مرحلة ما بعد عرفات:

طبعة جديدة من أوسلو لكن النهاية أكثر وضوحاً!

 

ياسر الزعاترة

صحيفة الحياة اللندنية 15/12/2004

 

حتى الآن لم تحدث أية مفاجأة تذكر في سياق ترتيبات ما بعد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، فقد جرى التوافق سريعاً على رئاسة القدومي لحركة فتح ومحمود عباس للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، فيما بدا واضحاً منذ اللحظة الأولى أن مقعد رئاسة السلطة قد حجز لأبي مازن، فيما ترك التنفيذ لآليات طبيعية من حيث تسمية حركة فتح له رسمياً كمرشح للحركة.

 

والحال أن ترشيح محمود عباس لم يكن نتيجة قناعة الحركة بكونه الأكثر شعبية أو القادر على حصد ثقة الجماهير، فالرجل لم يكن يوماً من النوع الجماهيري، بل إنه لا يتمتع عملياً بالحد الأدنى من الشعبية داخل دوائر حركة فتح بسبب نخبويته وابتعاده الدائم عن الأطر التنظيمية، وربما نظرته التي لا تنطوي على كثير من الاحترام لها.

 

لكن ذلك لم يدفع حركة فتح إلى البحث عن بديل له، فالقرار هنا هو نتاج معطيات لا صلة لها بالجماهيرية، بقدر صلتها بالتوافقات الداخلية التي تضع نصب عينها وقائع المشهد العربي والدولي، وهذه جميعاً لا زالت ترجح كفة محمود عباس على نحو شبه حاسم.

 

يحدث ذلك في ظل ثقة قادة فتح بقدرة الحركة على ضمان فوزه بكل سهولة نظراً لغياب حماس والجهاد عن المشهد الانتخابي وإدراك قوى اليسار لعدم توفر أية فرصة لها في خوض المنافسة.

 

الانتخابات قادمة إذن، خصوصاً وهي ضرورية لمنح الرجل شرعية لا بد منها كي يشرع في تطبيق برنامجه السياسي بقوة، الأمر الذي لم يكن ليتوفر في ظل تعيين له من قبل أطر حركة فتح وحدها. ولعل ذلك هو ما يفسر حرص الدوائر الأميركية والإسرائيلية على تسهيل العملية الانتخابية، بل وتحسين فرصة عباس في الحصول على نسبة معقولة من الأصوات.

 

بالنسبة لمسألة البرغوثي، فإن المرجح هو انسحابه، لكن حدوث المعجزة وبقائه في السباق ومن ثم فوزه سيتطلب تحليلاً آخر، الأمر الذي سنستبعده هنا، ومعه إمكانية الفوز في حال استمرار الترشح، أما الترشح مع الخسارة فلن يغير الكثير، اللهم سوى ضرب منسوب الشرعية لرئاسة "أبو مازن".

 

لعل الدلالة الأولى لتوليفة ما بعد عرفات وحرص حركة فتح على تسمية محمود عباس مرشحاً للرئاسة، والقدومي للحركة هو إدراك قادتها للمعطيات السياسية المحيطة، والتي لا تتيح من وجهة نظر معظمهم فرصة الاستمرار في النهج القديم الذي اتبعه الرئيس الفلسطيني، أي التفاوض والسكوت على المقاومة في ذات الوقت. ومن هنا فإن وضع القدومي على رأس الحركة، وهو المعارض لاتفاقات أوسلو، والرافض لدخول الأراضي المحتلة قبل تمتعها بالسيادة، قد يحول دون المغامرة بكامل الأوراق في لعبة غير مضمونة العواقب، وفي ظل زعامة لا تمتلك شرعية عرفات. لكن واقع التجربة لا زال يؤكد أن محمود عباس لن يمرر هذه اللعبة لأمد طويل، فهو لن يتعايش بسهولة مع هذه الازدواجية، سيما إذا بدأت تأخذ شكل مواقف مناهضة لخطه السياسي. ومن هنا فإن من المتوقع أن يبادر الرجل بعد إمساكه بالخيوط داخل السلطة ومؤسساتها الأمنية إلى السعي نحو السيطرة على حركة فتح من خلال أدوات كثيرة ستكون متاحة بين يديه، سيما وهي حركة تتشكل في الغالب من عدد كبير من المتفرغين. حركة فتح في ضوء الوضع الجديد ستكون أقرب إلى حزب السلطة وفق نمطه السائد في العالم العربي، سيما وأن القادة الجدد لن يتحدثوا بعد اليوم عن ثورة وسلاح، بقدر ما سيصرون على مسار التفاوض أياً تكن نتائجه. من هنا تبدأ أسئلة المستقبل بشأن الوضع الفلسطيني، أكان في تحولاته الداخلية، أم من حيث مستقبل العملية السياسية والقضية عموماً، وهما في واقع الحال مسألتان ترتبطان ببعضهما على نحو واضح.

 

في السياق الداخلي، يبدو من الواضح أن الصدام بين برنامج السلطة بقيادتها الجديدة وبين قوى المقاومة، وتحديداً حركتي حماس والجهاد الإسلامي، واقع لا محالة، فهنا ثمة قوىً تراهن على برنامج المقاومة، مقابل سلطة ترى أن خيار التفاوض هو الأسلم، وأنه لا مناص من الدخول فيه بصرف النظر عن النتائج المترتبة، وبصرف النظر عن الاستحقاقات التي ستدفع، والتي نصت عليها خريطة الطريق ممثلة في وقف التحريض وضرب البنية التحتية للإرهاب الذي قد يعني الدخول في صدام ما مع قوى المقاومة.

 

الأرجح أن يعتمد سلوك السلطة حيال قوى المقاومة خلال المرحلة المقبلة على طبيعة تعاطيها مع الاستحقاقات، وما إذا كانت ستميل إلى التهدئة أم ستواصل المقاومة والتحريض على عملية التفاوض.

 

إنها مسيرة أوسلو جديدة، لها ذات الالتزامات، وإن حملت عنواناً جديداً هو خريطة الطريق، لكن الفارق هو أن خاتمتها تبدو أكثر وضوحاً من المرة الماضية، إذ لن يكون بوسع فرسانها أن يقولوا للشارع الفلسطيني والعربي أنهم سيعودون من الرحلة وفي جعبتهم الدولة الفلسطينية كاملة السيادة على كل الأراضي المحتلة عام 67، وعودة اللاجئين، كما فعلوا عندما وقعوا أوسلو. ليس ثمة تنبؤات هنا، بل حقائق ماثلة على الأرض تقول بوضوح إن شارون لن يقدم لجماعة أبو مازن ما قدمه باراك وكلينتون لعرفات في العام 2000. فلا الوضع الإسرائيلي الأميركي بيمينيته المفرطة يسمح بذلك، ونتذكر هنا وعد نيسان الشهير من بوش لشارون، ولا الوضع الدولي المتراجع أمام واشنطن يقول بذلك، فضلاً عن الوضع العربي الذي يبدو في أسوأ أحواله منذ سنوات طويلة. ولا تسأل عن المعطيات الأخرى التي خلقها الجدار الأمني، ومعها وجود حوالي ثمانية آلاف معتقل في السجون.

 

على أن ذلك لن يؤدي بالضرورة إلى صدام واسع بين قوى المقاومة والسلطة، اللهم إلا إذا وصل الأمر بهذه الأخيرة حد الذوبان في الرؤى الأمريكية الإسرائيلية وتجاهل المشاعر الشعبية، وما يدفعنا إلى قول ذلك هو القناعة بأن قوى المقاومة وعلى رأسها حماس ستميل إلى التهدئة ما دامت فتح موافقة وداعمة لما يجري، وأقله ساكتة عليه، أما في حال رفضها للعب دور حزب السلطة، وتمردها أو تمرد جناح معتبر داخلها فإن حماس لن تتوانى عن تفعيل مسار المقاومة من جديد. لكن ذلك لا يبدو متوقعاً إلى حد كبير، فالمعطيات التي أشرنا إليها كعوامل تحول دون انتظار تسوية سياسية معقولة، هي ذاتها التي ستدفع فتح إلى قبول المسار المشوّه القادم، وهي ذاتها التي ستدفع حماس إلى الانحناء أمام العاصفة من دون تنكيس واضح لراية المقاومة كبديل عملي ولو في الحد الأدنى مع احتمال الأذى المترتب على ذلك.

 

ما يريده شارون بحسب تفسير مدير ديوانه (دوف فايسغلاس) لأهداف خطة فك الارتباط، هو وضع مشروعه للحل الانتقالي بعيد المدى موضع التنفيذ، وما سيساعد على ذلك هو تأجيل الرئيس الأميركي للدولة الفلسطينية إلى عام 2009 بدل 2005 بحسب خريطة الطريق، والنتيجة هي بقاء الفلسطينيين رهائن قطاع غزة وحوالي نصف الضفة الغربية إلى أمد طويل قبل الشروع في مفاوضات الوضع النهائي التي رسمت ملامحها من خلال "وعد بوش" ومن خلال جدار الفصل. لكن هذا المسار المشوّه سيبقى مرتبطاً بالوضع العربي والدولي البائس الذي فرضه، وهو ما لا يمكن القول إنه سيبقى إلى أمد طويل.

 

خلاصة القول هي: إن الشعب الفلسطيني سيدخل في مرحلة تيه أخرى، لكنه هذه المرة أكثر قناعة بأن نهايتها سراب، وأنه ما سيلبث أن يعود إلى المقاومة من جديد. أعني المقاومة المسلحة أو "العسكرة" بتعبير قادة السلطة الجدد!

- كاتب من الأردن.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع