من نصدّق؟

د. عبد الستار قاسم

21/2/2004

تتناقل هذه الأيام وسائل إعلام أخباراً حول قيام مسؤول فلسطيني بتزويد شركات "إسرائيلية" تبني جدار الفصل بـ"الباطون" (الخرسانة غير المسلحة). نفى المسؤول ذلك وقال إن الشركة المعنية ليست ملكه وإنها تعود لأقربائه. يرد المتهمون بأن الشركة كانت من أملاكه حتى عدة أشهر خلت عندما نقل هو ملكيتها لأقرباء له، هذا علماً أن بناء الجدار قد بدأ في إبريل/نيسان 2002. المسألة تحتاج إلى تحقيق حتى نتبين الحقيقة.

هذا أمر شبيه بالاتهام الذي تم توجيهه إلى وزير فلسطيني بخصوص عمل آلياته في بناء مستوطنة جبل أبو غنيم، الذي أثار جدلاً حاداً على المستويين العربي والعالمي. المستوطنة أقيمت على أراض مقدسية قيل في حينه إنها مصادرة.

يشكل جدار الفصل الذي تبنيه "إسرائيل" قضية ساخنة تستقطب الاهتمام والتعليق، وحوله يدور الكثير من النشاطات الدبلوماسية لاحتواء أزمة قد تنجم عنه. تنشط السلطة الفلسطينية في مختلف المحافل وعلى كافة المستويات ضد الجدار الفاصل بهدف وقف البناء فيه وإزاحته، أو على الأقل التزامه بخطوط عام 1967؛ ذلك كما نشطت بخصوص جبل أبو غنيم وهددت بوقف المفاوضات والتخلي عن المسيرة السلمية. استمر العمل في جبل أبو غنيم واستمرت المفاوضات، ويستمر البناء في الجدار الفاصل وتستمر محاولات الاجتماع مع شارون بهدف العودة إلى المسيرة السلمية. اعتاد الفلسطيني على سماع التهديد الذي تتلوه، عملياً، استجابة.

في كل مرة، لا يتوقف الأمر عند التراجع عن التهديد بوقف التفاوض واتباع سياسات جديدة، وإنما تتوالى اتهامات لقادة في السلطة الفلسطينية حول تعاونهم مع "إسرائيل". وعلى الرغم من أن التهم لم تثبت من ناحية قانونية، إلا أن عدم إجراء تحقيق حولها يشير إلى أنها صحيحة. التهم خطيرة جداً وتشير إلى خلل كبير في القيادة الفلسطينية، وتتناقلها الألسن ووسائل الإعلام وتكثر حولها المقالات المنشورة على الشبكة الإلكترونية، ومن المفروض أن تكون هناك ردة فعل تطمئن الجمهور الفلسطيني وتبين الحقيقة للناس على مستوى الوطن العربي والعالم الإسلامي. لا شيء من هذا يحدث، وعدم حدوثه عبارة عن جريمة بحق الناس لأنه يعبر إما عن استهتار أو عن محاولة إخفاء. صحيح أن الحكومات لا تشغل نفسها بكل شيء يقال عنها، لكن عندما تتعلق الأقوال بأمور جوهرية فإن الحكومة تصبح ملزمة بتشكيل لجان تحقيق محايدة لاستجلاء الحقيقة. أما الحكومة التي تقفز عن تصرف كهذا فإنها تفتح المجال لمزيد من الأقاويل وتصنع أجواء من التشكك والريبة.

حصل في الماضي القريب أن قامت "إسرائيل" بمصادرة أراض في الضفة الغربية من أجل شق الطرق الالتفافية. خرج الناس يتظاهرون ويحتجون على هذه الأعمال "الإسرائيلية" التي تحرم الملاك من مصادر الدخل، وكان ينضم إليهم قادة في السلطة الفلسطينية والذين كانوا يشبعون الجماهير المحتجة خطابات رنانة ووسائل الإعلام تصريحات نارية. حينئذ، كان قراء الاتفاقيات مع "إسرائيل" يعرفون أن هؤلاء القادة كانوا يمثلون ولا يقولون إن السلطة كانت طرفاً في اتفاق يجيز المصادرة. السلطة شريك في اتفاقية طابا التي قسمت الضفة إلى مناطق "أ" و"ب" و"ج"، وهي التي أجازت لـ"إسرائيل" شق الطرق الالتفافية لتسهيل تنفيذ الاتفاقية. وقع الناس ضحية جهلهم وضحية التضليل.

بموجب الاتفاقيات مع "إسرائيل"، قامت السلطة باعتقال فلسطينيين دفاعاً عن الأمن "الإسرائيلي". أجازت السلطة لنفسها هذا العمل ووقفت في كل مرة تبرره بأنّه في خدمة المصلحة الوطنية الفلسطينية. فإذا كان الأمر قد وصل إلى حد الدفاع عن الأمن "الإسرائيلي"، أفلا يمكن أن تقوم جرافات مسؤولين بتمهيد الأرض من أجل الاستيطان، أو سيارات نقل الخرسانة بالمساهمة في بناء الجدار الفاصل؟ وإذا كان اعتقال مجاهدين فلسطينيين يخدم المصلحة الفلسطينية العليا، أفلا يؤدي تقديم خدمات لـ"إسرائيل" إلى تقوية الاقتصاد الفلسطيني لما تدره تلك الخدمات من أموال؟

من التجربة، الشعب الفلسطيني صادق، وإذا تناقضت الروايات الرسمية مع الروايات الشعبية فإن الصدق يجانب الناس، أي أن ما يقوله الناس عن الجرافات و"الباطون" يعبر عما يرونه على أرض الواقع.

لن تقوم السلطة بالتحقيق جدياً بالأمر، وستطوى الصفحات كما طويت صفحات لا حصر لعددها. كثيرون أولئك القادة الذين يتعاملون مع الاقتصاد "الإسرائيلي" بعيداً عن المصلحة الفلسطينية. وكلاء الشركات "الإسرائيلية" يستوردون البضائع "الإسرائيلية" ويغرقون بها الأسواق الفلسطينية ما أمكنهم ذلك في مواجهة البضائع الصينية والتركية. في ذات الوقت، لا يحصل المنتج الفلسطيني بخاصة الزراعي على الاهتمام الذي يجعل الفلاح قادراً على فلاحة الأرض بشكل يمكنه من كسب العيش المحترم. بل نجد في أحيان كثيرة من يقوم باستيراد منتج زراعي "إسرائيلي" في ذات الوقت الذي يتفاءل الفلاح الفلسطيني ببيع منتجه بثمن جيد. تهبط الأثمان نتيجة زيادة العرض، فينتكس الفلاح الذي يعتبر العنصر الأول في المحافظة على الأرض، أي على الوطن. شاحنات نقل البضائع "الإسرائيلية" لا تجد عناء في اجتياز الحواجز العسكرية المنتشرة في كل مكان من الأرض المحتلة، ولا يجد من يأتون بها مشقة في التنقل أو الحصول من الجيش "الإسرائيلي" على أوراق المرور اللازمة.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع