الفتنة نائمة اقتلوها
بروفيسور عبد الستار قاسم
من علامات المراهقة الفكرية على الساحة العربية هو استعمال القول:
"الفتنة نائمة لعن الله موقظها." تستعمل الأنظمة العربية هذا القول
وعدد من المتنفذين الراغبين في المحافظة على وجودهم السياسي عند حدوث
أزمة سياسية مثل تقدم المعارضة أو خروج مظاهرات في الشوارع أو الجهر
علنا ببعض الخطايا التي يرتكبها حكام وقادة. استعملت قادة مُسقطين على
حركة فتح هذا القول كعنوان لبياناتهم التي ردوا فيها على اتهامات مشعل
غير المحددة حول متعاونين مع إسرائيل وأعداء الأمة. وسبق أن استعملوه
كلافتة ضخمة في مظاهرتهم المؤيدة للسلطة الفلسطينية ضد الموقعين على
بيان العشرين.
بعض الناس يظن أن هذا القول عبارة عن حديث نبوي شريف، ويظنون بالتالي
أنه مقدس ويجب أن نضعه على رؤوسنا، وبعضهم يظن أنه عبارة عن حكمة
مأثورة. الحقيقة أنه عبارة عن قول غبي تناقله الناس دون التمحيص في
محتواه الفكري المتناقض. لا يمكن أن يكون النبي عليه السلام قد نطق
بقول مثل هذا، ولا يمكن لحكيم، أو حتى شخص يتحلى بدرجة متوسطة من
الذكاء أن يتفوه به. هذا قول في أصله استغبائي ابتكره بعض المؤيدين
للسلطة الظالمة في عهود عربية سابقة، وهو من شأنه أن يبرر ظلم الحاكم
وعبثه وسوء صنيعه على اعتبار أن البديل هو الاقتتال الداخلي وسفك
الدماء. فما هو الأفضل: القبول بالظلم أم الاقتتال الداخلي؟ الجواب
بالطبع لدى القائل هو القبول بالظلم والاستسلام لإرادة الحاكم.
يقر القول بأن الفتنة موجودة على الرغم من السبات الذي هي فيه. المعنى
أن الظلم أو الاستعباد أو نهب الثروات أو الاعتداء على الناس قائم،
لكنه مستقر ولا ضرورة لتحريك التفكير به أو فضحه أو تحريض الناس ضده.
في الحالة الفلسطينية، سرقة الأموال قائمة وموجودة، والفاسدون الذين
نهبوا أموال الناس يرتعون، وأما العملاء والمتعاونون مع إسرائيل فعبارة
عن حقيقة قائمة ومنذ زمن، فلماذا فتح هذه الملفات؟ الفتنة قائمة
وموجودة، لكن اللعنة ليست على الذين يمارسونها أو صنعوها، وإنما على
الذين يتحدثون عنها.
سألت طلابي الجامعيين: من المفتن، اللص أم الذي يتحدث عن اللص؟ الذي
يستخدم منصبه لتحقيق أغراض شخصية، أم الذي يتحدث عن الفساد الإداري؟
أغلبهم أجابوا بأن الذي يتحدث هو المفتن. كانت إجاباتهم كالصاعقة إذ
جرّموا المنتقد ولم يجرموا الذي يسرق أموالهم. وكأن الاعتيادي هو أن
يكون المرء لصا أو فاسدا أو عميلا لقوى أجنبية، وغير الاعتيادي هو
التحدث بوضوح عن الفساد وظلم الناس. لا يتحمل الطلاب
تماما وزر هذه الإجابة الانهزامية التي لا تحمل في طياتها مبدأ دينيا
أو أخلاقيا، أو احتراما للذات، وإنما يتحملها المربون غير الفاضلين
الذين علموهم الخنوع والخضوع وتغييب الذات. لسان حالهم يقول إن الفتنة
جزء من حياتنا وما علينا إلا أن نعيش معها، وإذا حاولنا التخلص منها
فالعواقب قد تكون وخيمة، وعندها لا ينفع الندم.
إذا كانت الفتنة نائمة فليس من الحكمة أن أبتعد عنها، بل من الواجب أن
أتخلص منها، أن أقتلعها من جذورها وأقتلها. أما إن تركتها فمن المحتمل
أن تضرب مزيدا من الجذور فيتفاقم خطرها وتجرنا إلى المزيد من الأحزان
والآلام. فإذا كان هناك فساد وفاسدون، أو عمالة لإسرائيل ومتعاملون،
فإنه ليس من الحكمة أن نصمت وندير ظهورنا خشية الفتنة. الفتنة واقعة
وقائمة، والسكوت عنها عبارة عن جريمة نتحمل مسؤوليتها جميعا.
ماذا كان من الممكن أن يحل (لو) وقف الشعب الفلسطيني في وجه الفساد منذ
البداية، وقاوم المحسوبية واستغلال المناصب ونهب الأموال؟ بالتأكيد كان
سيحد من الظاهرة إن لم يكن قادرا على القضاء عليها. صمت الناس ولاذوا
يتحدثون عن الفساد في المجالس الخاصة، وجبنوا عن المواجهة، وكانت
النتيجة أن جميع الشعب قد دفع الثمن. كثيرون منا ساروا في طريق الفتنة
وشاركوا في الفساد من أجل تحقيق مصالحهم الخاصة، واكتشف الناس في
النهاية أن نيران الفساد قد دبت في رؤوسهم جميعا وأن سكوتهم قد وضع
الوطن والشعب في المزيد من الدمار والخطر.
كنا نرى الزعران والطخيخة يجوبون شوارعنا متمخترين مهددين مبتزين
منتهكين للممتلكات والحرمات. لم نصرخ بأعلى أصواتنا ولم نتظاهر أو
نعتصم، بل كثيرون كانوا يلوذون بالفرار ولا يهمسون خوفا، وكثيرون كانوا
يستنجدون بالزعران من أجل حل مشاكل خاصة أو الانتقام من منافسين أو
جيران محترمين. بدل أن نقتل الفساد أو نقتلع الفتنة، قمنا بتغذيتها حتى
تحول الفلتان الأمني إلى ظاهرة مرعبة تهدد الجميع. لم يسلم أي طرف أو
مؤسسة أو شخص من هذه الفتنة الملعونة. فماذا نعمل؟ هل نتحدث الآن ونصرخ
ونتخذ الإجراءات للتخلص منها، أم نتركها تنمو وتكبر حتى لا تبقي لنا
متسعا في هذا الوطن؟
أمير الفتنة لا يريد لفتنته أن تتلاشى لأن في ذلك مصلحته، وكذلك
السلطان الذي ينهب الأموال ويتمتع على حساب الأوطان والفقراء
والمساكين. تهمه دائما جاهزة ضد من يسميهم المشاغبين والغوغائيين
وعملاء سوريا وإيران الذين لا يريدون بالأمة الخير.
الأمم العظيمة لا تصبر على ضيم ولا تضحي بمستقبلها لأن الظالم مستعد
لعمل المجازر دفاعا عن فتنه. التضحيات من أجل وأد الفتنة قبل أن تستشري
من شأنها أن تنقذ حقوقا كثيرة من الانتهاك، ونفوسا غفيرة من الآلام
والأحزان وسفك الدماء. ومن ظن أنه بطبطته على الفتنة والمفتنين إنما
يقع في فتنة أكبر ستنتهي إلى نار تشتعل في رأسه.
|