الشرعية العربية قبل الشرعية الدولية

بروفيسور عبد الستار قاسم

كثيرا ما تهب الأنظمة العربية دفاعا عن الشرعية الدولية، ويكرر القادة العرب تمسكهم بالشرعية الدولية بصورة تعطي انطباعا بأنهم حماتها والمدافعون عنها. وهذه الأنظمة حريصة جدا بأن تذكر بعضها بضرورة الالتزام بالشرعية الدولية معللة ذلك بأن حقوق العرب ستضيع خارجها، ويظهر هذا الآن بوضوح من خلال حث العرب لحركة حماس على احترام هذه الشرعية؛ ويكاد أمين الجامعة العربية أن يذكر محاسن الشرعية الدولية في كل أحاديثه وكأنه صانعها.

لكن من النادر أن نستمع إلى القادة العرب يطالبون بالشرعية العربية وبتطبيق قرارات القمم العربية ومجلس الجامعة العربية. لقد تحدثوا مؤخرا عن الشرعية العربية عندما حثوا حماس على احترام مقررات قمة بيروت عام 2003 والتي اعترفت بإسرائيل؛ وقد قال بعضهم بأن الشرعية الدولية المتمثلة بخريطة الطريق قد انطلقت من مبادرة بيروت. طبعا هم يوهمون أنفسهم لأن الذي وقف على تفصيلات خريطة الطريق هي أمريكا وإسرائيل، وتنبه قادتنا إلى مبادرتهم بعدما تسربت عنها أنباء في وسائل الإعلام فطفقوا إلى أمريكا يطلبون ذكر المقرر العربي. وقد لبت أمريكا الطلب وذكرت المبادرة العربية في مكان ثانوي لا يشكل جزءا من قواعد خريطة الطريق. ومن الجدير ذكره أن بعض القادة العرب ومن قبيل إسقاط الواجب يطالبون بتطبيق قرارات الأمم المتحدة وفق التتابع الزمني بدءا من القرار رقم 194 الخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين.

إذا كان هناك حرص على الشرعية، فلماذا لا نحرص على تطبيق الشرعية العربية أولا؟ بدأت الشرعية العربية مع مؤتمر الإسكندرية عام 1944 الخاص بتشكيل جامعة الدول العربية. ناقش هذا المؤتمر الغزو الصهيوني لفلسطين وقرر أن القضية الفلسطينية ليست قضية الفلسطينيين فقط وإنما قضية العرب أجمعين؛ وقرر المؤتمرون ضرورة حشد كل الطاقات العربية من أجل الحفاظ على عروبة فلسطين. وقد كرر مؤتمر بلودان ذات القرارات تقريبا مشددا على عروبة فلسطين. وعلى الرغم من هزيمة العرب في حرب 1948، إلا أن أيا من الأنظمة العربية لم يتخل عن شعار تحرير فلسطين. أكد كل قائد عربي في الخمسينيات والستينيات على التزامه بتحرير فلسطين وقال لشعبه والأمة ككل أنه يتسلح من أجل التحرير.

أكد مؤتمر القمة الأول المنعقد عام 1964 على التزام العرب بتحرير فلسطين ودعم الدول التي يمكن أن تقوم بعملية التحرير. جاء مؤتمر الخرطوم الذي عقد بعيد هزيمة 1967 ليؤكد رفض العرب لإسرائيل من خلال لاءاته الثلاث: لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضات، وليؤكد على دعم الشعب الفلسطيني والدول المهزومة بهدف إزالة آثار العدوان. هنا انخفض سقف العرب من تحرير فلسطين إلى الاكتفاء بدحر إسرائيل نحو حدود ما يعرف بالرابع من حزيران (يونيو). تدهور هذا السقف بعد حرب عام 1973 عندما قرر العرب التخلي عن اللاءات لصالح النعمات. قالوا نعم للمفاوضات، ومهدوا الطريق للتفاوض المباشر والصلح والاعتراف بإسرائيل. قال عدد منهم وبخاصة الرئيس السادات أن البطل الذي يصنع الحرب يستطيع أن يصنع السلام. أوهم القادة العرب أو بعضهم بأنهم انتصروا في حرب 1973، وأنه بإمكانهم التنازل من موقع القوة لا من موقع الضعف، وكأن عملية التنازل كانت بحاجة إلى جدول من دماء الشباب العرب ليكون مبررا.

انخفض السقف العربي عام 1982 ليلحق بما صنعه السادات من اعتراف وصلح. وافقت قمة فاس على الاعتراف بإسرائيل والتخلي عن كل الشعارات العربية مقابل الانسحاب من الأراضي التي تم احتلالها عام 1967. ولم تكن قمة بيروت نموذجا مغايرا لنموذج فاس.

السؤال هنا: ما بال القادة العرب لو تمسكنا بالشرعية العربية أولا وبتسلسل القرارات العربية الزمني؟ ليس من المقبول طبعا أن نبدأ بقمة بيروت ذلك لأنه من المفترض أن العرب أصحاب حمية وشجاعة وكلماتهم لا تنزل الأرض. إنهم ثابتون عند قراراتهم والعربي يُربط بلسانه، وميثاقه الكلامي غير قابل للمساومة أو الإلغاء أو التراجع. لقد تعلمنا في المدارس منذ نعومة الأظفار أن العربي صاحب حمية ولديه الاستعداد أن يموت دفاعا عن كرامة كلماته. ألم يمت المتنبي بسبب وفائه لبيت شعر؟ وألم يجيش المعتصم من أجل امرأة استصرخته؟ وألم يلتزم أبو جهل (الجاهلي) بوعود نطق بها؟

قرارات بيروت وقبلها مبادرة فاس مخالفتان لميثاق جامعة الدول العربية لأنهما تنطويان على تنازل عن أرض عربية مقدسة تتطلع نحوها قلوب المؤمنين. ميثاق جامعة الدول العربية لا يجيز التنازل عن أرض عربية ويدعو الدول الأعضاء إلى العمل معا من أجل الدفاع المشترك. فلماذا يريد القادة العرب من الفلسطينيين التنازل عن الشرعية العربية لصالح الشرعية الدولية؟ هل يجوز لمرء أن يعقر أهل بيته من أجل الوفاء بانتهاكات الجيران؟ هذا منطق العجزة الذين لا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم.

ربما من الأفضل للقادة العرب إذا كانوا غير قادرين على الدفاع عن الشرعية العربية ألا يفتحوا أبواب الأمة أمام المعتدين. دول كثيرة تضغط من أجل أن يتنازل أهل فلسطين ومن أجل تجريد العرب من سلاحهم. يريدون حزب الله وحماس والجهاد والمقاومة العراقية عراة منصاعين لأوامر إسرائيل وأهل الغرب، فهل من عرب يضغطون بعكس ذلك؟ إذا غاب العرب، فعليهم أن يتوقعوا أن الاتجاه المعاكس قادم من الشرق وسيجد له مؤيدين من العرب بالملايين، ولا يلومن أحد عندئذ إلا نفسه.

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع