المقاومة أخرجت شارون من غزة
بقلم:
د. عبد الستار قاسم*
ليس
غريبا أن تتجاوز التصريحات السياسية والإعلامية لمسؤولين عرب وفلسطينيين
بالتحديد المقاومة الفلسطينية بشأن خطة شارون الانسحاب من قطاع غزة. من
الواضح أن أطرافا كثيرة عربية وغير عربية لا تريد أن تمنح المقاومة
الفلسطينية وسام الإنجاز أو حتى التأثير على صناعة القرار الإسرائيلي. ومن
البين أن وسائل إعلام عربية وأجنبية رئيسة وهامة تعمل متعمدة على تجاهل دور
المقاومة الفلسطينية في تغيير تطلعات رئيس وزراء إسرائيل والعديد من أقطاب
طاقمه القيادي. الدليل على هذا هو ما تردد على مسامع العربي عبر أشهر عدة
من تصريحات ولقاءات وتعليقات سياسية وإعلامية غير متوازنة.
السؤال
المطروح أمام كل ذي لب هو: لماذا قرر شارون فجأة أن يتخلى عن نفسه
آيديولوجيا وكأب للاستيطان. لقد آمن على مدى عقود بأن فلسطين الانتدابية هي
جزء من أرض إسرائيل الكبرى، وآمن بأنه يجب زرع هذه الأرض بالمستوطنات. لقد
دافع دفاعا مرا عن الاستيطان وطلب من اليهود الاستيلاء على قمم الجبال
والتأسيس لمستوطنات جديدة جنبا إلى جنب توسيع المستوطنات القائمة. فكيف
يخرج شارون من جلده الآن ويتحول إلى مواقف الذين هاجمهم سابقا؟ هل تلبسه
فجأة عقل الحكمة، أم أنه فشل في تحقيق ما تطلع إليه؟
تقول
السلطة الفلسطينية أن خروج شارون من غزة عبارة عن مؤامرة تستهدف الالتفاف
على خريطة الطريق من أجل قطع الطريق على إقامة دولة فلسطينية. إنها تقول
بأن تفكيك مستوطنات غزة عبارة عن غطاء لنقل المستوطنين إلى الضفة الغربية
حتى لا تعود الضفة الغربية صالحة لإقامة دولة. هذا تعليل لا معنى له، بل
يتجاوز ليصل حد الهذيان. المطلب الفلسطيني وكذلك العربي منذ عشرات السنين
هو أن يتم تفكيك المستوطنات وأن يخرج الاحتلال بغير رجعة. أصرت منظمة
التحرير سابقا على تحرير الوطن وذلك من خلال الكفاح المسلح، واعتبرت أن كل
محاولات التفاوض مع إسرائيل عبارة عن خيانة عظمى لا تغتفر. الآن إسرائيل
تريد أن تخرج بدون مفاوضات وبدون اتفاقيات، فأين المؤامرة في ذلك؟ بحق
الله، نريد أن نعرف كيف يمكن أن يكون تفكيك الاستيطان مناورة؟
إذا
كانت المؤامرة هي توسيع الاستيطان في الضفة، فالاستيطان لم يتوقف، وأعمال
البناء ومصادرة الأراضي مستمرة حتى الساعة. وألا يمكن توسيع الاستيطان في
الضفة دون تفكيك مستوطنات غزة؟ هذا ربط عجيب ويبدو أن القصد منه هو
الاستهزاء بذكاء المستمع أو القارئ. هذا فضلا عن أن أعداد المستوطنين في
غزة قليل جدا بالنسبة لأعدادهم في الضفة الغربية، ومن الممكن أن تنتهي إلى
نسبة ضئيلة جدا أمام سياسة استيطانية تقدم مغريات مادية واقتصادية لليهود.
إذا
كانت المسألة متعلقة بخريطة الطريق، فإن المطلع لن يجد صعوبة في التأكد من
أن خطة شارون تتفوق على خريطة الطريق من ناحية تفكيك الاستيطان والانسحاب
من دون قيد أو شرط. خريطة الطريق تدعو الطرفين إلى تهدئة الأمور ومن ثم
العودة إلى طاولة مفاوضات عساها تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية. إنها لا
تعرّف ما هي الدولة، وربما تعني دولة تكون وكيلة للاحتلال وليس دولة حقيقية
ذات سيادة فعلية. والخريطة لا تدعو إلى تفكيك الاستيطان ولا تدعو إلى
انسحاب غير مشروط. البكاء على خريطة الطريق يثير حقيقة الريبة والشك.
لكن
شارون طمأن الأطراف العربية المتباكية قائلا بأنه يتمسك بخريطة الطريق
وبإقامة دولة فلسطينية. لا أحد بالطبع يعرف ماذا يعني بهذه الدولة.
تضيف
السلطة بأن الخطة مؤامرة لأن شارون لم ينسق معها تخطيط الخطة، ولن ينسق
تنفيذها. قبل سنوات كانت القيادة الفلسطينية تصف المنسقين مع إسرائيل
بالخونة، فهل مطلبها الآن يندرج تحت عنوان الخيانة؟ وهل كل تلك الاتهامات
التي وجهت عبر سنوات لأشخاص وأنظمة عربية كانت من قبيل المزايدة؟ وهل العمل
يبقى خيانيا ما دام الذي يمارسه أحد غيري، ويصبح وطنيا عندما أمارسه أنا؟
ثم ما هي الحكمة من طلب التنسيق؟ لماذا تريد السلطة الفلسطينية تنسيقا
مسبقا قبل إقرار الخطة وقبل الانسحاب؟ هل بهذا التنسيق ستمنع السلطة طائرات
إسرائيل ودباباتها ومدافعها من قصف قطاع غزة وملاحقة الآمنين وغير الآمنين؟
المسألة
لها أبعاد سياسية وسيكولوجية. المقاومة الفلسطينية هي التي أخرجت إسرائيل
من غزة، ليس بسبب قدرتها العسكرية وإنما بسبب قدرتها على قض مضاجع الأمن
الإسرائيلي. تشكل المقاومة الفلسطينية همّا أمنيا إسرائيليا كبيرا يترتب
عليه نفقات مالية هائلة. لقد عانت إسرائيل كثيرا من المقاومة في القطاع مما
دفع شارون في النهاية إلى التخلي عن أسلحته الآيديولجية لصالح الهروب من
المشاكل والهموم. صحيح أن الصواريخ لا تشكل ترسانة عسكرية ذات مواصفات
تقنية هائلة، لكنها تناغمت مع العمل الاستشهادي الذي انطلق بأشكال متنوعة
لتعمق من هموم إسرائيل الأمنية.
السلطة
الفلسطينية لا يمكن أن تقر بإنجاز المقاومة الفلسطينية، وكذلك تفعل الدول
العربية التي تدفع باتجاه القضاء على المقاومة لصالح المفاوضات. لقد فاوضت
القيادة الفلسطينية على مدى سنوات، وانتهت أعمالها إلى وكيل للاحتلال غير
مرغوب فيه وإلى فساد ألحق الأضرار الفادحة بالشعب الفلسطيني. لقد عملت على
قتل المقاومة ووأدها، لكنها لم تستطع. وهذا بالتحديد ما يمنع إسرائيل من
التنسيق مع السلطة بشأن الانسحاب. إنها سلطة، بالنسبة لإسرائيل، عاجزة عن
القيام بالمهام الأمنية التي ألقيت على عاتقها في الاتفاقيات على الرغم من
كل نواياها الطيبة في هذا المجال. أرادت إسرائيل ضمانات عربية للتنسيق مع
السلطة، لكن هذه الضمانات اصطدمت برفض فصائل المقاومة التخلي عن السلاح وعن
المقاومة.
اعتراف
السلطة الفلسطينية والدول العربية التي تدعمها بإنجاز المقاومة عبارة عن
إدانة ذاتية وإقلال من شأن المفاوضات والمبادرات السياسية. في نفس الوقت،
هو عبارة عن تعزيز لروح المقاومة ولفكرة أن المقاومة هي الوسيلة الوحيدة
لإخراج إسرائيل من الأرض المحتلة عام 1967. بمعنى أن الاعتراف عبارة عن
انتحار، ومن الأفضل تشويه صورة تفكيك المستوطنات لتنعكس الأمور سلبا فلا
يحظى مؤيدو المقاومة بنشوة من النصر. انتصار المقاومة عبارة عن هزيمة
لأصحاب التسوية ولمصالحهم الاقتصادية الشخصية ونفوذهم السياسي.
من
المؤكد أن شارون سيحاول تعويض هزيمته في غزة بتكثيف أعماله العدوانية في
الضفة، وبقصفه لمدن القطاع وقراه، لكن هذا لن يوقف المقاومة. المقاومة
الفلسطينية ستبقى مستمرة وستكبر وتتطور، والذي أخرج شارون من جلده في غزة
سيخرج إسرائيل من جلدها في الضفة أيضا. وعدم اعتراف السياسيين والإعلاميين
بإنجازات المقاومة الفلسطينية لن يؤثر في كتابة التاريخ الوطني للأمة.
* أستاذ
العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية بنابلس، ومرشح الرئاسة الفلسطينية
|