خوري وريموندا وبازار النفاق السياسي

 

مع اقتراب موعد انتخابات رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية وترجيح فوز السيد أبي مازن، تشهد الساحة الفلسطينية تسابقاً محموماً من قبل بعض الرموز المنتفعة في عهد الرئيس الراحل أبو عمار للولوج إلى زعامة العهد الجديد من خلال الدخول في بازار من التزلف والنفاق السياسي

فبالأمس القريب كتب الدكتور رمزي خوري مدير عام مكتب الرئاسة في السلطة الوطنية الفلسطينية مقالاً نشرته صحيفة القدس المقدسية تحت عنوان "عرفات الرمز والشهيد الخالد" تناول في ثناياه الكثير من النقد للعهد السابق، وملقياً اللوم بالطبع على ولي نعمته الرئيس ياسر عرفات رحمه الله، وكأن السيد خوري يتنصل ويعلن براءته من هذه الأفعال براءة الذئب من دم يوسف. وقال خوري في مقاله " اتكلنا عليه وتواكلنا وحملناه مسؤولية كسلنا وإخفاقنا في إدارة أمورنا العامة والخاصة، وتهاونا في بناء مؤسسات رسمية وأهلية حديثة كفؤة وشفافة، وقصورنا وتقصيرنا في النهوض بمسؤولياتنا الوظيفية، وواجباتنا التخصصية، وإخفاقنا في بناء نقابات مهنية فاعلة، وحملناه كذلك مسؤولية تخلف خطابنا الإعلامي، ووزر جنوحنا وإسرافنا في استغلال النفوذ، وتسابقنا على الواقع والاستئثار بالصلاحيات دون الواجبات...الخ".

ومن الجدير بالذكر أن السيد خوري قد قام ضمن مسلسل نفاقه ومحاولة ركوب موجه العهد الجديد بتقديم استقالته في 22/12/2004 إلى السيد روحي فتوح _الرئيس المؤقت للسلطة الوطنية الفلسطينية_ من أجل التفرغ للحملة الانتخابية للسيد أبي مازن. ومن الواضح أن السيد خوري بات يدرك قبل غيره أن وضعه السابق أصبح على المحك، وأنه لم يعد كما كان محجة للكثير من المتزلفين والانتهازيين واللاهثين وراء النفوذ والسلطة والمال. ولسان حاله في مقاله واستقالته يقول إنه يريد أن يترجل من قطار قد توقف في محطته إلى غير رجعة ليلتحق بقطار ستحين بعد قليل إن لم تكن قد حانت بالفعل ساعة انطلاقه إلى الأمام.

ثم لم تلبث أن اتحفتنا السيدة ريموندا الطويل بمقال في صحيفة القدس تتغني و "تتمسح" ﺒ السيد أبي مازن لعلها بالطبع تحافظ على امتيازاتها السابقة في عهد الرئيس ياسر عرفات رحمه الله. فالصحفية ريموندا قد تمتعت برغد العيش بأموال منظمة التحرير الفلسطينية قبل أن تتمتع بها لاحقاً أيضاً كحماة للسيد الرئيس

وقد تم النشر في أكثر من موقع إعلامي عن الأموال الطائلة التي كانت تنفق على مكتبها الإعلامي. وقد كتبت السيدة ريموندا في مقالها المنشور في صحيفة القدس المقدسية بتاريخ 4 يناير 2005 تحت عنوان "محمود عباس أبو مازن ...كما عرفته" الكثير من عبارات الإطراء والمديح في كل فقرة تقريباً من فقرات المقال فأحياناً تقول: "كانت أسئلته (أي أبو مازن) تنم عن اهتمام ودراية وثقافة وعلم".

وفي موضع ثاني تقول: "وأدركت من دقة أسئلته، وعمقها وأبعادها أنني أمام إنسان مثقف، ومناضل من نوع متميز".

وفي موضع ثالث" كان التقائي بمحمود عباس، الذي وجدته ذهناً متفتحاً وعقلاً ناضجاً وفكراً إنسانياً ونضالياً مستنيراً". وفي موضع رابع "ووجدت محمود عباس رجل فكر وثقافة، من طراز مميز وسط مجموعة من الثائرين الأفذاذ". وهذا بالطبع غيض من فيض من عبارات الإطراء والمديح في المقال المذكور. واختتمت السيدة ريموندا مقالها بالقول: "وأني هنا، أؤكد أني لم أكسر الشفافية، ولا أقوم بدعاية انتخابية، فأنا أتأمل التاريخ واستقرأ الأحداث وأقوم بدعاية صادقة الفكر".

والذي يدعوا للتساؤل هنا لماذا لم تقرأ ولم تتأمل السيدة ريموندا التاريخ إلا بعد أن أصبح السيد أبو مازن قاب قوسين أو أدني من كرسي رئاسة السلطة الوطنية، و رجل المرحلة القادمة كما يقال. فكل ذلك جعلني أتأمل التاريخ أيضاً مثل السيدة ريموندا وأعود بخيالي وفكري إلى شعر عصر الجاهلية وصدر الإسلام، وما شمل من شعر المديح والإطراء سعياً للكسب ليس إلا. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا لم نسمع مقال الغزل والنفاق _ الذي حشدت فيه السيدة ريموندا كل قدراتها الصحفية والأدبية فخرج كما يبدو كأفضل مقال يكتب في المديح والإطراء في تاريخ الأدب الفلسطيني المعاصر_ هذا قبل سنة وبضع شهور عندما كان السيد أبو مازن ربما في حاجة إلى مثل هذا الإطراء في حقه بعد أن تم إجباره _ بعد وضع كافة العراقيل أمامه من قبل منافقي اليوم _ إلى تقديم استقالة حكومته بتاريخ 6/9/2003، والتي جاء بها "وهكذا أصبحت الحكومة دريئة سهلة لتصويب السهام المسمومة عليها وأصبحت إهانتها هدفاً بحد ذاته... وما دمتم مقتنعون بأنني كرازاي فلسطين، وأنني خنت الأمانة، ولم أكن على قدر المسئولية، فإنني أردها لكم لتتصرفوا بها". كما ورد في نص الخطاب الأخير للسيد أبي مازن للمجلس التشريعي، والذي تم نشره لاحقاً في الصحف وفي كتيب صغير تحت عنوان "بعضاً من الحقيقة" ووزع لاحقاً "من المؤسف جداً أن الذين قاموا بهذه الأعمال (رشق المجلس التشريعي بالحجارة لدي زيارة أبي مازن له) قاموا بها محرضين ومدفوعين للقيام بالهجوم على أشخاصنا بصفتها حكومة_ حكومة أبو مازن_ وبصفتنا أشخاصاً عاديين، ومع الأسف أيضاً أنهم حملوا شعارات تنم عن التخوين والعمالة والارتباط بالأجنبي".

إنني لم أكتب مقالي هذا دفاعاً عن السيد أبي مازن، فالقراء يعرفون أنني كتبت مقالاً قبل أقل من أسبوعين أبدي فيه تحفظي الشديد على نهجه واستراتيجيته السياسية. وحملته المسؤولية أو بعضاً منها فيما آلت إليه أوضاعنا بسبب اتفاقيات أوسلو المشئومة باعتباره راعي ومهندس وموقع هذه الاتفاقيات. ولكن للحقيقة فأن السيد أبي مازن بدا خلال فترة رئاسته القصيرة لمجلس الوزراء أنه رجل دولة ومؤسسات، وأنه سعى جاهداً إلى محاربة الفساد. ولديّ العديد من نسخ قرارات مجلس الوزراء التي صدرت في عهد حكومته، والتي تنم عن ذلك. فهناك على سبيل المثال لا الحصر قرار مجلس الوزراء رقم (8/2003) بشأن تنفيذ القوانين السارية ومتابعة تطبيقها كاملاً والعمل على سيادة القانون. وقرار مجلس الوزراء رقم (9/2003) بشأن خلو طرف كل وزير عند انتقاله أو خروجه من الوزارة. والقرار رقم (10/2003) بشأن تقديم الأدلة والبينات القانونية في أي قضية فساد أو استغلال الوظيفة أو أي قول أو فعل أو تصرف ذو طابع جزائي مخالف للقوانين والأنظمة السارية المفعول. وقرار مجلس الوزراء رقم (28/2003) بشأن مرور الأموال القادمة من الخارج عبر وزارة المالية وإخراجها منها لا يكون إلا بقانون. وقرار رقم (29/ 2003) بحظر جمع الوزراء والموظفين بين وظيفتهم وبين أي عمل آخر يؤدونه بأنفسهم أو بالواسطة.

ويبدو أن هذه الشخصيات قد بدأت تدرك أن هناك مرحلة جديدة قادمة، وأن هذه المرحلة ربما ستتجه اتجاها مغايراً لأسلوب إدارة الرئيس أبو عمار. وأن هناك اتجاهاً واضحاً لدى السيد أبي مازن نحو مأسسة عمل السلطة الوطنية الفلسطينية، وبالتالي السعي قدماً نحو إدارة أكثر شفافية في النواحي الإدارية والمالية. ولذلك أرادت هذه الشخصيات أن تحافظ على مكانها وامتيازاتها السابقة التي يتهددها الزوال والاندثار على اعتبار أن لكل عهد رجاله. وتحاول هذه الشخصيات من خلال محاولات التقرب من أبي مازن أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء وامتطاء صهوة القيادة الجديدة. فلجئوا إلى اللغة الوحيدة التي أتقنوها ويتقنونها وهي لغة التزلف والرياء والنفاق.

 

د. خالد محمد صافي

أستاذ تاريخ العرب الحديث والمعاصر- جامعة الأقصى- غزة

khsafi@hotmail.com

  1/8/2005

 

الى صفحة مقالات وآراء

الى الصفحة السابقة

هذا الموقع لايمثل اي مجموعة أو حزب أو حركة إنما يهتم بقضايا الشعب الفلسطيني، وما يعرض لايعبر بالضرورة عن رأي الموقع