاقتصادي
والثقافي معرضٌ للتهميش والشطب في الجو الذي تهيمن فيه عقلية المقاومة.
هؤلاء هم
شريحة الكمبرادور الفلسطيني بالتعبير العلمي، أو شريحة الوسطاء الذين
يتعيشون من
الدور السياسي والاقتصادي والثقافي الذي يلعبونه في المجتمع الفلسطيني
لمصلحة الطرف
الأمريكي – الصهيوني، هؤلاء "الذين يكنزون الذهب والفضة" ويتصيدون
الامتيازات، وهم
أبعد الناس عن معاناة الشعب الفلسطيني، باتوا يشعرون أنهم في أزمة لا يمكن
أن تنتهي
إلا بإيقاف الانتفاضة، وهذه الأزمة هي التي يعبر عنها أبو مازن في ما ذهب
إليه
عندما طالب بالعودة عن "عسكرة الانتفاضة". فأبو مازن، حتى لو كان يتحرك
جزئياً
بناءً على قراءته للرغبة الأمريكية بالتخلص من عرفات، كان واضحاً في حديثه
عن مساوئ
الانتفاضة على الاستثمارات عن الجهة التي يعبر عن مصالحها، وكان واضحاً
واضحاً في
المثال الذي قدمه عن جاره التاجر الذي جاءه محتجاً على تأثير الانتفاضة على
أعماله
قائلاً أنه سيغادر إلى غير رجعة، ولو أن أبا مازن ادعى أن أهل مخيم جنين
مثلاً أتوه
محتجين على استمرار الانتفاضة لما صدقه أحد، لأن هذا سيكون غير معقول، لأن
أهل مخيم
جنين يحملون عبء استمرار الانتفاضة أكثر بكثير من جيران أبي مازن، ولكنهم
رفضوا
مغادرة المخيم حتى بعد تدميره على رؤوسهم. وهؤلاء، وليس تجار أبي مازن هم
الشعب
الفلسطيني، وهم الذين يمثلون موقف الشعب الفلسطيني، أما صيادو الامتيازات
ف"رحمة
ربك خيرٌ مما يجمعون".
لاحظوا
أيها الاخوة القراء بالمناسبة التوزيع الجغرافي
للمنازل التي ينسفها الاحتلال في الضفة وغزة انتقاماً من الاستشهاديين
والمقاومين
وعائلاتهم، وستجدون أنها في معظم الأحيان، وليس دائماً، منازلُ تقع في
القرى
والمخيمات أو في الأحياء الفقيرة في المدن. وستجدون أن نسبة عالية جداً
منها تقع في
شمال الضفة الغربية في بلدات جنين وطولكرم وقلقيلية التي تعيش من الزراعة
والمياومة
بالأساس. هذه هي الجغرافية الاجتماعية للمقاومة. ولا ننسى أن عاصمة السلطة
سقطت في
أقل من ساعة، ولا ننسى في أي أجزاء دارت أشرس المعارك مع الاحتلال. في تلك
المساحات
الاجتماعية يوجد ملح الأرض وبارود الثورة، وهناك آبار المقاومة، والقواعد
الأهم
لنهج المقاومة. هؤلاء الفقراء أصلاً أصبحت معاناتهم أشد في ظل الانتفاضة،
ولكن
التدهور النسبي في وضعهم المعيشي من فقير إلى أفقر يبقى أقل بكثير من
التدهور
النسبي الذي يصيب أصحاب الامتيازات أو من يسعون ليصبحوا كذلك. لذلك، تبقى
رؤيتهم
السياسية أوضح ويبقى موقفهم أكثر صلابةً، خاصة وأن زمن الثورة هو زمانهم
وعيدهم
وفرصتهم للتخلص من القيود، ولذلك تراهم يذهبون حتى نهاية المطاف في
المقاومة.
بالمقابل، هناك من الفئات الاجتماعية الفلسطينية من هم
ليسوا من القرى والمخيمات وأحياء المدن الفقيرة، وليسوا من أصحاب
الامتيازات، بل
يقعون في منزلة ما بين المنزلتين، وهؤلاء ربما يكونون من أنصار التيار
الثالث الذي
يقع بين نهجي المقاومة والتسوية، الذين لا يقوون على السير في نهج المقاومة
حتى
النهاية ولا يقوون على القبول بنهج التسوية حتى النهاية، لأن مصالحهم
ووعيهم
السياسي في غير ذلك في الحالتين. ولو توفرت بيانات العينة الصغيرة التي
أجري عليها
الاستطلاع الذي قيل أنه يكشف عن تحولٍ في موقف الشارع الفلسطيني من العمل
العسكري
من حيث توزيع المشاركين الجغرافي والاجتماعي لتبين على الأرجح أن نسبة
كبيرة من
المشاركين فيه تأتي من غير المخيمات والقرى وأحياء المدن الفقيرة، وهم
أغلبية
الشعب. فهذه العينة في علم الإحصاء تسمى عينة متحيزة، أي عينة غير معبرة
بشكل صحيح
عن المجتمع الذي اختيرت منه، وبالتالي فان النتائج المستخلصة منها لا يمكن
تعميمها
على ذلك المجتمع بأي حالٍ من الأحوال.
طبعاً،
هناك الكثير من المرفهين الذين يتخطى وعيهم
حواجز الامتيازات بجدارة بفعل الالتزام الوطني والعقائدي، ولكن هؤلاء ليسوا
القاعدة
بل الاستثناء، فأغلبيتهم على مواقف الوليد بن طلال لا أسامة بن لادن مثلاً.
ففي
إحصاء قامت به "السبيل" قبل أشهر، تبين أن ثلث الاستشهاديين يحملون شهادات
جامعية،
وأن حفنة من هؤلاء من عائلات مرفهة نسبياً. ولكن يبقى أن الأغلبية ليست
كذلك، وإن
كانت المقاومة ظاهرة تخترق كافة فئات ومناطق الشعب الفلسطيني، فأن الذي لا
شك فيه
هو أن عبئها الأكبر يقع على كاهل الكادحين في هذا الشعب، والفئات الأكثر
التزاماً
منه سياسياً وعقائدياً. ولهذا، فإن ما سبق يسعى لوصف القواعد الاجتماعية
للمواقف
الأساسية الثلاث في الساحة الفلسطينية إزاء المقاومة والتسوية كما تتجلى في
الممارسة السياسية لهذه القواعد. فالحديث لا يدور هنا إذن على الإطلاق حول
الانتماءات الاجتماعية والجغرافية لقيادات بعينها في التيارات السياسية في
الساحة
الفلسطينية، أو لهذا المقاوم بالتحديد أو لذلك العميل بالذات، لأن طرح
المسألة من
خلال أمثلة فردية يجعلنا غير قادرين على رؤية الخطوط العامة. يكفي أن نقول
أنها لم
تكن صدفةً أن يبني الشيخ المجاهد عز الدين القسام ثورة ال36 على خلايا
فقراء
الفلاحين في الوقت الذي كانت العائلات الإقطاعية الفلسطينية فيه تتخذ
موقفاً وسطياً
من الاحتلال البريطاني ومن الحركة الصهيونية. ولهذا حقّ القول:
"ونريد
أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم
أئمةً ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض" صدق الله العظيم
|