بوش ودولة البقايا

 

علي الجرباوي

صحيفة الخليج الإماراتية 25/10/2005

 

اعتبر معظم منتظري نتائج قمة بوش عباس أن "قنبلة" تلك القمة تفجّرت في جواب الرئيس الأمريكي على سؤال حول الموعد الزمني لقيام الدولة الفلسطينية العتيدة، حين ترك بوش الموعد مفتوحاً ولم يربطه بتاريخ محدد بنهاية فترة ولايته الثانية، مع أنه كان في السابق أعطى وعداً بقيام هذه الدولة بحلول عام 2005، وتم تحريك ذلك الموعد إلى عام 2008 الآن، وبعد هذه القمة، لم يعد هناك موعد زمني للتنفيذ، بل تحول الموعد إلى وعد باستمرار التوجه قدماً على طريق تحقيق إقامة هذه الدولة التي أعرب بوش عن رغبته في حضور الاحتفال بقيامها حتى وإن كان خارج البيت الأبيض (يبدو أن على بوش أن يعيش طويلاً إن كان يريد فعلاً تحقيق هذه الرغبة).

 

هل اكتشف بوش فجأة لعنة الالتزام بالمواعيد المتضمنة في الجداول الزمنية التي تم وضعها بالتوالي لإنهاء الصراع الفلسطيني "الإسرائيلي"، وكيف أنها أطاحت بآمال رؤساء سابقين وأظهرت عجزهم عن الالتزام بوعودهم، فآثر نكث وعده مُبكراً حتى لا يتجرّع مهانة الفشل لاحقاً؟ أم أن الرئيس الأمريكي اتبّع في تعامله مع الفلسطينيين سياسة مُحنكّة تقوم على تجريع تراجع الوعد بإتباع أسلوب "التنقيط"، حيث رفع في البداية سقف توقعاتهم ليضمن استمرار اندماجهم في التسوية الموعودة، ثم أخذ يقلصّ من حجم هذه التوقعات على التوالي، حتى وصل الحال إلى ترك موعد إقامة الدولة الفلسطينية عائماً على سطح رمال شارون المُتحركة في القدس والضفة؟

 

الرئيس الفلسطيني المُفعم دائماً بالأمل والثقة بالتوجهات الأمريكية لا يقبل الإمكانية الثانية، وبالتاليّ تبّرعَ بتقديم ما اعتقد أنه "تفسير إيجابي" لمفاجأة تراجع الرئيس الأمريكي، وذلك من خلال وصم "القُدرة الاستيعابية" لبوش بالمحدودة (أمر مثير أن يتم تقديم غباء الرئيس الأمريكي بوصف فلسطيني إيجابي!). فعبّاس اعتبر أن السؤال الصحافي لم يكن مُخططاً له فجاء مفاجئاً لبوش، لذلك لا يمكن اعتبار أن ما قدّمه عليه من إجابة يعتبر "موقفاً سياسياً، بل هو موقف لحظة"! كما هو واضح يوجد تمنّي فلسطيني رسمي يفوق واقع السياسة الأمريكية ووقائع عملية الاستيطان "الإسرائيلية" على الأرض الفلسطينية، وهو يندرج ضمن منهج "النعامة" المتحكم بالرؤية السياسية الفلسطينية الرسمية.

 

بغضّ النظر عن التفسير الفلسطيني المتفائل دائماً بكل التراجعات الأمريكية (و"الإسرائيلية")، يبدو أن إجابة بوش الواضحة وغير المواربة عن السؤال المركزي المتعلق بموعد إقامة الدولة الفلسطينية تتضمن جزءاً من كلا التوجهين المتضمنين بالسؤالين أعلاه. فبوش الذي دخل البيت الأبيض بتحرّص واضح من إعطاء أي التزام بحلّ الصراع الشرق أوسطي، كونه رأى ما حلّ بسابقه جرّاء إعطاء مثل تلك الالتزامات، عاد وانزلق نتيجة انسياب أحداث الانتفاضة الثانية إلى نثر وعود بتنفيذ خارطة طريق تتضمن جدولاً زمنياً للتنفيذ. ولكن سرعان ما عاد واكتشف أن الاعتبار الحقيقي لا يكمن في الالتزام بالجداول الزمنية حتى وإن كانت مُعلنة، وإنما يتحدد وفقاً لاعتبارات الوقائع العملية المثبتة على الأرض. فالوقائع وليس الجداول هي الأهم.

 

تفاجؤ منتظري قمة بوش عباس مما جرى لموعد إقامة الدولة الفلسطينية غير مبرر على الإطلاق، ولا أعتقد أن من بين هؤلاء أغلبية فلسطينيي القدس والضفة. التفاجؤ الحقيقي لهؤلاء الفلسطينيين كان لو التزم بوش بموعد علني مُحدد لإقامة هذه الدولة. لو قام بذلك لاستخلصوا مباشرة أنه إما أن يكون مراوغاً تغاير تصريحاته العلنية نواياه المخفيّة، وإما أن يكون بالفعل مغامراً يريد أن يواجه "إسرائيل" حول القدس والضفة. هم يعرفون بحدسهم السياسي الواقعي أن العلاقة الأمريكية  "الإسرائيلية" تخطّت منذ فترة المرحلة الاستراتيجية لتدخل في نطاق العلاقة العضوية. عندما تصبح العلاقة كذلك يتوقف الضغط عن أن يكون عاملاً في العلاقة المتبادلة بين الطرفين، ويتم الاستعاضة عنه بالتنسيق. من هذا المُنطلق، لا يُصدّق الفلسطينيون العاديون أن أمريكا بوارد الضغط على "إسرائيل" لإجبارها على القيام بما لا تريده. تنسّق معها، ترغبّها، تزّين لها، ولكن لا تُملي عليها. ف"إسرائيل" توقفت منذ فترة طويلة عن أن تكون موضوعاً من مواضيع السياسة الخارجية الأمريكية، وتحوّلت بالنسبة للولايات المتحدة لتكون جزءاً لا يتجزأ من سياستها الداخلية. وفي السياسة الداخلية الأمريكية يُشكّل الإقناع، وليس الإجبار، المدخل المعتمد للتعاملات السياسية.

 

لو أن بوش أعلن التزاماً بإقامة الدولة الفلسطينية قبل نهاية فترة رئاسته الثانية لتوصل فلسطينيو القدس والضفة إلى نتيجة مفادها أنه يريد لهذه الدولة أن تقام في قطاع غزة فقط فهم يراقبون على أرض الواقع ما يحصل للقدس والضفة من تكثيف لأحداث تقطيع وتوصيل "إسرائيلية" تجعل معها من الاستحالة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والسيادية على حدود عام 1967. هم يعايشون تغيّر جغرافية القدس والضفة، جدار قاسم للأرض الفلسطينية قال عنه الرئيس الأمريكي في سابق العهد إنه "يتلوّى كالأفعى داخل الضفة"، ومستوطنات تتكثف وتسمن، وشبكة طرق "إسرائيلية" استيطانية رئيسية أحالت شبكة الطرق الفلسطينية إلى فرعية. وهم يعرفون جرّاء ذلك أن ثمن "الانسحاب" أحادي الجانب من قطاع غزة يتلخص بضمّ القدس وأكبر مساحة من الضفة قسرياً كأمر واقع ل"إسرائيل"، لذلك لم يُبهرهم هذا "الانسحاب" الذي أشغل العالم وصفّق بموجبه لشارون. هم يُشاهدون كيف تقوم "إسرائيل" بتشكيل المعازل الفلسطينية من خلال التحكم بشبكة الطرق وتحويل عدد من الحواجز العسكرية عليها إلى نقاط عبور دائمة تفصل بين كانتون وآخر، ويعرفون أن السياسة "الإسرائيلية" المنهجية تستهدف وتعمل على تفريغ المناطق المستهدفة بالضم من سكانها الفلسطينيين ودفعهم داخل هذه المعازل.

 

 يعرف الفلسطينيون، خاصة أهالي القدس والضفة كونهم يعيشون الوقائع سريعة التغير على الأرض ويضطرون إلى معايشة التحكم "الإسرائيلي" على معابر المعازل، أن الدولة الفلسطينية التي تنوي "إسرائيل" تشكيلها، وتنتظر الولايات المتحدة انتهاء "إسرائيل" من هذا التشكيل لتحتفي بإقامتها، ستكون دولة البقايا: ما تبقى لنا نحن الفلسطينيين بعد اقتطاع "الإسرائيليين" ما يريدون ويستطيعون من القدس والضفة. يضاف ذلك إلى قطاع غزة، وتقام حينها الدولة التي يمكن أن تسمح "إسرائيل" بتسميتها "إمبراطورية فلسطين العظمى". فكثير منا، خاصة في المستوى السياسي الفلسطيني (والعربي أيضاً) ننغرّ بالمظاهر لأننا لا نستطيع تحقيق المضامين. لم يستطع بوش أن يحدّد موعد إقامته دولة البقايا لأنه ينتظر أن تنتهي "إسرائيل" من تحديد هذه البقايا. وحينها، وبموافقة "إسرائيل" ورغبتها، سترعى الولايات المتحدة احتفال التدشين. ومن المؤكد أن بوش سيكون حينها قد أصبح خارج البيت الأبيض لوقت طويل. المهم في هذه التراجيديا استذكار أن هناك بين الفلسطينيين من لا يزال يُغلّف فرض الأمر الواقع علينا ب"التحرير".

 

أليست مصيبتنا كبيرة؟!

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع