مرض الرئيس عرفات ... الحقيقة والمسؤولية

عبد الرحيم ملوح

نائب الامين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

)معتقل في سجون الاحتلال الصهيوني(

عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية

7\11\2004

الرئيس عرفات ما بين "الحياة والموت" هذا ما صرحت به ليلى شهيد مفوضة فلسطين في فرنسا الجمعة الماضية بعد ساعات طوال مليئة بالشائعات والتكهنات، وحبلى بالقلق والأمل معا، القلق على الرئيس وعلى المستقبل ما بعده، فالأمل بشفائه وتجاوزه هذه المحنة، وقدوة الشعب ومؤسساته وقواه على مواجهة التحدي والمسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق الجميع في هذه المرحلة السياسية المصيرية والحساسة التي نمر بها من كفاحنا الوطني التحرري، إن تصريح السيدة شهيد حول حالة الرئيس المناضل عرفات، وضعنا جميعا في مواجهة مباشرة مع الحقيقة والمسؤولية معا، فيما تحملانه من تحديات واستحقاقات، الرئيس عرفات أو أبو عمار أو الختيار لم يكن رئيسا عاديا بل قائدا ورمزا لحركة التحرر الوطني الفلسطيني المعاصر، ولأجيال فلسطينية وعربية منذ ما يزيد عن أربعة عقود، ورئيس دولة فلسطين ومنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية وحركة فتح كبرى فصائل العمل الوطني الفلسطيني، وغيابه يشكل خسارة سياسية وشخصية لكل هؤلاء.


تحت قيادته تبلورت الهوية الوطنية الفلسطينية المستقلة وهوية شعب يكافح من اجل حريته واستقلاله ضد الاستبداد والاستعمار بكل أشكاله، فتوحدت قوى وأطياف الشعب الفلسطيني الفكرية والسياسية والاجتماعية من اجل تحقيق أهداف ثورته المعاصرة وكفاحه الوطني التحرري في تقرير المصير والدولة المستقلة وعاصمتها القدس وحق اللاجئين بالعودة لديارهم، وبوعي وإدراك منه وبحكم الظروف الداخلية والمحيطة وديناميكيتها أو بكلاهما معا، كاد أن يتماهى الرئيس عرفات مع القضية الفلسطينية ومؤسساتها المختلفة، فبات يعتبر ويتصرف على أساس أن المشروع الوطني وشخصه أمرا واحدا، وبرغم ذلك فالجميع لم يختلف عليه وان اختلف كثيرون معه ومع بعض سياساته ومواقفه وأساليب إدارته، بما في ذلك مقربين جدا منه، وذلك لان الغالبية الساحقة كانت تثق بأنه لن يفرط بحقوق الشعب الاساسية، وكان الرئيس عرفات يصدقها الموقف دائما، تجلى هذا بشكل بارز في العديد من المحطات الحاسمة في مسيرة الثورة، وأخرها في تموز 2000 "كامب ديفيد" عندما مورست عليه أقصى الضغوط من قبل الإدارة الأمريكية برئاسة كلينتون والحكومة الإسرائيلية برئاسة باراك، فصمد أمام كل هذا وقال لا للتنازل عن الحقوق الفلسطينية الاساسية، وبعدها دفع ثلاث سنوات من عمره معتقلا في مقره الذي دمر عليه وعلى من معه في رام الله، ورفض مغادرته رغم حاجته للعلاج وحاجة شعبه لتحركه السياسي والقيام بدوره كاملا، خوفا من عدم السماح بعودته لوطنه، وهذا احد الأسباب التي ساهمت في تدهور صحته.


هذا الدور التاريخي والحضور القيادي المباشر في مقدمة جميع معارك الشعب الفلسطيني وطد زعامة الرئيس عرفات ورسخ مواقع أقدامه في قيادة مؤسساتها وهيمنته الشخصية على قراراتها، مما جعل من غيابه قضية موازية ومساوية لحضوره بحجمها، وقد اكتسب الرئيس عرفات هذا الحجم والدور على المستويات كافة، من حجم ووزن وموقع القضية الفلسطينية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، ومن صمود وكفاح الشعب الفلسطيني من اجل حريته واستقلاله، ومن التفاف الشعوب العربية والإسلامية وقوى الحرية والديمقراطية والتقدم في العالم ودعمها لحقوق الشعب الفلسطيني، ومن احتلال الرئيس عرفات بمواصفاته الشخصية وحنكته السياسية ورأس الهرم القيادي للحركة الوطنية الفلسطينية، كل هذا يجعل الحمل ثقيلا والتحديات كبيرة ما بعد الرئيس عرفات.


فالتحدي الأساس هو مع الاحتلال الجاثم على صدورنا، والثاني مع تطوير مؤسساتنا الوطنية وإعادة بنائها ديمقراطيا، والثالث مع المشاريع السياسية التي تنتقص من حقوق الشعب الفلسطيني بالدولة والعودة وفي مقدمتها مشروع شارون ومن إمكانية رهانات البعض عليها.


هذه التحديات لا يغير منها عودة الرئيس عرفات سالما معافى وهذا ما يتطلع له الجميع، أو انتقاله إلى الدنيا الآخرة، ففي الحالتين ستبقى التحديات ذاتها، ولن يعود الرئيس عرفات إلى وضعه السابق عمليا بعد تجربة المرض الأخيرة، الأمر الذي يضع القيادات والقوى السياسية والاجتماعية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وحلفائه وأصدقائه أمام الحقيقة والمسؤولية معا، حقيقة أن الرئيس عرفات ليس بمقدوره القيام بدوره السابق في أحسن الأحوال، ومسؤولية تحمل متابعة النضال موحدين لتحقيق المشروع الوطني بالحرية والاستقلال والعودة والسير به نحو الإنجاز الكامل.
والذي وضع الرئيس عرفات وأخوته ورفاقه كبار القادة الآخرين من جميع القوى والتيارات أسسها وبنو بعرقهم ودمائهم مداميكها الكبيرة مع أبناء شعبهم في الوطن والشتات.


إن الحالة الصحية التي يمر بها الرئيس عرفات والذي وصفتها ليلى شهيد بين الحياة والموت وضعت القادة والقوى السياسية والاجتماعية والنخب الفكرية الفلسطينية أكثر من أي وقت مضى أمام استحقاق كبير جدا ووضع جديد جدا، ففي مرحلة سياسية يمكن القول عنها بأنها من أشد المراحل صعوبة التي يمر بها الشعب والقضية معا، وأمام تحديات خارجية وداخلية كبرى، لا يمكن مواجهتها والصمود أمامها وتجاوزها إلا بوحدة قوى وتيارات واتجاهات الشعب كافة على أساس استراتيجية عمل سياسية واحدة وفي إطار قيادة وطنية موحدة إلى حين توفر الظروف الملائمة لإجراء انتخابات ديمقراطية حقيقية محلية وعامة، وبحيث تتجاوز القوى والشخصيات الفلسطينية النزاعات الفئوية والذاتية ويضعوا مصلحة الشعب والوطن فوق هذه الاعتبارات كافة.


لقد حملته العديد من القوى والشخصيات الفلسطينية طوال مسيرته بما فيهم بعض أخوته في فتح المسؤولية الأولى عن الكثير من المواقف السياسية الخاطئة، وأوجه القصور والخلل في الأداء الداخلي وفي تعطيل دور المؤسسات والهيمنة على القرار السياسي، وهو شخصيا لم ينكر هذا، بل انه امتلك الجرأة السياسية والأدبية للاعتراف به في أكثر من مناسبة وأخرها في المجلس التشريعي الفلسطيني، وغياب الرئيس عرفات يضع أولا الإخوة في قيادة فتح وكوادرها وقيادة السلطة الفلسطينية وكوادرها وانصارهما أمام المسؤولية الوطنية والتاريخية وجها لوجه وأمام ما يترتب عن انتقاداتهم السابقة والمواقف والأداء من استحقاقات ودورهم في معالجة الأخطاء السياسية والقصور والمؤسسات، وبحيث لا يستجيبوا للنزاعات الفئوية والذاتية الكامنة والتي ستعلو وتيرتها عند البعض منهم في هذه المرحلة بدعاوى الحرص على الموقع والدور التاريخي القيادي لفتح، فالدور التاريخي لفتح لا يهدده تعزيز الوحدة الوطنية على قاعدة السياسة المشتركة وشراكة الجميع في القرار السياسي الوطني وتوسيع دائرة الديمقراطية الشعبية، بل من إتباع سياسة مناقضة لكل هذا وبخاصة في هذه المرحلة المعقدة والعصيبة التي تتطلب تكاتف وتوحد الشعب بجميع قواه ومن خلفه تحالفاته وقوى الحرية في العالم اجمع.


والمطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى من قوى المعارضة بكل تلاوينها لا يقل أهمية عن ما هو مطلوب من الإخوة في فتح، لقد أثبتت التجربة الماضية حرص قوى المعارضة رغم حدة انتقاداتها أحيانا على الوحدة الوطنية والمصلحة الوطنية والمشروع الوطني الفلسطيني وعلى الكيان السياسي الوطني ممثلا بمنظمة التحرير الفلسطينية، وهذه المرحلة بما تحمله من تحديات وتتطلبه من لاستحقاقات تفرض التخلص من وهم الرهان لدى البعض على أن غياب الرئيس عرفات يمكن أن يضعف المنظمة وفتح والسلطة أكثر فأكثر الأمر الذي يفتح الباب أمامها واسعا لاحتلال موقع القيادة وتفرض كذلك على بعض أطراف المعارضة التخلص من كون موقف المعارضة يمثل إيديولوجية سياسية لها أو لبعض فئاتها.


إن المستفيد الوحيد من أي خطأ فلسطيني بالحسابات في هذه المرحلة هو الاحتلال الإسرائيلي ومشاريعه السياسية والعسكرية، فقد ساهمت مرونة وحنكة وتاريخية الرئيس عرفات لاستيعاب التناقضات الداخلية وضبطها في حدودها الدنيا، والمطلوب الآن مساهمة الجميع في هذا الأمر.


إن الاستئثار الفئوي أو تحويل المعارضة إلى إيديولوجية سياسية فئوية أو الاعتقاد من أن مصاب الشقيق يزيدني قوة، نظرات غير صالحة والممارسة على أساسها خاطئة، وبالنتيجة ستؤدي بالجميع إلى مزيد من التردي وفي مقدمة كل هذا المشروع الوطني الفلسطيني.


لقد بات مطلوبا الآن أكثر من أي وقت مضى وحدة الموقف السياسي ووحدة القوى ووحدة القيادة ووحدة الشعب، وعدم الإضرار من قريب أو بعيد بالمؤسسات الشرعية فخاصة لمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها مع مشروعية العمل لإقامة قيادة موحدة تشارك فيها القوى السياسية والشخصيات الاجتماعية كافة لضمان شراكة الجميع بالقرار السياسي والالتزام به والمسؤولية عن تنفيذه إلى حين إجراء انتخابات عامة وبما يصون دور وموقع منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.


في مثل هذه المراحل أو المحطات الانعطافية تتجلى مسؤولية القوى والقادة بمدى قدرتهم على وضع المصالح الوطنية العليا فوق أي اعتبار أو مواقف فئوية أو شخصية، وكلي ثقة بان شعبا كالشعب الفلسطيني قدم التضحيات الجسام من قادته وأبنائه طوال عقود طويلة لن تكسر إرادته مهما غلت التضحيات وسيكون وفاء قادة قواه السياسية والفكرية والاجتماعية على مستوى المسؤولية الوطنية العليا وعلى مستوى التضحيات التي قدمها هذا الشعب الباسل وعلى مستوى إرادته السياسية الصلبة، في الوقت الذي نجدد فيه وفاءنا للمشروع الوطني بالحرية والاستقلال والعودة الذي حمل رايته الأخ المناضل الرئيس عرفات، فإننا نأمل ونرجو أن يتجاوز محنته الصحية ويعود لشعبه رمزا لكفاحه الوطني.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع