لا إصلاح في خطاب عرفات

بقلم : د. عبد الستار قاسم

جرياً على العادة العربية الرسمية، وصفت الأوساط الرسمية الفلسطينية خطاب عرفات الذي ألقاه بتاريخ 18/8/2004 بأنه تاريخي. وقد بشرت بتاريخيته على مدى أكثر من أسبوع في محاولة لاستقطاب المستمعين وإعطائهم الانطباع بأن شيئاً جديداً سيظهر على الساحة الفلسطينية.

لقد استمعت إلى الخطاب بدقة وراقبت حركات عرفات وكلماته الخارجة عن النص المكتوب بدقة أكبر. بالإضافة إلى ضعف اللغة العربية وجره المتواصل للمفعول به، لم أجد أي شيء تاريخي في الخطاب. الخطاب عبارة عن كلام تقليدي سمعناه مراراً وتكراراً من عرفات ولم يحتو أي شيء جديد.

هنا أسجل الملاحظات التالية:

أولاً: الخطاب "تخويثي" بصورة رئيسية. التخويث يعني قول ما يمكن أن يطرب المستمع ممزوجاً بنوع من السخرية الغمزية. لا يعني المتكلم ما يقول تماماً، لكنه يضرب على ما يرغب المخاطب في سماعه بهزء يتراوح بين الباطن والظاهر. يرغب الناس في فلسطين سماع أقوال وتصريحات حول الإصلاح، وقد جاد بها عرفات بأسلوب فضفاض غير محدد وغير ملزم وقابل للتأويلات المختلفة.

ثانياً: احتوى الخطاب على فهلوة كلامية معتادة تضر ولا تنفع وتسيء للشعب الفلسطيني أكثر مما تسيء لعرفات نفسه. رفع عرفات شعار الشرب من بحر غزة، وتحدث عن شيطان أريحا، وكرر بعض العبارات عدة مرات، وأشار إلى أصدقائه وأحبابه من الذين أفشلهم سياسياً أو استخدمهم للمرور بمراحل موحلة. وقد ظهرت الفهلوة جلية عندما تحدث عن نبيل عمرو واعتبره أحد ضحايا الصهاينة.

ثالثاً: اعترف عرفات بوجود فساد، لكن ليس لأول مرة. قال عرفات مراراً وفي مناسبات عدة إن الفساد موجود، كما أن الأخطاء موجودة. ولم ينس اتهام نفسه هذه المرة كما فعل في مرات سابقة. أي أن وصفه للفساد ليس جديداً وتشخيصه للأمر ليس مستجداً.

رابعاً: قال عرفات إنه سيقيم ورشة للإصلاح. ووعد بأن يتخذ إجراءات من أجل تحسين مختلف الأوضاع من دون أن ينسى الإشادة بما أنجزته السلطة الفلسطينية في مجالي المال والتعليم. إنه يرى أنه تمت إصلاحات مالية وتعليمية جوهرية تستحق الثناء والمديح. لكنه لم يقدم خطة واضحة مفصلة بخصوص الإصلاح واكتفى بما كان قد ردده في السابق من عموميات.

خامساً: تضامن عرفات مع الأسرى وقدم عبارات مؤثرة وعاطفية في تأييده لإضرابهم، وأعلن عن صيام يوم للشعور المباشر مع معاناة الجوع. لكنه في ذات الوقت قبل خريطة الطريق التي تلزم السلطة باعتقال فلسطينيين يقاومون "إسرائيل". المعتقلون والأسرى في السجون الصهيونية مقاومون ومقاتلون وليسوا لصوصاً، فإذا كان هؤلاء يهددون أمن "إسرائيل" حسب خريطة الطريق، فهل من الممكن أن يكون التضامن الرسمي معهم حقيقياً؟

سادساً: كرر عرفات موقفه التقليدي من عملية السلام قائلاً: إن السلام عبارة عن خيار استراتيجي للشعب الفلسطيني، وإنه سيستمر في التعامل مع مختلف الدول والأوساط من أجل إحلال السلام القائم على فكرة الدولتين. لكنه كالعادة لم يطرح البديل إذا لم يستطع تحقيق دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/ حزيران وعاصمتها القدس الشريف. أي أنه لم يتطرق إلى المقاومة كبديل، بل أشار إلى أن على الفلسطينيين ألا يقوموا بأي عمل يبرر استمرار العدوان "الإسرائيلي" أو القيام بعمليات انتقامية. على الرغم من أنه لم يقلها صراحة، إلا أنني أقدر أنه لا يريد من الفصائل القيام بعمليات عسكرية ضد أهداف صهيونية.

باختصار، لم يقدم عرفات برنامجاً إصلاحياً. يتطلب الوضع في الضفة الغربية برنامجاً يتضمن قرارات واضحة لا لبس فيها. فمثلاً، كان من الممكن أن يعلن عرفات إقالة العديد من معاونيه ووزرائه وتحويلهم إلى التحقيق، ومن ثم إلى المحاكمة بسبب الفساد. على الأقل، كان من الممكن أن يتحدث عن قضية الإسمنت الذي اشتراه فلسطينيون لمصلحة شركة "إسرائيلية" تزود الجدار الفاصل بالباطون. وكان من الممكن أن يعلن عن إجراءات قضائية وتشريعية لضمان استقلالية القضاء ودقة الرقابة. وكانت أمامه فرصة ليعلن حلّ عدد من الأجهزة الأمنية التي عملت لصالح الأمن الصهيوني وأوقعت بالعديد من الفلسطينيين.

أي أن الفرصة كانت مواتية للحديث عن خطوات عملية وإجراءات للإصلاح يتم تنفيذها. أما إحالة الأمور إلى رئيس الوزراء والاكتفاء بوعود عامة لن يقود إلى ما يرغب الشعب الفلسطيني برؤيته. لقد شبع الشعب الفلسطيني شعارات ووعوداً، ولا أرى أن الخطاب قد قدم وجبة من نوع جديد تفتح الشهية. أما الإصلاح المالي الذي تحدث عنه، فلا علاقة له بالسلطة الفلسطينية. إنهم الأمريكيون والأوروبيون الذين أصروا على الإصلاح إذا أرادت السلطة الفلسطينية الحصول على دعم مالي. لقد وافقت السلطة مرغمة على طلبات الأجانب الذين يملكون قوة المال. لكن يبقى الإصلاح المالي ضمن رؤية غربية وليس ضمن استراتيجية مالية واقتصادية فلسطينية. إنه إصلاح يكرس التبعية وهيمنة الآخرين على القرار الفلسطيني.

بخصوص فصائل المقاومة، انتهى الخطاب كأنها غير موجودة على الرغم من أنها هي التي تصنع الحدث وعليها غالباً يقع العدوان. لقد أشار إليها الخطاب إشارة عابرة وكأنها أحزاب سياسية وليست جماعات مقاتلة تسعى إلى تحرير الأرض. وهذا مؤشر آخر إلى أن عرفات سيستمر في سياسته التي ألحقت أضراراً كبيرة بالشعب الفلسطيني ومن دون أن تأتي بدولة أو تلاحم شعبي أو وحدة وطنية

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع